ديوان الإفتاء [486]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في حلقة جديدة من ديوان الافتاء، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.

وقد مضى معنا الكلام في حلقة سابقة في أن لله عز وجل حكماً بالغة في تأخير النصر عن عباده المؤمنين، قد يتأخر النصر تمحيصاً للنيات، وقد يتأخر النصر من أجل أن يكثر الناس من اللجوء لرب الأرض والسموات، ويلح عليه بالدعاء الصادق، وقد يتأخر النصر من أجل أن يعلم الناس أن النصر لا بقوة عدد ولا عُدد، وإنما: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، وقد يتأخر النصر: لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]، وقد يتأخر النصر من أجل أن يبالغ المجرمون في إجرامهم، والمعتدون في اعتدائهم، فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.

وأقول أيها الإخوة والأخوات! بأن للنصر أسباباً يمكن أن نستنبطها من قصص القرآن، فإن ربنا جل جلاله حدثنا عن قصة طالوت وجالوت، فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]، الآيات، وهذه الآيات المباركات نستنبط منها أسباباً يتحقق بها نصر الله عز وجل، ومتى ما تخلفت هذه الأسباب تأخر النصر أو انعدم.

أول هذه الأسباب: الحرص على صلاح النية، ولا ينافي ذلك أن يكون القتال ردعاً للظلم ودفعاً للعدوان، لكن لا بد أن تتمحض النية في أن هذا القتال، وهذا الجهاد انتصار لدين الله عز وجل، وغضب لانتهاك الحرمات لا غضباً للنفس، ولذلك لما قال بنو إسرائيل: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، قال أهل التفسير: أظهروا التصلب والتجلد في القتال ذباً عن أموالهم ومنازلهم، فلذلك لم يتم قصدهم؛ لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم، ولو أنهم قالو: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أمرنا، ووجب القتال علينا، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا، فلا بد أن تتمحض النية لله عز وجل ابتداءً؛ من أجل أن يحصل النصر في النهاية والعاقبة.

ثم ثانياً من أسباب النصر: أن الإنسان قد يظن القدرة على ترك المحظور أو القيام بالمأمور، فإذا ابتلي به نكص، قال الله عز وجل: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]، هؤلاء الذين كانوا يجعجعون يطلبون من نبي الله موسى عليه السلام: أن يكتب عليهم القتال: لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246]، مثل ما قال الله عز وجل: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأَوْلَى لَهمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهمْ [محمد:20-21]، ولذلك نبينا المختار عليه الصلاة والسلام أوصانا فقال: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا)، قال الله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77]، ولذلك الإنسان أبداً لا يعرض نفسه للبلاء: بل يطلب من الله عز وجل العون والتسديد والتوفيق متى ما حصل البلاء بالأمر أو النهي.

ثم ثالثاً من أسباب حصول النصر: اجتماع كلمة أهل الحل والعقد، أي: أن يجلس هؤلاء ليبحثوا عن الطريق الذي تستقيم به أمورهم، ويفهمونه جيداً، ثم يعملون به، ولذلك هؤلاء الملأ راجعوا نبيهم صلوات الله وسلامه عليه في أن يجعل لهم قائداً تجتمع عليه كلمتهم، ويتوحد قصدهم.

ثم من أسباب النصر كذلك: عدم التنازع، فإن هؤلاء الناس بدءوا ينازعون نبيهم لما قال لهم: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247]، قيل: كان دباغاً، وقيل: بل كان جزاراً، يعني: كان يمتهن مهنة ربما لا تكون ذات شأن في أعين كثير من الناس، ولذلك اعترضوا قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:247].

ثم من أسباب النصر: عدم الاتكال على النفس، فإن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر والفوز، ولذلك لما قالوا لنبيهم: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، نتيجة لذلك: لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246]، ولما اتكلوا على الله عز وجل، وأخلصوا نيتهم حصل النصر: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:250-251].

يا إخوتاه! من حكمة الله تعالى: تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان يقول سبحانه: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، فلو أن النصر سيأتي في ساعة من زمان، أو في يوم أو يومين، لكان الأمر هيناً، لكن الله عز وجل يطيل أمد المعركة؛ من أجل أن: يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، والصادق من الكاذب، والمقدام من الجبان، والصبور من الجزع وهكذا.

