شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [17]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [ وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط، وإن نسيه سجد إن قرب زمنه، ومن سها مراراً كفاه سجدتان.

باب صلاة التطوع: آكدها كسوف، ثم استسقاء، ثم تراويح، ثم وتر يفعل بين العشاء والفجر، وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة مثنى مثنى، ويوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصل التاسعة ويتشهد ويسلم.

وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين، يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية الكافرون، وفي الثالثة الإخلاص، ويقنت فيها بعد الركوع فيقول: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك, أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد ويمسح وجهه بيديه].

تقدم لنا جملة من أحكام سجود السهو، وتكلمنا عن زيادة الأقوال، وأنها أربعة أنواع، وكذلك تكلمنا عن السبب الثاني من أسباب السهو وهو النقص، وذكرنا أن النقص إما أن يكون نقصاً لركن من الأركان، وإما أن يكون نقصاً لواجب من الواجبات، وإما أن يكون نقصاً لمستحب من المستحبات، وذكرنا أن نقص الأركان أنواع، وكذلك أيضاً نقص الواجبات أنواع، وأما نقص المستحبات فتقدم في باب صفة الصلاة، وأن المؤلف رحمه الله يرى أن ترك المستحب يباح له السجود، وذكرنا الرأي الثاني أنه إن كان من عادته أنه يأتي به فإن السجود مشروع، وإن كان من عادته أنه لا يأتي به فإن السجود غير مشروع.

وكذلك أيضاً تكلمنا عن السبب الثالث من أسباب سجود السهو وهو الشك، وأن المؤلف يرى أنه مع الشك يأخذ بالأقل، فيبني على اليقين، وذكرنا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، وتكلم المؤلف رحمه الله على ما إذا شك في زيادة من الزيادات، أو شك في ترك واجب من الواجبات إلى آخره.

قال المؤلف رحمه الله: (وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط).

سجود السهو إن كان الأفضل أن يؤتى به قبل السلام فإن الصلاة تبطل بتركه، وإن كان لك أن تأتي به قبل السلام، ولك أن تأتي به بعد السلام، ولا يفضل أن تأتي به قبل السلام، فلا تبطل الصلاة بتركه.

وقبل أن نبين ما يتعلق بسجود السهو هل تبطل الصلاة بتركه أو لا تبطل الصلاة بتركه؟ نبين المذهب فيما يتعلق بمحل سجود السهو، ومحل سجود السهو قبل السلام وبعد السلام، وعلى هذا له حالتان:

الحالة الأولى: حالة جواز، فيجوز سجود السهو قبل السلام وبعد السلام مطلقاً سواء كان لزيادة أو نقص أو شك.

الحالة الثانية: حالة أفضلية فقط وليست حالة وجوب، فالأفضل أن تسجد بعد السلام إذا سلمت قبل تمام الصلاة، وما عدا ذلك الأفضل أن تسجد قبل السلام.

وبعض الحنابلة يضيف حالتين، لكن على المذهب إذا سلمت قبل تمام الصلاة فالأفضل أن تسجد بعد السلام، وما عدا ذلك فالأفضل أن تسجد قبل السلام.

فإذا تركت سجود السهو الذي أفضليته قبل السلام متعمداً بطلت صلاتك، مثال ذلك: إنسان نسي أن يقول: سبحان ربي الأعلى, فهنا يجوز أن يسجد قبل السلام وبعد السلام، لكن الأفضل أن يسجد قبل السلام فإذا ترك سجود السهو متعمداً بطلت صلاته، ما دام أن هذا السجود أفضليته قبل السلام وتركه متعمداً.

