لباب النقول في أسباب النزول [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المقبولين.

تقدم الكلام عن أسباب النزول، وذكرنا أن هذا العلم مطلوب من المسلم الإحاطة به من أجل أن تتوثق صلته بالقرآن، خاصة في شهر القرآن، وأن معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، ويعين على معرفة الحكمة من التشريع، سواء أكان بالتحليل أم بالتحريم، كما أن معرفة سبب النزول للآية يثبت القرآن، ويجعله مستقراً في الأذهان، ويرفع توهم الحصر، وعن طريق معرفة سبب النزول نعرف اسم من نزلت أو في شأنه الآية، وكذلك نعرف بأن هذا السبب يدخل دخولاً أولياً تحت معنى الآية.

توقف الكلام بنا عند تعداد الوقائع في آية واحدة؛ لأنه قد يقال: سبب نزول الآية كذا ويُذكر سبب، أو نزلت هذه الآية في شأن كذا وكذا ويذكر سبب آخر، فماذا نصنع في تلك الحال؟ نقول: إذا كانت الروايتان صحيحتين ولا تعارض بينهما فيحملا على تعدد السبب.

فمثلاً: آية اللعان، لو أن إنساناً اتهم زوجته -والعياذ بالله- بالزنا، فلا يطلب منه أن يأتي بأربعة شهود، وإنما يحلف أربع مرات أن هذه المرأة قد زنت، وأنه رآها تزني، وإذا كان هناك حمل يحلف بأن هذا الحمل ليس منه، وفي المرة الخامسة يقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فلو أن الزوجة اعترفت بالزنا، ترجم، ولو أنها نفت فإنها تطالب بأن تحلف أربع مرات بأنها ما زنت، وأن هذا الرجل قد كذب عليها، وأن هذا الحمل الذي في بطنها منه، وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

هذا التشريع سببه: أن هلال بن أمية الواقفي رضي الله عنه اتهم زوجته بالزنا، وفي رواية أخرى أن الذي اتهم امرأته بالزنا هو: عويمر العجلاني رضي الله عنه نقول: لا تعارض؛ فإنه يمكن أن يكون هذا الصحابي قد جاء، ثم جاء آخر بعده؛ فشكا من الواقعة نفسها؛ فنزلت الآية في السببين معاً، أي: يحمل ذلك على تعدد الواقعة.

وأحياناً يكون هناك روايتان لكن يمكن أن نرجح إحداهما على الأخرى، مثال ذلك: ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على عسيب، فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: لو سألتموه عن الروح واليهود دائماً يحاولون طرح الأسئلة لمحاولة إحراج الرسول صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ورفع رأسه، يقول ابن مسعود : فعرفت أنه يوحى إليه، فقال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]).

وهذه القصة حصلت في المدينة؛ لأن مكة ليس فيها يهود، لكن جاء في سنن الترمذي عن عبد الله بن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل -يعنون: النبي صلى الله عليه وسلم- فقال لهم اليهود: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ[الإسراء:85]، هذه الحادثة الثانية رواها عبد الله بن عباس ، ويدل على أنها وقعت في مكة، وأن وفداً من قريش ذهبوا إلى اليهود في المدينة، وعرف منهم هذا السؤال، ورجعوا إلى الرسول في مكة، وأن السائلين هم المشركون، فلو أردنا أن نرجح بين الروايتين فسنرجح الرواية الأولى؛ لأن راويها ابن مسعود وهو أقدم إسلاماً من ابن عباس ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وعمر عبد الله بن عباس خمس عشرة سنة؛ فإنه سئل: كم كان عمرك حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: توفي وأنا غلام ختين. يعني: مختون، وكانوا لا يختنون الغلام حتى يبلغ، وفي بعض الروايات: أنه كان عمره ثلاثة عشر عاماً، وعلى كلا التقديرين فلم يكن ابن عباس حاضراً القصة، والحاضر هو ابن مسعود ؛ فلذلك نرجح روايته على رواية ابن عباس رضي الله عن الجميع.