ثم من رحمة ربنا وسننه الجارية: أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، ولولا ذلك لفسدت الأرض، يعني: الناس يحزنون على سفك الدماء، ويحزنون على إزهاق الأرواح، لكن هذه سنة الله عز وجل: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251]، وفي قراءة متواترة: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)، وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، صحيح بأننا نحزن لهذه الدماء الزكية التي تنزف على أرض ليبيا في هذه الأيام، لكن نقول: هذه سنة الله عز وجل، فإن الباطل لا يستسلم، الباطل يقاوم ويحاول أن يستديم أركانه، ولكن الله عز وجل يدفع بهؤلاء المؤمنين الطيبين في نحور الكفار والمنافقين، من أجل أن يحق الحق ويبطل الباطل.

ثم لا بد أن نعلم إخوتي وأخواتي! بأن العزم على القتال والجهاد غير حقيقته؛ لأن الإنسان قد يعزم ثم بعد ذلك ينكص على عقبيه وتنحل عزيمته، وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم )، وكذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( وأسألك الرضا بعد القضاء )؛ لأن الرضا بعد وقوع المكروه هو: الرضا الحقيقي الذي يثاب العبد عليه ويؤجر.

كذلك القيادة لا بد أن يتقدم لها من كان أهلها، ولذلك قال نبيهم: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، إنسان مؤهل للقيادة، من ناحية العلم، ومن ناحية الجسم، ومن ناحية مضاء العزيمة، ومن ناحية صحة القصد، ومن ناحية الشجاعة والإقدام؛ ولذلك لما قال: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، يقول القائل:

تبين لي أن القماءة ذلة وأن أعزاء الرجال طيالها

و الخنساء قالت ترثي أخاها صخراً :

أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر ندا

ألا تبكيان الجريء الجميل ألا تبكيان الفتى السيدا

إلى أن قالت:

رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا

والإمامة والقيادة ليست وراثة، وإنما هي التأهيل، ولذلك لما قال الخليل عليه السلام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]، قال الله عز وجل: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، ولذلك اعتراض هؤلاء القوم كان منصباً على أن طالوت ليس من بيت الملك، فكيف يكون قائداً؟ فبين سبحانه أن الملك يؤتيه من يشاء، وليس ملازماً لأن يكون الأب أو الجد قائداً، فيكون الولد أو ولد الولد قائداً، لكن يكون بالجدارة لا بالنسب.

تفقد القائد جنوده

أيضاً نتعلم أنه ينبغي للقائد أن يتفقد جنوده، يقول الله عز وجل: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ [البقرة:249]، أي: مشى بهم، وتدبر أحوالهم، ورتبهم ونظر في أمرهم، ثم يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب، سواء كان مخذلاً أو مرجفاً أو ملحداً؛ ولذلك حرص هذا القائد على أن يمايز الصفوف: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، والمخذل: هو الذي يخذل الجيش ويقول: ما أنتم بمنتصرين، لن تستطيعوا الفوز والظهور، وأما المرجف: فهو الذي يخوف من العدو، يقول: إن عدونا يملك من السلاح كذا وكذا، وعنده من الذخيرة كذا وكذا، وعنده من الرجال كذا وكذا، وهم أكثر عدداً، وأعز نفراً، وأقوى استعداداً ونحو ذلك، مثلما كان المنافقون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أيحسب محمد جلاد بني الأصفر اللعب؟ لكأنا به وبأصحابه وهم مقرنون في الأصفاد، فسماهم الله عز وجل المرجفين في المدينة.

ومن الحكمة: اختبار الجند، من أجل أن يتبين القائد من هو أهل للقتال، ومن ليس بأهل، ويشبه هذا ما يصنعه الناس في هذه الأيام، مما يسمى بالمناورات الحربية التي هي عبارة عن اختبار للجند، وتدريب لهم، وكيف ينفذون الخطط التي تعلموها.