فإذا سلم من صلاة المغرب من ركعتين ثم نُبه وأتى بالركعة الثالثة فسجود السهو هنا يجوز قبل السلام وبعد السلام، لكن الأفضل أن تسجد بعد السلام، فلو تركته متعمداً لا تبطل الصلاة، ولماذا فرق المؤلف رحمه الله بين السجود الذي أفضليته قبل السلام فتركه عمداً يبطل الصلاة، وبين السجود الذي أفضليته بعد السلام فتركه عمداً لا يبطل الصلاة؟

الفرق بينهما أن هذا واجب في الصلاة، وهذا واجب للصلاة، فالذي هو واجب في الصلاة عمده يبطل الصلاة، مثال ذلك: تسبيحة الركوع واجبة في الصلاة، فإذا تركتها عمداً بطلت الصلاة، قول: رب اغفر لي، هذا واجب في الصلاة، التشهد الأول هذا واجب في الصلاة، فإذا تركته متعمداً بطلت صلاتك، لكن الواجب للصلاة خارج عن الصلاة، فتركه عمداً لا يبطل الصلاة، الأذان واجب للصلاة وليس واجباً في الصلاة، والإقامة واجبة للصلاة وليست واجبة في الصلاة، والجماعة واجبة للصلاة وليست واجبة في الصلاة.

ومثله أيضاً: سجود السهو الذي يكون بعد السلام فهو واجب للصلاة وليس واجباً في الصلاة، فترك هذه الأشياء عمداً لا يبطل الصلاة.

فتبين لنا على كلام المؤلف رحمه الله أن السجود الذي أفضليته قبل السلام تركه عمداً يبطل الصلاة, والسجود الذي أفضليته بعد السلام تركه عمداً لا يبطل الصلاة؛ لأن الفرق بينهما أن هذا واجب في الصلاة، وهذا واجب للصلاة.

نفهم مما تقدم أن محل السجود على المذهب فيه حالة اختيار وجواز، وحالة أفضلية، فيجوز لك أن تسجد قبل السلام وأن تسجد بعد السلام أنت بالخيار، لكن الأفضل أن تسجد قبل السلام إلا في حالة واحدة وهي ما إذا سلمت قبل تمام الصلاة فإذا سلمت قبل تمام الصلاة فالأفضل أن تسجد بعد السلام، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

الرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله أن سجود السهو يكون قبل السلام، وأبو حنيفة يقول: بعد السلام، والإمام مالك رحمه الله يقول: إن كان عن زيادة فبعد السلام، وإن كان عن نقص فقبل السلام.

واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجب قبل السلام في حالتين، وبعد السلام في حالتين، فالحالتان اللتان يجب فيهما السجود قبل السلام:

الحالة الأولى: إذا كان السهو عن نقص، فإذا كان السهو عن نقص فإنه يجب عليه أن يسجد قبل السلام.

الحالة الثانية: إذا كان السهو عن شك ولم يترجح له شيء فإنه يأخذ بالأقل، ويسجد للسهو قبل السلام.

والحالتان اللتان يجب فيهما السجود بعد السلام:

الحالة الأولى: إذا كان السهو عن زيادة.

الحالة الثانية: إذا كان السهو عن شك وترجح له أحد الأمرين فإنه يعمل بالراجح ويسجد للسهو بعد السلام، هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الذي تجتمع عليه الأدلة، وهو الأقرب.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن نسيه سجد إن قرب زمنه).

يعني: إذا كان سجود السهو قبل السلام ونسيه ثم سلم فيقول المؤلف رحمه الله: يسجد إن قرب الزمن، يعني: إذا لم يكن هناك فاصل طويل عرفاً، فإن كان هناك فاصل طويل عرفاً سقط، وكذلك أيضاً إذا كان السجود بعد السلام ونسي أن يسجد، فنقول: إن طال الفاصل سقط، وإن لم يطل الفاصل فإنه يأتي به، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يسجد ولو طال الفاصل، وقد ورد في ذلك حديث في أبي داود لكنه ضعيف، وعلى هذا نقول: الراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أنه إذا طال الفصل فإنه يسقط، سواء كان السجود قبل السلام أو كان بعد السلام، أما إذا لم يطل الفصل فإنه يأتي به.

قال المؤلف رحمه الله: (ومن سها مراراً كفاه سجدتان).

لو أنه نقص في صلاته وزاد وشك أو نقص مرتين، وزاد مرة، وشك مرة إلى آخره، فإنه يكفيه سجدتان، وعلى هذا نقول بتداخل سجود السهو، وإن اجتمع عنده سهوان أحدهما قبل السلام والآخر بعد السلام فإنه يغلب ما كان قبل السلام.

