لباب النقول في أسباب النزول [11]


الحلقة مفرغة

الآية العشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ[البقرة:220].

أخرج أبو داود و النسائي و الحاكم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[الأنعام:152]، ونزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا[النساء:10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفصل له شيئاً من طعامه فيحبسه له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى[البقرة:220].

ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما نزلت الآيات التي تحذر من أكل مال اليتيم والتعرض لماله بغير التي هي أحسن أثرت هذه الآيات في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، فأي شخص من الصحابة كان عنده يتيم انطلق فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه؛ حذراً من هذه الآية، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ[البقرة:220].

وهذا معلوم حتى من ناحية التربية، فلو كان عندي يتيم في البيت فعزلت له طعامه بعيداً عن طعام الأهل والعيال فهذا يؤثر عليه تأثيراً سلبياً؛ ولذلك أرشدنا الله عز وجل إلى مخالطتهم فقال: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ )) وبين ربنا أن الأعمال بالنيات فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ[البقرة:220] أي: أن الله يعلم من الذي يريد أن يأكل مال اليتيم ومن الذي لا يريد ذلك، وهذا نظيره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).

الآية الحادية والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ[البقرة:221].

أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مقاتل بن سليمان قال: نزلت هذه الآية في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه عندما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عناق أن يتزوجها، وكانت ذات حظ وجمال فنزلت: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ[البقرة:221]، ومرثد بن أبي مرثد هو من المهاجرين الأولين، وكانت لديه علاقة في الجاهلية بامرأة اسمها عناق ، فلقيت عناق مرثداً فدعته إلى نفسها فأبى وقال لها: قد حرم الله الزنا، فقالت له: تزوجني فقال: لا أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء واستأذن نزلت هذه الآية التي يبين الله فيها أن نكاح المشركة حرام أياً كان شركها سواء كانت ملحدة لا تؤمن بالله أصلاً، أو كانت ذات دين باطل كالبوذية، والمجوسية، والهندوسية، والزرادشتية، والشيوعية ونحو ذلك، فهذه المرأة لا يجوز نكاحها، وما استثنى ربنا من أهل الأديان الباطلة إلا اليهوديات والنصرانيات بشرط العفة، فقال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ[المائدة:5] المحصنات يعني: العفيفات، فالنصرانية أو اليهودية لو كانت زانية كما هو حال أكثرهن في زماننا هذا لا يجوز التزوج بها.

الآية الثانية والعشرون بعد المائتين قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ[البقرة:222].

روى مسلم و الترمذي عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت -ومعنى يجامعوها في البيوت أي: يساكنوها- فسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ[البقرة:222] فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فاليهود كانوا أصحاب السيطرة الثقافية والتوجيه الفكري في المدينة، وكان الأوس والخزرج أهل أوثان، فكانوا إذا اختلفوا في شيء رجعوا إلى اليهود بوصفهم أهل العلم بالكتاب الأول، ومما عرفوه من ثقافة اليهود أن المرأة إذا حاضت اعتزلوها تماماً فلم يؤاكلوها، يعني لا يقعدوا معها في سفرة واحدة، ولا يضاجعونها، أي: أن اليهودي لا ينام مع المرأة الحائض في فراش واحد، ولا يجامعوها في البيوت، حتى الغرفة التي هي فيها لا يقعد معها فيها، فأنزل الله عز وجل هذه الآية فقال: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ))، وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم الاعتزال بقوله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعامل المرأة التي تكون حائضاً معاملة عادية، كما قالت أمنا عائشة : (كان يكون علي الحيض فيأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتزر فيباشرني وأنا حائض).

وكذلك كان يضع رأسه في حجر عائشة فيرتل القرآن وهي حائض، فتكون عائشة رضي الله عنها حائضاً والرسول عليه الصلاة والسلام يضع رأسه في حجرها ويرتل القرآن.

فيا عبد الله! إذا حاضت الزوجة فممنوع عليك الجماع في الفرج فقط، أما ما كان دون ذلك فلا إشكال.

الآية الثالثة والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ[البقرة:223].

روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يبيح فيها للمسلم أن يأتي أهله من أي مكان طالما أن الجماع في محل الحرث أي: محل زراعة الولد، سواء جاء من أمام أو من الخلف، وسواءً كانت قائمة أو باركة أو راكعة أو ساجدة على كل الأحوال.

الآية الرابعة والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ[البقرة:224] هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق في شأن مسطح بن أثاثة ، وهذا الرجل كان ابن خالة أبي بكر يعني من أرحامه، ولما تكلم عبد الله ابن سلول في عرض أمنا عائشة واتهمها بـ صفوان بن المعطل رضوان الله عليهما، كان مسطح من الذين خاضوا في حديث الإفك، فلما أنزل الله براءة أمنا من السماء غضب أبو بكر وقال: والله! لا أنفعه بخير ما حييت، فبعدما كان يتصدق عليه أقسم بالله ألا يعطيه شيئاً، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ينهى المسلم عن المسارعة إلى اليمين إلى الحلف.

ومثلها قول الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ[النور:22] أي: لا يحلف، فالألية القسم، ومنه قول القائل:

قليل الألايا حافظ ليمينه

وإن بدرت منه الألية برت

قال الله: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا[النور:22] فـأبو بكر رضي الله عنه رجع عن يمينه وأخذ يعطي مسطحاً ضعف ما كان يعطيه؛ لأن الله عز وجل ختم الآية بقوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[النور:22] فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى إني لأحب أن يغفر الله لي.

الآية الثامنة والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228]

قال أبو داود : هذه الآية نزلت في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية رضي الله عنها قالت: (طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله العدة للطلاق: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228]).

(المطلقات): جمع مطلقة، والمطلقة هي التي طلقها زوجها، طلقها بلفظة تدل على نقض عقد التزويج إما أنه تلفظ أو قال لها: أنت طالق أو مطلقة أو نحو ذلك، أو استعمل الكنايات فقال لها: حبلك على غاربك، أو قال لها: أنت حرة، أو قال لها: اذهبي إلى بيت أبيك، أو قال لها: الذي بيني وبينك انتهى، فهذه كلها كنايات، وهذه المطلقة عليها عدة، والمفروض أنها لا تذهب إلى بيت أبيها إلا بعدما تقضي ثلاثة أطهار، والقرء هو: الطهر، فتمكث في بيت الزوجية مع زوجها الذي طلقها، وتتزين له لعل الله أن يحدث بعد ذلك أمراً.

الآية التاسعة والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ[البقرة:229].

أخرج الترمذي و الحاكم وغيرهما عن عائشة قالت: (كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة وأكثر) يعني: في الجاهلية ما كان هناك حد للطلاق، فهو يطلقها وهي في العدة ثم يرجعها، وبعد فترة يطلقها.. وهكذا، ولو طلقها مائة مرة أو أكثر، قالت: (حتى كان رجل قال لامرأته: والله! لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبداً) قال لها: أنا لن أطلقك ولن أدعك زوجة، سأجعلك معلقة (قالت له: كيف ذلك؟ قال لها: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ[البقرة:229]) أي: أنه قال لها: كل مرة سأطلقك إلى قبل نهاية عدتك بقليل فأراجعك، فمثلاً: غداً أطلقك ثم تعتدي ثلاثة قروء وقبل نهاية عدتك أراجعك، وهكذا تبقين معلقة، فالمرأة رضي الله عنها ما صبرت على هذا الظلم، وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ يعني لا يستطيع -حتى ولو كانت نيته نية سوء- أن يعلقها إلا مرتين وهي تقريباً ثلاثة أشهر ثم بعد ذلك يصبح أمرها بيدها، فَإِنْ طَلَّقَهَا )) يعني: للمرة الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[البقرة:230].

سبب نزول قوله تعالى (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً)

وفي نفس الآية قال الله عز وجل: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا[البقرة:229].