سبب نزول قوله تعالى ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به )

هناك أحوال تستوي فيها الروايتان في الصحة، ويكون نزول الآية عليهما معاً بعيداً؛ لتباعد الزمان، مثال ذلك: ما رواه البيهقي عن أبي هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة وقد مثل المشركون به) وكان ذلك في أحد؛ فإن المشركين جدعوا أنفه، وقطعوا أذنه، وبقروا بطنه، واستخرجوا كبده، فالرسول صلى الله عليه وسلم وقف على عمه وهو في تلك الحال فقال: (لأمثلن بسبعين منهم مكانك. فأنزل الله عز وجل: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[النحل:126])، فهذه الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه فيها أن الآية نزلت يوم أحد، وهناك رواية أخرى رواها الترمذي و الحاكم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة ، فمثلوا به، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً كهذا لنربين عليهم) يعني: لنزيدن، من الربا، والربا هو: الزيادة، ومنه قول الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى[فصلت:39] يعني: زادت الأرض، فهؤلاء الجماعة من الأنصار قالوا: (لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ))[النحل:126])، فالرواية الأولى تذكر أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد، وغزوة أحد كانت في السنة الثالثة، والرواية الثانية رواية أبي تذكر أن هذه الآية نزلت يوم الفتح، والفتح كان في السنة الثامنة، فلا نستطيع أن نجمع بين الروايتين، فما عندنا إلا حل من اثنين: الأول: إما أن نحملها على تكرار النزول، وأنها نزلت يوم أحد ثم نزلت يوم الفتح؛ لأن هناك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لأمثلن بسبعين مكانك)، ويوم الفتح حدث الشيء نفسه من الأنصار رضي الله عنهم، فقد كانوا مغتاظين على أهل مكة؛ لأنهم آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنصار ما نسوا يوم أحد، حيث شجت جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته السفلية، ودخلت حديدتان في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، حتى أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما خلع واحدة منهما ندرت معها ثنيته، فلذا قال الأنصار هذا الكلام، ولذلك سعد بن عبادة لما أخذ الراية قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، لا قريش بعد اليوم، فلم يسرها في نفسه، بل أعلنها قائلاً: اليوم يوم الملحمة، يعني حرباً طاحنة، اليوم تستحل الحرمة، لا شيء اسمه حرم، ولا مكة، اليوم فقط دم، لا قريش بعد اليوم!!

فالرسول صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا قال: (اليوم تعظم الحرمة، ثم أخذ الراية من سعد بن عبادة وأعطاها لولده قيس بن سعد بن عبادة )، وهذا تصرف في غاية الحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل المحارب قد يكون فيه نوع من الرهق والاندفاع، بحكم أنه يملك السلاح، وعنده القوة، فيقع منه ما لا ينبغي؛ لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها منه؛ لأن مثل هذا نفسيته غير مستقرة في هذا الوقت، ثم لكي لا ينفخ الشيطان في الأنصار، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراية من سيدهم وأعطاها لولده، أخذها من أنصاري ووضعها في أنصاري آخر، أخذها من سيد الأنصار، وأعطاها لولد سيد الأنصار كأنه ما تغير شيء، لكن قيس بن سعد فهم الدرس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يهز حرمة مكة ، بل يريد أن يفتح مكة بأقل قدر من الدماء.

ولذلك نقول: هذه الآية تحمل على تكرار نزولها، كما قال الزركشي رحمه الله في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه، وخوف نسيانه، وهناك أمثلة، فقالوا: الفاتحة نزلت مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة، وقالوا: آية الروح نزلت مرتين، مرة في مكة جواباً على سؤال المشركين، ومرة في المدينة جواباً على سؤال اليهود، لكن بعض العلماء أنكر مسألة تكرار النزول، ولم يبق أمامه إلا الحل الثاني وهو العمل بإحدى الروايتين وإهمال الأخرى.