قال المؤلف رحمه الله: (باب صلاة التطوع).

باب مضاف وصلاة مضاف إليه، وصلاة مضاف والتطوع مضاف إليه، وهذا من إضافة الشيء إلى نوعه، يعني: الصلاة التي نوعها تطوع، فالصلاة جنس تحتها أنواع، منها ما هو تطوع، ومنها ما هو فرض عين، ومنها ما هو فرض كفاية فالمراد بهنا بصلاة التطوع: الصلاة التي نوعها أنها تطوع غير واجبة.

والطوع في اللغة: نقيض الإكراه، وصلاة التطوع هي الصلاة غير الواجبة، وصلاة التطوع هي الجابر الثالث من جوابر الصلاة، وقد سبق أن بينا أن الصلاة لها ثلاثة جوابر.

قال المؤلف رحمه الله: (آكدها كسوف، ثم استسقاء).

آكد صلاة التطوع الكسوف، ثم بعد الكسوف صلاة الاستسقاء، أما الكسوف فسيأتينا أنها متأكدة؛ لأن كثيراً من العلماء يرى أنها واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وخرج فزعاً يجر رداءه، فصلاة الكسوف صلاة إذا قلنا بأنها ليست واجبة فإنها آكد السنن، ثم بعدها صلاة الاستسقاء، وتأتي في المرتبة الثانية؛ لأنها لرفع الحاجة، فهي متعلقة بحاجة الناس، فالناس بحاجة إلى أن يسقوا، ففيها الافتقار والذل إلى الله عز وجل برفع ما حل بهم من حاجة.

قال المؤلف رحمه الله: (ثم تراويح، ثم وتر).

قدم التراويح على الوتر؛ لأن صلاة التراويح تشرع لها الجماعة، ثم بعد ذلك الوتر قبل السنن الرواتب؛ لأن الوتر من العلماء من يرى وجوبه كـأبي حنيفة كما سيأتينا إن شاء الله، فالمؤلف رحمه الله يرى أن صلوات التطوعات بالنسبة للآكدية آكدها الكسوف لما ذكرنا من الدليل، ثم الاستسقاء؛ لأنها لرفع الحاجة، ثم التراويح؛ لأنه يشرع الاجتماع لها، ثم بعد ذلك الوتر؛ لأن من العلماء من يرى وجوبها، ثم بعد ذلك السنن الرواتب.

وهذا الترتيب هو الذي ذكره المؤلف رحمه الله تعالى، والأقرب في ذلك أن ينظر إلى الدليل الشرعي، أما كون صلاة الكسوف تأتي في المرتبة الأولى فهذا ظاهر؛ لأنه كما ذكرنا من العلماء من يرى وجوبها، وأن القول بالوجوب قول قوي، ثم بعد صلاة الكسوف تأتي صلاة الوتر؛ لأن صلاة الوتر من الأئمة من يرى وجوبها، ووردت فيها أحاديث كثيرة، فهي آكد من صلاة الاستسقاء، فالصحيح أن الوتر يأتي في المرتبة الثانية.

وسيأتينا أن أبا حنيفة رحمه الله يرى أن صلاة الوتر واجبة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أن الوتر واجب على من يقوم الليل، ثم بعد الوتر تأتي صلاة الاستسقاء لما تقدم من أن صلاة الاستسقاء افتقار لرفع حاجة، ثم بعد ذلك تأتي صلاة التراويح، فيكون الترتيب على النحو التالي: الكسوف، ثم الوتر، ثم صلاة الاستسقاء، ثم التراويح، ثم السنن الراتبة.

يتعلق بصلاة الوتر عدة مباحث:

حكم صلاة الوتر

قال المؤلف رحمه الله: (يفعل بين العشاء والفجر).

الوتر تحته مباحث:

المبحث الأول: تعريف صلاة الوتر، صلاة الوتر: اسم للركعة الواحدة، أو الخمس، أو السبع، أو التسع إذا كانت متصلة، وقول المؤلف رحمه الله في صلاة التطوع ثم وتر، يؤخذ من ذلك أن الوتر ليس واجباً، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى، واستدلوا بأدلة كثيرة من ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: ( فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة )، فلو كان الوتر واجباً لكانت الصلوات الواجبة في اليوم والليلة ست صلوات، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خمس صلوات في اليوم والليلة ).