قال ابن عباس : كان الرجل يأكل مال امرأته من نحلته التي نحلها، لا يرى أن عليه جناحاً، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

وقيل كما في رواية ابن جرير عن عبد الملك بن جريج : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وزوجته حبيبة فقد شكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فدعاه فذكر له ذلك، قال: وتطيب لي بذلك -يا رسول الله- قال: نعم، قال: ففعلت).

ومعنى الكلام: أن الرجل في الجاهلية كان يتزوج المرأة ويعيش معها سنة أو سنتين أو خمساً وبعد ذلك يزهد فيها ولكنه لا يريد أن يطلقها مجاناً، فيبدأ يضيق عليها، ويعبس في وجهها، ويغلظ القول لها، فإذا قالت له: طلقني، قال لها: ردي علي ما دفعت! وهو ما يفعله الظالمون في هذا الزمان، وهذا حرام.

فإن أردت أن تطلق زوجتك فلا يحل لك أن تأخذ مما آتيتها شيئاً، بل الواجب أن تعطيها؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ[الأحزاب:49] متعوهن يعني: عندما تزوجتها اشتريت لها ملابس وذهباً وعطوراً، فعندما تطلقها اشتر لها أيضاً، قال الله عز وجل: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[البقرة:241].

وخاطب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[الأحزاب:28].

قال الله عز وجل: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ[البقرة:229] يعني: لو كان النشوز من قبل المرأة وكرهت زوجها، فإذا سئلت: هل الرجل فيه عيب في دينه؟ قالت: لا. وهل هذا الرجل أخلاقه صعبة؟ فأجابت: لا. وهل يسيء إليك؟ فإذا قالت: لا. وهل يقصر في النفقة؟ فإذا قالت: لا. فإذاً: لم تريدين الطلاق؟ فأجابت: كرهته، لماذا كرهتيه؟ قالت -مثلاً-: كرشه كبير، أو قالت: هو قصير، أو قالت: هو طويل، فهذا كله من صنع الله عز وجل ومن تقديره، ففي هذه الحالة نقول لها: ردي ما دفع لك، كما فعلت حبيبة بنت سهل رضي الله عنها فقد (جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا رسول الله! زوجي -وهو ثابت بن قيس - ما أعيب عليه خلقاً ولا ديناً ولكن لا يجمعني وإياه سقف واحد -أنا لا أعيش معه-، قال لها: ولم؟ قالت له: نظرت من كوة في الجدار -يعني: من الشباك- وهو مقبل مع جماعة فإذا هو أقصرهم قامة وأسودهم وجهاً!). فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قال لها: لا تقعدي معه، وإنما استدعى زوجها وقال له: (طلقها -أي: طلق المرأة التي لا تريدك- قال: يا رسول الله! أصدقتها حديقة -المهر كان حديقة بستان-، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لزوجته: أتردين عليه الحديقة؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الزيادة فلا، فقال لـثابت : طلقها تطليقة، وقال للمرأة: ردي عليه الحديقة. فقال ثابت : وتطيب لي بذلك يا رسول الله؟! -يعني: الحديقة هذه تكون طيبة لي حلالاً؟- قال صلى الله عليه وسلم: نعم).

فهذا يكون في حالة الكراهية من الزوجة لزوجها، أما إذا كنت أنت الذي كرهتها فاتق الله عز وجل وطلقها ومتعها كما قال الله: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[الأحزاب:49]، ولذلك ما زال الصالحون من عباد الله الواحد منهم إذا زهد في صحبة المرأة فإنه يطلقها ثم يزودها بعد انقضاء عدتها بكل ما تحتاج إليه من ثياب ومتاع وأثاث، وبعض الصالحين يخيرها ويقول لها: خذي كل ما تريدينه من البيت من أثاث ومن غيره، ثم يحملها معززة مكرمة إلى بيت أهلها، فلا يشتم ولا يسيء ولا يطلع الناس على عيوبها.

وفي نفس الآية قال الله عز وجل: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا[البقرة:229].

