لباب النقول في أسباب النزول [9]


الحلقة مفرغة

الآية التاسعة والثمانون بعد المائة: قول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى[البقرة:189].

سبب نزول هذه الآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : أن معاذ بن جبل و ثعلبة بن غنمة قالا: (يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟) أي: أن الصحابة رضي الله عنهم يسألون: لم يبدو الهلال في أول الشهر دقيقاً مثل الخيط، ثم لا يزال يكبر ويزيد حتى يستدير، ثم يرجع فينقص ويستدق حتى يكون كما بدأ، ولا يكون على حال واحدة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية ليبين العلة التي من أجلها خلق الله الأهلة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ[البقرة:189] يعني: أن الله عز وجل يوجههم إلى السؤال الأوفق والأنسب؛ لأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ما جاء ليشرح الظواهر الطبيعية، وإنما جاء ليهدي الناس، وهذا ينطبق الآن على كثير من الناس ممن يطرحون أسئلة ليس فيها كبير فائدة، فبعض الناس ربما يقرأ قول الله عز وجل: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا[البقرة:73]، فيسأل ما هو البعض الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل ؟

ويقرأ قصة أصحاب الكهف فيسأل عن عدتهم كم كانوا؟ مع أن الله تعالى قال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ[الكهف:22]، ويسأل عن لون الكلب الذي كان معهم.

وإذا قرأ قول الله عز وجل: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ[الشعراء:63] يقول: هذه العصا من أي خشب كانت؟

وإذا قرأ قول الله عز وجل: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ[هود:44]، قال أين الجودي؟

وسفينة نوح كم كان طولها؟ وكم كان عرضها؟

فهذه كلها أسئلة لا تؤدي إلى فائدة، ولو كان العلم بهذه التفاصيل مؤثراً لذكرت في القرآن.

فهنا الله عز وجل يرشدنا إلى السؤال المناسب، وإلى العلة الصحيحة، مثلما قال في آية أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ[المائدة:101].

وقول الله عز وجل: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا[البقرة:189]، كانت للعرب في الجاهلية عادات ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ذلك: أن الواحد منهم إذا أحرم بالنسك فلا يدخل إلى بيته من الباب، وإنما لا بد أن يتسوره، ويعتقدون بأن هذا من التقوى، ثم إذا ذهب فقضى نسكه ورجع أيضاً لا يدخل من الباب، وإنما يأتي من ظهر البيت، فأنزل الله عز وجل يقول: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا )) أي: ليس البر في هذه الأشكال، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ))، كما مر معنا قول الله عز وجل: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[البقرة:177].

فمن الخطأ أن يخترع الإنسان طقوساً ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا موجود الآن، فتجد المرأة مثلاً إذا توفي عنها زوجها فإنها تخترع طقوساً، مثلاً: قالت الشريعة للمرأة: يا من توفي عنك زوجك، لا تكتحلي، ولا تتخضبي، ولا تتطيبي، ولا تتحلي، ولا تلبسي ملابس الزينة، فزادوا من عندهم أنه لا بد لها أن تلبس الأبيض، ولا بد أن تجلس على ملاءة بيضاء، ولا بد أن تجلس في غرفة، أو في برندة، ولا ينفع أن تقعد في الحوش، ولا يصلح أن تتكلم مع أحد عند طلوع الشمس وعند غروبها، وأن تستقبل الشمس عند شروقها وغروبها؛ فإذا انقضت العدة أربعة أشهر وعشر ذهبوا بها إلى البحر كما يوجد في بعض الأقاليم، فهذا كله ما أنزل الله به من سلطان.

ومثلما اخترعوا الطقوس في العرس، وأنه لابد من الحناء، وأنه إذا لم يتحنَ فلن يولد له ولد، ونحن لم نتحن وعندنا جيش من البنين والبنات والحمد لله، فهذه كلها طقوس ما أنزل الله بها من سلطان اخترعها الناس، ثم اعتقدوا بأنها دين يجب التمسك به والعض عليه.

الآية التسعون بعد المائة: قول الله عز وجل: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا[البقرة:190].