ومثله أيضاً حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه في قصة الرجل من أهل نجد الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام (فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يجب عليه خمس صلوات في اليوم والليلة) وهذا الحديث في الصحيحين، وكذلك أيضاً هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، علي رضي الله تعالى عنه يقول: ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة، وورد عن عبادة رضي الله تعالى عنه: الوتر أمر حسن وليس بواجب.

وعند أبي حنيفة أن الوتر واجب؛ واستدلوا على ذلك بحديث أبي أيوب : ( الوتر حق ) ويجاب عن ذلك بأن نقول: إن ثبت هذا الحديث -ففيه كلام على ثبوته- وسلمنا بثبوته فالمراد بقوله: حق تأكد السنية.

وأما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيقول: من يقوم الليل فإنه يجب عليه أن يوتر؛ ويستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وتر يحب الوتر, فأوتروا يا أهل القرآن )، وأهل القرآن لا شك أنهم سيقومون الليل ويتهجدون بالقرآن.

وقت صلاة الوتر

المبحث الثاني: أن وقت الوتر من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر؛ ويدل لذلك أحاديث كثيرة من ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر إحدى عشرة ركعة )، وهذا ظاهر في تحديد وقت الوتر، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم خلافاً للمالكية، فإنهم يقولون بأن له وقت اختيار ووقت ضرورة، فوقت الاختيار إلى طلوع الفجر، ووقت الضرورة إلى انتهاء صلاة الصبح؛ ويستدلون على ذلك بورود الوتر عن طائفة من السلف بعد طلوع الفجر.

لكن مع ذلك السنة صريحة بأن صلاة الليل تنتهي بطلوع الفجر، وإذا طلع الفجر ذهب الليل وذهبت صلاة الليل، فالصواب في ذلك أن الوتر ينتهي بطلوع الفجر، وما بعد طلوع الفجر -كما سيأتينا إن شاء الله- هو قضاء الوتر، وسيأتينا إن شاء الله متى يقضى الوتر؟

وقول المؤلف رحمه الله: يفعل بين العشاء والفجر، ظاهره سواء فعلت العشاء في وقتها، أو فعلت في وقت المغرب تقديماً، يعني: سواء صلى العشاء في وقتها، أو صلى العشاء في وقت المغرب تقديماً كالمسافر مثلاً، أو إذا حصلت أمطار أو نحو ذلك وجمعت صلاة العشاء مع صلاة المغرب فإنه يصلي، فالعبرة بفعل الصلاة وليس بوقتها، وهذا مذهب أحمد والشافعي خلافاً لما ذهب إليه الإمام مالك وأبو حنيفة: أنه لا بد من دخول وقت العشاء بمغيب الشفق الأحمر.

والصواب في ذلك: أن الإنسان إذا جمع فله أن يوتر، فلو كان مسافراً ثم صلى المغرب، ثم صلى العشاء، فإن له أن يوتر؛ لأن وقت العشاء قد دخل لظاهر حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( كان يصلي ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر ).

فوقت الأداء والجواز هو ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، والأفضل أن يوتر المسلم أول الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك أبا هريرة وأبا الدرداء وأبا ذر وقتادة بن ملحان كلهم أوصاهم بأن يوتروا قبل أن يناموا؛ ولأن هذا أحوط للمسلم، فإذا كان الإنسان يثق من نفسه أنه سيقوم آخر الليل فالأفضل أن يؤخر وتره إلى آخر الليل؛ لحديث جابر في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من طمع أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخره, فإن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة، ومن لم يطمع أن يقوم من آخر الليل فليوتر أوله )، فالأفضل للإنسان أن يحتاط وأن يوتر أول الليل قبل أن ينام، لكن إذا كان يطمع أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخر الليل؛ لأن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن الله عز وجل ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، من يدعوني فأستجيب له، وذلك كل ليلة حتى ينفجر الفجر )، وسيأتينا إن شاء الله في صلاة الليل ( أن أفضل صلاة الليل صلاة داود عليه الصلاة والسلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه )، يعني: تقسم الليل إلى ستة أجزاء، تنام السدس الأول والسدس الثاني والسدس الثالث، وتقوم السدس الرابع والخامس، وتنام السدس السادس، وعلى هذا تكون أدركت الرب في السدس الخامس؛ لأن نزول الرب في الثلث الأخير يعني: في السدس الخامس والسادس، فتكون أدركت نزول الرب في السدس الخامس، وأما في السدس السادس فإنك تنام لكي تتقوى لصلاة الفجر وما بعد صلاة الفجر؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ( ما ألفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر عندي إلا نائماً )، في السحر أي: آخر الليل، تقول: ما أجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الليل إلا وهو نائم، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام في السدس الأخير من الليل.