هناك أحوال تستوي فيها الروايتان في الصحة، ويكون نزول الآية عليهما معاً بعيداً؛ لتباعد الزمان، مثال ذلك: ما رواه البيهقي عن أبي هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة وقد مثل المشركون به) وكان ذلك في أحد؛ فإن المشركين جدعوا أنفه، وقطعوا أذنه، وبقروا بطنه، واستخرجوا كبده، فالرسول صلى الله عليه وسلم وقف على عمه وهو في تلك الحال فقال: (لأمثلن بسبعين منهم مكانك. فأنزل الله عز وجل: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[النحل:126])، فهذه الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه فيها أن الآية نزلت يوم أحد، وهناك رواية أخرى رواها الترمذي و الحاكم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة ، فمثلوا به، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً كهذا لنربين عليهم) يعني: لنزيدن، من الربا، والربا هو: الزيادة، ومنه قول الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى[فصلت:39] يعني: زادت الأرض، فهؤلاء الجماعة من الأنصار قالوا: (لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ))[النحل:126])، فالرواية الأولى تذكر أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد، وغزوة أحد كانت في السنة الثالثة، والرواية الثانية رواية أبي تذكر أن هذه الآية نزلت يوم الفتح، والفتح كان في السنة الثامنة، فلا نستطيع أن نجمع بين الروايتين، فما عندنا إلا حل من اثنين: الأول: إما أن نحملها على تكرار النزول، وأنها نزلت يوم أحد ثم نزلت يوم الفتح؛ لأن هناك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لأمثلن بسبعين مكانك)، ويوم الفتح حدث الشيء نفسه من الأنصار رضي الله عنهم، فقد كانوا مغتاظين على أهل مكة؛ لأنهم آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنصار ما نسوا يوم أحد، حيث شجت جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته السفلية، ودخلت حديدتان في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، حتى أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما خلع واحدة منهما ندرت معها ثنيته، فلذا قال الأنصار هذا الكلام، ولذلك سعد بن عبادة لما أخذ الراية قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، لا قريش بعد اليوم، فلم يسرها في نفسه، بل أعلنها قائلاً: اليوم يوم الملحمة، يعني حرباً طاحنة، اليوم تستحل الحرمة، لا شيء اسمه حرم، ولا مكة، اليوم فقط دم، لا قريش بعد اليوم!!

فالرسول صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا قال: (اليوم تعظم الحرمة، ثم أخذ الراية من سعد بن عبادة وأعطاها لولده قيس بن سعد بن عبادة )، وهذا تصرف في غاية الحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل المحارب قد يكون فيه نوع من الرهق والاندفاع، بحكم أنه يملك السلاح، وعنده القوة، فيقع منه ما لا ينبغي؛ لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها منه؛ لأن مثل هذا نفسيته غير مستقرة في هذا الوقت، ثم لكي لا ينفخ الشيطان في الأنصار، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراية من سيدهم وأعطاها لولده، أخذها من أنصاري ووضعها في أنصاري آخر، أخذها من سيد الأنصار، وأعطاها لولد سيد الأنصار كأنه ما تغير شيء، لكن قيس بن سعد فهم الدرس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يهز حرمة مكة ، بل يريد أن يفتح مكة بأقل قدر من الدماء.

ولذلك نقول: هذه الآية تحمل على تكرار نزولها، كما قال الزركشي رحمه الله في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه، وخوف نسيانه، وهناك أمثلة، فقالوا: الفاتحة نزلت مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة، وقالوا: آية الروح نزلت مرتين، مرة في مكة جواباً على سؤال المشركين، ومرة في المدينة جواباً على سؤال اليهود، لكن بعض العلماء أنكر مسألة تكرار النزول، ولم يبق أمامه إلا الحل الثاني وهو العمل بإحدى الروايتين وإهمال الأخرى.

أيضاًً قد تتعدد الآيات والسبب واحد.

ومثال سبب واحد نزلت فيه آيتان ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت ، وزيد بن ثابت كاتب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه ما كان يكتب ولا يقرأ عليه الصلاة والسلام وإنما ينزل عليه جبريل بالوحي وبحكمة الله عز وجل يتم الحفظ، كما قال سبحانه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ[القيامة:16-17] يعني: قراءته، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[القيامة:19]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما كانت تنزل عليه الآية أو الآيات، يدعو واحداً من كتاب الوحي كالخلفاء الأربعة، كـأبي بكر أو عمر ، أو عثمان ، أو علي ، أو زيد بن ثابت ، أو ابن مسعود ، أو معاوية بن أبي سفيان أو غيرهم ليكتب له، وبعضهم أحصى كتاب الوحي فبلغ بهم بضعاً وأربعين نفساً، فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم ويملي عليه، ومنها هذه الآية: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ[النساء:95]، فجاء ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى فقال: يا رسول الله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فأنزل الله عز وجل: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ))، فصارت الآية: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ[النساء:95].