هذه الآية كما قال ابن عباس : نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه صدوا عن البيت، ومنعوا من الوصول إلى البيت الحرام، ثم صالحه المشركون على أن يرجع من عامه هذا ذو القعدة سنة ست، ولا يعتمر، ثم يعود في العام القابل من عام سبعة من الهجرة، فلما كان العام القادم تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي قريش بوعدها، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره الصحابة أن يقاتلوا في الشهر الحرام وهو ذو القعدة، وتحرجوا من ذلك فأنزل الله عز وجل هذه الآية لتبين لهم: أن من قاتلكم فقاتلوه ولو كان ذلك في الشهر الحرام، ولو كان في البلد الحرام: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا[البقرة:190].

الآية الخامسة والتسعون بعد المائة: قول الله عز وجل: (( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )).

ماذا يفهم الناس من هذه الآية؟

للأسف الشديد يستدل بها بعض الناس على تحريم العمليات الاستشهادية التي يقوم بها المجاهدون في فلسطين أو في غيرها من بلاد الله، فيقولون: لا يجوز؛ لأن الله تعالى قال: (( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ))، وهذا الاستدلال ليس صحيحاً، ويتضح ذلك من سبب نزول الآية.

روى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: نزلت في النفقة، كيف هذا؟ يعني: أن الأنصار عليهم من الله الرضوان كانوا أهل كرم، وهم الذين قال الله فيهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[الحشر:9]، فأصابتهم سنة، يعني: أمسكت السماء في عام من الأعوام، فكأن الأنصار عليهم من الله الرضوان أمسكوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يبين أن التهلكة في الإمساك، وهذه الرواية أخرجها البخاري .

وللآية سبب آخر؛ فقد أخرج أبو داود و الترمذي وصححه و ابن حبان و الحاكم وغيرهم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام؛ فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله عز وجل فيما قلنا: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[البقرة:195]، فكانت التهلكة في الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو، يعني: أن الأنصار رضي الله عنهم جاهدوا في الله حق جهاده، فلما فتح الله مكة، وأعز الله الإسلام، وكثر أنصاره في أنحاء الجزيرة، قال الأنصار: نحن قد أهملنا مزارعنا، وضيعنا أموالنا، وشغلنا بالجهاد سنين عدداً، والحمد لله، فها قد تحققت الغاية، وارتفعت الراية، وكثر أنصار الإسلام؛ فهلم نرجع فنصلح أموالنا، ونثمر زروعنا، وننمي مواشينا، ويقوم بالجهاد غيرنا؛ فأنزل الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )) فكانت التهلكة في الإقامة وترك الجهاد. فلا علاقة بين الآية وبين ما يقوله المانعون من العمليات الاستشهادية.

الآية السادسة والتسعون بعد المائة: قول الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة:196].

أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمخاً بالزعفران عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة:196]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين السائل عن العمرة؟ قال: هأنذا، فقال له عليه الصلاة والسلام: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل، واستنشق ما استطعت، ثم اصنع ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك) .

وهل يجوز للمحرم التضمخ بالطيب؟

الجواب: لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلبس القمص) فالمحرم لا يلبس قميصاً، (ولا العمائم ولا سراويل)، والمحرم لا يلبس سروالاً، (ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران) يعني: الثوب الذي فيه طيب لا يلبسه.

وهذا الرجل جاء متضمخاً بالزعفران، وعليه جبة، ويسأل عن العمرة، فأنزل الله هذه الآية، والرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (ألق عنك جبتك)، فالجبة التي عليك لا تنفع في الإحرام.

(ثم اغتسل)، من أجل أن تذهب رائحة الزعفران. (واستنشق ما استطعت) من أجل أن تزيله، (ثم ما كنت صانعاً في حجك فاصنع في عمرتك) يعني: نفس هيئة الطواف في الحج هي في العمرة، ونفس هيئة السعي في الحج هي في العمرة، ومثلما تحلق أو تقصر في الحج، فاصنع في العمرة مثله.

قال الله عز وجل في الآية نفسها: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[البقرة:196]، ما سبب نزول الآية؟

روى البخاري عن كعب بن عجرة قال: (حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك هذا، أما تجد شاة؟ قلت: لا. قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، واحلق رأسك).