أقل الوتر وأكثره

قال المؤلف رحمه الله: (وأقله ركعة).

هذا المبحث الثالث: أقل الوتر وأكثره. أقل الوتر ركعة؛ ويدل لذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الوتر ركعة من آخر الليل )، وقال العلماء رحمهم الله: لا يكره أن يوتر بها، وقد ورد ذلك عن عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أوتروا بركعة واحدة.

قال المؤلف رحمه الله: (وأكثره إحدى عشرة).

وقد جاء في حديث عائشة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة، تقول رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر منهن بخمس )، وفي حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى نفخ ).

وقوله: ثم نام يدل لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام آخر الليل، وكما هي صلاة داود عليه الصلاة والسلام، فهل نقول بأن أكثر الوتر إحدى عشرة كما جاء في حديث عائشة ، أو نقول: بأن أكثر الوتر ثلاث عشرة كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؟

هذا موضع خلاف، وابن القيم رحمه الله في كتابه: زاد المعاد، تكلم وذكر أقوال الناس في هذه المسألة، وقال بعض العلماء بأن أكثر الوتر إحدى عشرة كما جاء في حديث عائشة الآخر: ( ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة ).

وأما بالنسبة للركعتين فقال بعض العلماء بأن هاتين الركعتين هما سنة العشاء، وقال بعض العلماء بأن هاتين الركعتين هما الركعتان الخفيفتان اللتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بهما صلاة الليل، وقال بعض العلماء محمول على التنويع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يوتر بثلاث عشرة، وتارة يوتر بإحدى عشرة.

وعلى هذا نقول: الهدي الغالب لوتر النبي صلى الله عليه وسلم هو إحدى عشرة، وربما زاد كما جاء في حديث ابن عباس إلى ثلاث عشرة، وربما نقص إلى تسع وسبع، لكن الهدي الغالب على وتر النبي صلى الله عليه وسلم هو إحدى عشرة ركعة.

كيفية صلاة الوتر

قال المؤلف رحمه الله: (مثنى مثنى، ويوتر بواحدة).

المبحث الرابع: كيفية صلاة الوتر إذا أراد أن يوتر بإحدى عشرة فالعلماء رحمهم الله فقهاء الشافعية والحنابلة ذكروا لكيفية الإيتار أربع صفات:

الصفة الأولى: أن يصلي مثنى مثنى، كما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

الصفة الثانية: أن يصلي إحدى عشرة ركعة سرداً، بتشهد واحد وسلام واحد.

الصفة الثالثة: أن يصلي عشر ركعات سرداً، ثم يجلس للتشهد ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالركعة الحادية عشرة ويتشهد ويسلم، فيصلي إحدى عشرة بتشهدين وسلام واحد.

الصفة الرابعة والأخيرة: أن يصلي أربع ركعات ثم يفصل، ثم يصلي أربعاً ثم يفصل، ثم يصلي ثلاثاً، والصحيح من هذه الصفات ما دل عليه حديث عائشة في مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر بإحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين )، فالصواب في ذلك أن يسلم من كل ركعتين.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها).

إذا أراد أن يوتر بخمس فصفة الإيتار بها أن يسردها سرداً بتشهد واحد وسلام واحد كما جاء في حديث أم سلمة في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام ).