وكذلك ينبغي للأمير أن يتفقد جيشه، ليعرف الصابر من الجزع، وينبغي عند حضور القتال تقوية عزائم المجاهدين، وشحذ هممهم، مثلما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: ( والذي نفسي بيده لا يقاتلنهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة )، ولا بد من تربية الناس على الإيمان بالقدر، وأن الفرار من الموت لا ينجِي مما قدره الله عز وجل، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243]، وقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16]، وقال: قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، ما قال الله عز وجل: فإنه مدركم، كما في الآية الأخرى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ [النساء:78]، لا، هنا قال: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، يعني: لو فررت من الموت فإنه سيقابلك من الجهة التي فررت إليها: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، وهذا المعنى ينبغي أن يستقر في الأذهان.

كذلك لا بد من التفاهم بين القائد والجنود: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، ومثله ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين قال: ( أشيروا عليّ أيها الناس! )، فلا بد من تفاهم وتناغم بين القائد والجنود.

شجاعة القائد وتأثيرها على الجند

ثم لا بد أن يكون القائد مثلاً أعلى في الشجاعة، ولذلك داود عليه السلام برز لـجالوت، وجالوت جبار من جبابرة الأرض، فأظهر الله عز وجل داود ومكنه من قتل جالوت، وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم مثلما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( ما رأيت أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنا إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، واشتدت الحرب، نتقي برسول الله صلى عليه وسلم، فلا يكون أحد أقرب إلى العدو منه، وإن الشجاع منا للذي يحاذيه )، يعني: أشجع واحد من الصحابة يكون بحذاء النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يتقدم أحد عليه صلوات ربي وسلامه عليه.

إخوتي وأخواتي! هذه بعض المعاني التي نستفيدها من القصة، التي ساقها الله عز وجل في سورة البقرة، أسأل الله العلي العظيم القوي العزيز الذي: يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، أن يجعل لإخواننا في ليبيا فرجاً قريباً، ونصراً عزيزاً، وأن يقر الله أعينهم بزوال الطاغوت وأعوانه، وأن يقر الله أعينهم بأن ينتشر الأمن والعدل في ربوع بلادهم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

أيضاً نتعلم أنه ينبغي للقائد أن يتفقد جنوده، يقول الله عز وجل: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ [البقرة:249]، أي: مشى بهم، وتدبر أحوالهم، ورتبهم ونظر في أمرهم، ثم يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب، سواء كان مخذلاً أو مرجفاً أو ملحداً؛ ولذلك حرص هذا القائد على أن يمايز الصفوف: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، والمخذل: هو الذي يخذل الجيش ويقول: ما أنتم بمنتصرين، لن تستطيعوا الفوز والظهور، وأما المرجف: فهو الذي يخوف من العدو، يقول: إن عدونا يملك من السلاح كذا وكذا، وعنده من الذخيرة كذا وكذا، وعنده من الرجال كذا وكذا، وهم أكثر عدداً، وأعز نفراً، وأقوى استعداداً ونحو ذلك، مثلما كان المنافقون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أيحسب محمد جلاد بني الأصفر اللعب؟ لكأنا به وبأصحابه وهم مقرنون في الأصفاد، فسماهم الله عز وجل المرجفين في المدينة.

ومن الحكمة: اختبار الجند، من أجل أن يتبين القائد من هو أهل للقتال، ومن ليس بأهل، ويشبه هذا ما يصنعه الناس في هذه الأيام، مما يسمى بالمناورات الحربية التي هي عبارة عن اختبار للجند، وتدريب لهم، وكيف ينفذون الخطط التي تعلموها.

وكذلك ينبغي للأمير أن يتفقد جيشه، ليعرف الصابر من الجزع، وينبغي عند حضور القتال تقوية عزائم المجاهدين، وشحذ هممهم، مثلما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: ( والذي نفسي بيده لا يقاتلنهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة )، ولا بد من تربية الناس على الإيمان بالقدر، وأن الفرار من الموت لا ينجِي مما قدره الله عز وجل، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243]، وقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16]، وقال: قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، ما قال الله عز وجل: فإنه مدركم، كما في الآية الأخرى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ [النساء:78]، لا، هنا قال: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، يعني: لو فررت من الموت فإنه سيقابلك من الجهة التي فررت إليها: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، وهذا المعنى ينبغي أن يستقر في الأذهان.

كذلك لا بد من التفاهم بين القائد والجنود: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، ومثله ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين قال: ( أشيروا عليّ أيها الناس! )، فلا بد من تفاهم وتناغم بين القائد والجنود.