فهل يجوز للمحرم أن يحلق رأسه؟

الجواب: لا يجوز أن يحلق رأسه ولا غيره، كأن يقص شاربه، أما اللحية فخلقها حرام في الإحرام وفي غير الإحرام.

المقصود: أن كعب بن عجرة رضي الله عنه كان شعره كثيراً، وكان قد أحرم، وكان شعره مليئاً بالقمل، والقمل يضايق الإنسان، فلما اشتد عليه الأذى، حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، والرسول صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم، والمفتي لا بد أن يتحلى بهذا الجانب، فمن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يرحم الناس بما لا يتعارض مع الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمل يتناثر على الرجل، فما قال له: اصبر يومين أو ثلاثة وما أشبه ذلك، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أبدى التأثر، وقال له: (ما كنت أظن أن الجهد يبلغ منك ما أرى)، فيمكن أن نحل هذه القضية، قال: (هل تجد شاة؟ قال: لا).

فإما أنه لا توجد الشياة أصلاً، أو أن الشياة موجودة وليس عنده الثمن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه البديل، فقال له: (فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك). وهذا هو معنى الآية: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )).

مثلاً: رجل محرم، ولباس الإحرام معروف رداء وإزار، لكن الرجل مصاب بحساسية، بحيث إن الإحرام لا يناسبه فنقول له: البس ثيابك، واذبح شاة بعد ذلك، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، وهكذا في سائر المحظورات.

مثال آخر: رجل طالت أظفاره، ولم يتنبه لها حتى أحرم، ثم بدأت أظفاره تتكسر، وتؤذيه، ويسيل منها الدم، ففي هذه الحالة نقول له: إن ربنا لم يأمرنا بالضرر، فافد وقلم أظفارك، والفدية: شاة، أو صدقة، أو صيام، والله أعلم.

الآية السابعة والتسعون بعد المائة: قال الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ[البقرة:197].

روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ))، يعني: أن أناساً من اليمن كانوا يحجون ولا يحملون معهم طعاماً، ويقولون: نحن متوكلون على الله، وهذا لا يصلح فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل)، ومن التوكل: الأخذ بالأسباب، كما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يتزود لسفره عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله وقال له: إني حاج، فقال له: تزود، قال: إني متوكل، قال له: إذاً اخرج وحدك، فقال: لا، بل أخرج مع القوم، قال له: إذاً أنت متوكل على أزواد القوم. يعني: أنت لست متوكلاً على الله تعالى، وإنما متوكل على طعام القوم وشرابهم.

الآية الثامنة والتسعون بعد المائة: قول الله عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ[البقرة:198].

روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ[البقرة:198] أي: في مواطن الحج، يعني: ليس هناك مانع للرجل بأن يحج ويتاجر أو يؤجر سيارته للناس مثلاً، وكذلك الجزار والحلاق، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ[البقرة:198].

الآية التاسعة والتسعون بعد المائة، قول الله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ[البقرة:199].

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، يعني: أن قريشاً كانوا يشعرون بأنهم أرفع من الناس قدراً، وأسلم ديناً، وكانوا يقولون: نحن أهل الله والحرم؛ فلا نقف مع الناس في عرفة، بل يكون لنا مكان خاص وهو المزدلفة، فأنزل الله عز وجل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ[البقرة:199] يعني: يا معشر قريش! قفوا حيث وقف الناس، وأفيضوا من حيث أفاض الناس.

الآية المائتان: قول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[البقرة:200].

كانت لدى العرب عادة ذميمة وهي: أنهم إذا انتهوا من يوم عرفة وذهبوا إلى المزدلفة ورموا الجمرة يقفون يتفاخرون، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم الطعام، ويحمل الحمالات، ويدفع الديات، وكان أبي ...، وكان أبي ...، فبين الله لهم: أن هذا الموضع ليس موضعاً لذكر الآباء، ثم قال لهم: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ )) أي: إذا ذكرتم آباءكم فاذكروا الله كذكركم آباءكم، يعني: على الأقل اجعلوا لله عز وجل نصيباً كنصيب آباءكم، أي: لا يذكر أباه وينسى ذكر الله تعالى، نعوذ بالله من تلك الحال.