وإذا أردت أن توتر بسبع فالسنة أن تسردها سرداً بتشهد واحد وسلام واحد، هكذا جاء في حديث أم سلمة في صحيح مسلم ، وجاء عند الإمام أحمد رحمه الله بتشهدين وسلام واحد، وعلى هذا نقول بأن السبع لها صفتان:

الصفة الأولى: أن تسردها سرداً بتشهد واحد وسلام واحد.

والصفة الثانية: أن تسردها سرداً، لكن بتشهدين وسلام واحد.

قال المؤلف رحمه الله: (وبتسع يجلس عقب الثامنة، ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم).

إذا أردت أن توتر بتسع فالسنة أن تسردها سرداً لكن بتشهدين وسلام واحد، التشهد الأول يكون بعد الثامنة، والتشهد الثاني يكون بعد التاسعة؛ ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صحيح مسلم .

قال المؤلف رحمه الله: (وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين).

أدنى الكمال أن تصلي ثلاث ركعات، الكمال ثلاث فأكثر، فأقل الكمال ثلاث، والخمس والسبع من الكمال، وكلما زدت فهو من الكمال حتى تبلغ وتر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا لكم أن وتر النبي صلى الله عليه وسلم الغالب عليه هو إحدى عشرة ركعة، فأدنى الكمال ثلاث؛ لأن الثلاث هي أقل الجمع، فإذا أردت أن توتر بثلاث فلك صفتان:

الصفة الأولى: أن تسلم بعد الثنتين، وتسلم بعد الواحدة، فتوتر بثلاث بسلامين، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله تعالى، ودل له حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

الصفة الثانية: أن تصلي ثلاث ركعات سرداً بتشهد واحد وسلام واحد، كما ورد ذلك في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

القراءة في صلاة الوتر

قال المؤلف رحمه الله: (يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة الإخلاص).

المبحث الخامس: القراءة في صلاة الوتر إذا أوتر بثلاث ركعات فإنه يستحب له أن يقرأ في الركعة الأولى بسبح، وفي الركعة الثانية بالكافرون، وفي الركعة الثالثة بالإخلاص، وهذا دل عليه حديث أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وهذا الحديث فيه كلام لأهل العلم رحمهم الله، ولو فعل به أحياناً فلا بأس؛ لأن من أهل العلم من يثبته ويحسن إسناده.

وعلى هذا نقول بأن الإنسان لا يداوم على ذلك، وإنما يفعل ذلك بعض الأحيان، فبعض الأحيان يوتر بسبح والكافرون والإخلاص، وبعض الأحيان يترك ذلك؛ لأن الحديث الوارد حديث أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه لأهل العلم في ثبوته كلام، وأضعف منه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه يصلي في الركعة الأولى بسبح، وفي الركعة الثانية بالكافرون، وفي الركعة الثالثة بالإخلاص والمعوذتين، فهذا الحديث لا يثبت أنكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

القنوت في الوتر

قال المؤلف رحمه الله: (ويقنت فيها بعد الركوع).

المبحث السادس: القنوت في الوتر: القنوت يطلق على معان؛ منها: القيام والسكوت، وطول العبادة، والدعاء والتسبيح والخشوع، والمراد بالقنوت هنا الدعاء، والقنوت من سنن الوتر، وبعض الناس يظن أنه إذا ما قنت ما أوتر وهذا ليس بصواب، واختلف العلماء رحمهم الله هل القنوت مشروع كل ليلة أو أنه ليس مشروعاً كل ليلة؟

فمذهب أحمد وأبي حنيفة أن القنوت مشروع كل ليلة، يعني: يشرع أن يقنت كل ليلة، والوتر مشروع كل ليلة، فكلما أوتر قنت.

الرأي الثاني: رأي مالك والشافعي : أن القنوت لا يشرع إلا في النصف الثاني من رمضان، فعلى مدى السنة لا يقنت إلا في النصف الثاني من رمضان، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يفعله في بعض الأحيان، ويتركه في بعض الأحيان.

والذي يتأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن الذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل كـعائشة وحذيفة وابن عباس وجابر وابن مسعود وغيرهم ما ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت، وعلى هذا نقول: الهدي الغالب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يقنت، وعلى هذا نقول: لا يشرع القنوت غالباً، لكن لو قنت في بعض الأحيان فلا بأس بناءً على حديث أبي بن كعب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت ) وهو ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما فيه إلا حديث الحسن : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات يقولهن في قنوت الوتر ). وبعض العلماء أيضاً ينازع في ذلك ويقول: بل الصحيح في صلاة الليل.