قال ابن عباس : كان الرجل يأكل مال امرأته من نحلته التي نحلها، لا يرى أن عليه جناحاً، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

وقيل كما في رواية ابن جرير عن عبد الملك بن جريج : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وزوجته حبيبة فقد شكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فدعاه فذكر له ذلك، قال: وتطيب لي بذلك -يا رسول الله- قال: نعم، قال: ففعلت).

ومعنى الكلام: أن الرجل في الجاهلية كان يتزوج المرأة ويعيش معها سنة أو سنتين أو خمساً وبعد ذلك يزهد فيها ولكنه لا يريد أن يطلقها مجاناً، فيبدأ يضيق عليها، ويعبس في وجهها، ويغلظ القول لها، فإذا قالت له: طلقني، قال لها: ردي علي ما دفعت! وهو ما يفعله الظالمون في هذا الزمان، وهذا حرام.

فإن أردت أن تطلق زوجتك فلا يحل لك أن تأخذ مما آتيتها شيئاً، بل الواجب أن تعطيها؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ[الأحزاب:49] متعوهن يعني: عندما تزوجتها اشتريت لها ملابس وذهباً وعطوراً، فعندما تطلقها اشتر لها أيضاً، قال الله عز وجل: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[البقرة:241].

وخاطب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[الأحزاب:28].

قال الله عز وجل: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ[البقرة:229] يعني: لو كان النشوز من قبل المرأة وكرهت زوجها، فإذا سئلت: هل الرجل فيه عيب في دينه؟ قالت: لا. وهل هذا الرجل أخلاقه صعبة؟ فأجابت: لا. وهل يسيء إليك؟ فإذا قالت: لا. وهل يقصر في النفقة؟ فإذا قالت: لا. فإذاً: لم تريدين الطلاق؟ فأجابت: كرهته، لماذا كرهتيه؟ قالت -مثلاً-: كرشه كبير، أو قالت: هو قصير، أو قالت: هو طويل، فهذا كله من صنع الله عز وجل ومن تقديره، ففي هذه الحالة نقول لها: ردي ما دفع لك، كما فعلت حبيبة بنت سهل رضي الله عنها فقد (جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا رسول الله! زوجي -وهو ثابت بن قيس - ما أعيب عليه خلقاً ولا ديناً ولكن لا يجمعني وإياه سقف واحد -أنا لا أعيش معه-، قال لها: ولم؟ قالت له: نظرت من كوة في الجدار -يعني: من الشباك- وهو مقبل مع جماعة فإذا هو أقصرهم قامة وأسودهم وجهاً!). فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قال لها: لا تقعدي معه، وإنما استدعى زوجها وقال له: (طلقها -أي: طلق المرأة التي لا تريدك- قال: يا رسول الله! أصدقتها حديقة -المهر كان حديقة بستان-، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لزوجته: أتردين عليه الحديقة؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الزيادة فلا، فقال لـثابت : طلقها تطليقة، وقال للمرأة: ردي عليه الحديقة. فقال ثابت : وتطيب لي بذلك يا رسول الله؟! -يعني: الحديقة هذه تكون طيبة لي حلالاً؟- قال صلى الله عليه وسلم: نعم).

فهذا يكون في حالة الكراهية من الزوجة لزوجها، أما إذا كنت أنت الذي كرهتها فاتق الله عز وجل وطلقها ومتعها كما قال الله: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[الأحزاب:49]، ولذلك ما زال الصالحون من عباد الله الواحد منهم إذا زهد في صحبة المرأة فإنه يطلقها ثم يزودها بعد انقضاء عدتها بكل ما تحتاج إليه من ثياب ومتاع وأثاث، وبعض الصالحين يخيرها ويقول لها: خذي كل ما تريدينه من البيت من أثاث ومن غيره، ثم يحملها معززة مكرمة إلى بيت أهلها، فلا يشتم ولا يسيء ولا يطلع الناس على عيوبها.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
لباب النقول في أسباب النزول [2] 2280 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [4] 2027 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [7] 1943 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [8] 1862 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [3] 1787 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [1] 1778 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [5] 1586 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [10] 1385 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [9] 1218 استماع
لباب النقول في أسباب النزول [6] 674 استماع