هناك آية أخرى نزلت بالسبب نفسه، يقول زيد بن ثابت : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: يا رسول الله! كيف لي وأنا أعمى؟ يعني: كيف أجاهد وأنا أعمى؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)[التوبة:91]، فنزل قول الله عز وجل: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ))، هذه في سورة النساء، وقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ))، في سورة التوبة، آيتان كلاهما نزلتا بسبب مجيء الأعمى، سواء كان ابن أم مكتوم أو غيره، فقد شكا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع الجهاد، وممكن أن يكون الأعمى في المرة الثانية غير ابن أم مكتوم كالذي ذكر في حديث التوسل المعروف.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء بشيء في الهجرة -يعني: أم سلمة رضي الله عنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: الآيات التي نزلت في شأن الهجرة كلها في شأن الرجال والنساء لم ينزل فيهن شيء- فأنزل الله: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ[آل عمران:195]) أي: الرجال والنساء بعضهم من بعض، يعني: نحن الرجال من النساء، باعتبار أننا جميعاً خرجنا من أرحام أمهاتنا، وقد يكون المعنى: بعضكم من بعض: النساء من الرجال، باعتبار الخلقة الأولى أن حواء خلقت من ضلع آدم.

فهذه الآية نزلت بسبب سؤال أم سلمه .

وأخرج الحاكم عن أم سلمه قالت: يا رسول الله! تذكر الرجال ولا تذكر النساء. يعني: آيات القرآن كلها في الرجال، وليس هناك شيء في النساء، فأنزل الله عز وجل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[الأحزاب:35]، فهنا سألت أم سلمة ، فنزل بسبب سؤالها آيتان، وفي كلتا الآيتين ذكر للنساء بجوار ذكر الرجال.

قضية الرجال والنساء حسمها الإسلام ففي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[النحل:97] أي: أن قضية الذكورة والأنوثة كما يقول أهل العلم: وصف طردي لا تأثير له في الحكم مع أن هناك أشياء مخصوصة خص الله بها الرجال أو النساء من أجل موافقة الخِلقة والطبيعة، لكن الحكم العام: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى[آل عمران:36]، وهذا الذي يوافق الفطرة والواقع والشرع، أما الناس الذين يريدون أن يجعلوا الذكر كالأنثى، والأنثى كالذكر في كل شيء فإن هؤلاء يخالفون الواقع والفطرة والشرع، لأن الترتيب الجسماني: ليس الذكر كالأنثى، والاستعداد الفطري: ليس الذكر كالأنثى، والقوى العقلية والمواهب الكسبية: ليس الذكر كالأنثى، ولذلك لما سمع رجل من عامة الناس إحدى النساء المسترجلات تتكلم أن المرأة نصف المجتمع ولا بد أن تدخل المرأة مع الرجل، وتزاحم الرجال، قال لها العامي: هذا الكلام صحيح لَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ))، قالت له: وكيف؟ قال لها: أتصارعينني؟ -هذا بفهمه- طبعاً، فسكتت وبهتت، وهو قال كلاماً صحيحاً؛ لأنه ليس الاستعداد واحداً، ليست قوة التفكير واحدة، ليس التذكر واحداً، ليست العاطفة واحدة، ميز الله الرجال بأشياء وميز النساء بأشياء، هذه قضية معلومة، ولعلها ستأتي معنا في آية الدين في قول الله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا .....[البقرة:282] أو في قراءة حمزة -وهو من القراء السبعة-: إِنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى[البقرة:282]؛ لأن المرأة في الغالب اهتمامها بأمور البيت، والمطبخ، والملابس، والتجميل، ورعاية العيال، وليس لها اهتمام في الغالب بالأمور المالية، وضبط الحسابات، والتفكير في المشروعات، وهكذا، ولا يعترض أحد فيقول لي: أنا أعرف امرأة تعمل في العمارات، امرأة فتحت مكتباً تابعاً للعقارات تعمل فيه، وآخر يقول: كذا كذا، نقول: هذا من الشاذ النادر، والشاذ لا حكم له.

كما أنه قد يوجد من الرجال -والعياذ بالله- من هو مستأنث، بحيث إن زوجته قوامة عليه، تحشر أنفها في كل شيء، تقول: اقعد فيقعد، قم فيقوم، نقول: هذا شاذ وإلا فالأصل بالفطرة أن الرجل لا يقبل مثل هذا، سواء أكان عنده دين أم ليس عنده دين.

وفي الختام نسأل الله أن يجعل هذه الكلمات نافعة لي ولكم، وأن يجعلها لنا جميعاً في صحائف الحسنات، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.