لكن على كل حال نقول بأنه يقنت في بعض الأحيان، ويتركه في كثير من الأحيان؛ لأن أكثر الذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل ما ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت.

ويكون القنوت بعد الركوع، ويدل لذلك أن هذا هو الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت النوافل؛ كما في حديث أبي هريرة وأنس وابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت بعد الركوع )، وأما القنوت قبل الركوع فجاء فيه حديث أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه، وهذا الحديث ضعفه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكذلك أيضاً ابن خزيمة وابن المنذر ، وعلى هذا نقول بأنه يقنت بعد الركوع.

قال المؤلف رحمه الله: (فيقول: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت, وتولني فيمن توليت).

قوله: اللهم اهدني فيمن هديت، الهداية هي: الدلالة من الله عز وجل، وتطلق على التوفيق والإرشاد؛ لأن الهداية قسمان: هداية توفيق، وهداية إرشاد، فكون الإنسان يدعو بالهداية فهو يدعو بهاتين الهدايتين.

وقوله: وعافني فيمن عافيت، يعني: عافني من الأسقام والأمراض إلى آخره، والمعافاة تشمل المعافاة في الدين، وتشمل المعافاة في الدنيا، في الدين: أن ينجيه الله عز وجل من أمراض الشبهات والشهوات، وفي الدنيا: أن ينجيه الله عز وجل من أمراض البدن.

وقوله: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، هذا من باب التوسل إلى الله عز وجل بإنعامه على الآخرين، فأنت تقول: يا الله كما أنك هديت فلاناً وفلاناً، وعافيت فلاناً وفلاناً، فاهدني كما هديتهم وعافني كما عافيتهم.

وقوله: وتولني فيمن توليت، الولي: ضد العدو، وولاية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: ولاية عامة وولاية خاصة، والمراد بذلك الولاية الخاصة، وهي تقتضي الحفظ والكلاءة والنصرة.. إلى آخره، أما الولاية العامة فهي بمعنى الاطلاع والعلم ونحو ذلك، وهي شاملة لكل الناس المسلمين والكفار، فالمقصود هنا الولاية الخاصة.

قال المؤلف رحمه الله: (وبارك لي فيما أعطيت).

يعني: إطرح البركة يا الله وهي الزيادة والوقاية من الآفات فيما أعطيتني وفيما أنعمت عليّ.

قال المؤلف رحمه الله: (وقني شر ما قضيت, إنك تقضي ولا يقضى عليك).

يعني: ما قدرته وقضيته يا الله فاعصمني وارحمني من سوء هذا القضاء.

قال المؤلف رحمه الله: (إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت).

يعني: من توليته ولاية خاصة فإنه لا يكون ذليلاً، ومن عاديته وكنت له عدواً فإنه لا يكون عزيزاً.

قال المؤلف رحمه الله: (تباركت ربنا وتعاليت).

هذا الحديث حديث الحسن : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات يقولهن في قنوت الوتر ). رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وأبو داود والترمذي وابن حبان وغيرهم، وهذا الحديث صححه من أهل العلم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي .

قال المؤلف رحمه الله: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آل محمد).

أيضاً يشرع أن يقول هذا الذكر في آخر القنوت لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة للصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في آخر القنوت فهذه لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعة، ولكنها ثابتة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

وعلى هذا نقول بأنه يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان، ما دام أنها ليست ثابتة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي واردة عن الصحابة رضوان الله عليهم.

مسح الوجه باليدين بعد القنوت

قال المؤلف رحمه الله: (ويمسح وجهه بيديه).

المبحث السابع: مسح الوجه باليدين ورد فيه حديث ابن عباس وحديث عمر رضي الله تعالى عنهما، والأحاديث الواردة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ليست ثابتة، وعلى هذا نقول بأنه لا يشرع له أن يمسح وجهه بيديه، والله أعلم.