ديوان الإفتاء [757]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في حلقة جديدة من ديوان الإفتاء.

الأمر بقيام الآباء بمسئوليتهم لنجاة أبنائهم

أبدؤها بتوجيه رسالة إلى الآباء، وأعني بذلك آباء الزوجات.

كثير من المشكلات الزوجية التي تصل إلى وضع متأزم وإلى مرحلة حرجة سببها بأن كثيراً من الآباء لا يقوم بما أوجب الله عليه في رأب الصدع وتوجيه الزوجين معاً، باعتبارهما من أولاده، الزوجة هي بنته وزوجها كذلك هو بمنزلة ولده؛ فالواجب أن يكون للآباء دور مقدر؛ عملاً بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وعملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ).

موقف الأب من رفض ابنته الزواج للتعلل بالدراسة ونحوها

فمثلاً بعض الآباء إذا تقدم خاطب لابنته فإنه يعرض الأمر عليها، ويقول لها: تقدم لك فلان، أو تقدم لك شخص مواصفاته كذا وكذا؛ فلو أن البنت قالت له: أنا لا رغبة لي في الزواج الآن، أو أنا أريد أن أكمل دراستي، ونحو ذلك من الكلمات؛ فإن الأب ينقل هذه الإجابة للخاطب أو الراغب في الاقتران بها دون أن يكون له ذلك الدور التوجيهي الرسالي الذي ألزم الله به الآباء تجاه بناتهم، وهذا خطأ؛ بل ينبغي للأب أن يستشير ابنته.. وأن يستأمرها.. وأن يستأذنها.. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن البكر تستأذن وإذنها صماتها، وبين صلوات ربي وسلامه عليه أنه لا بد من الرضا، لما جاءت إليه الخنساء بنت خدام رضي الله عنها تشكو إليه أن أباها قد زوجها من ابن أخيه ليرفع خسيسته وهي كارهة، أبطل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك النكاح؛ ذلك لأن رضا البنت مطلوب ومهم، وما ينبغي إجبارها ولا إكراهها على الزواج بمن لا ترضى.

لكن أحياناً قد تكون الأجوبة بادي الرأي، يعني: البنت هكذا بداية قالت: لا، أنا أريد أن أكمل دراستي، أو قالت: أنا لا أفكر بالزواج في هذا الحين أو في هذا الوقت؛ فما ينبغي للأب أن يكتفي بهذا ويسكت؛ بل الواجب عليه أن يقوم بالدور التوجيهي، فيقول لها: يا بنيتي! الزواج شرعه الله عز وجل وهو قانون الكون كله؛ قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، وقال سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36]، والأنثى مهما امتدت بها الحياة فلا بد أن تتزوج لتحيا حياة مستقرة نفسية وعاطفية، وغير ذلك من الموجهات، ثم يقول لها: لا تعارض بين الدراسة وبين الزواج، وممكن أن تجمعي بين الحسنيين، ويذكرها بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )، ويقول لها: أنا والدك ولا أرجو لك إلا الخير، ولا أتمنى لك إلا السعادة، وهكذا يخاطب عقلها وعاطفتها بما يشرح لها وجهة النظر، ويبين لها مرامي الخير في هذا الاختيار الذي يريده والدها لها، هذا هو الواجب.

الموقف الذي ينبغي للأب اتخاذه عند مجيء ابنته إليه مغاضبة زوجها

ثم بعد ذلك لو أن الزواج حصل وقدر الله أن يكون ثمة خلاف بين الزوجين، كما هو واقع في البيوت كلها ولا يكاد يسلم من ذلك بيت، لو أن البنت جاءت مغاضبة زوجها فينبغي للوالد هاهنا أن يكون حكيماً في معالجة هذا الأمر، ولا يسعى إلى التخبيب ولا إلى الإفساد، وما يبسط لابنته وجهه ويفتح لها بيته ويقول لها: دعيه، إما أن يأتي صاغراً ذليلاً وإلا فنحن في غنى عنه، وبيت أبيك يسعك ويسع عشراً غيرك، ونحو ذلك من الكلمات، هذا الكلام ما ينبغي أن يكون.

الخطأ في الأعم الأغلب من الخلافات الزوجية يكون بنسبة معينة، لا يكون الزوج مخطئاً بنسبة مائة بالمائة ولا الزوجة مخطئة بنسبة مائة بالمائة، وإنما هناك نسبة من الخطأ، وليس في الكون معصوم من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك ينبغي لوالد الزوجة باعتباره وليها والقيم عليها -وهو الذي قام بتزويجها وأراد لها الخير بذلك- أن يسعى في الإصلاح وأن يخاطب عقل هذه الزوجة وعاطفتها، ويبين لها بأن هذا الزوج لعله أخطأ في كذا وكذا، لكن من محاسنه كذا وكذا وكذا.. ويبين لها كذلك بأنه لا يسلم أحد من خطأ ولا من زلل، ويبين لها الطريقة الشرعية في علاج الخلافات الزوجية كما كان يفعل الصالحون من عباد الله.

هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه تأتيه أسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها، وهي من هي في رسوخ قدمها في الدين وقوة الإيمان واليقين، تشكو إليه من زوجها الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن صفية ؛ فماذا يقول أبو بكر رضي الله عنه وهو التاجر الموسر وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ثاني اثنين إذا هما في الغار، وهو من بني تيم ومن سادات قريش؛ لكنه رضي الله عنه يقول لابنته أسماء : اصبري يا بنية! فإن الزبير رجل صالح، وإني لأرجو أن يكون رفيقك في الجنة. إنه يأمرها بالصبر.

وقبل ذلك لما غاضبت فاطمة علياً رضوان الله عليهما، جاء النبي صلوات ربي وسلامه عليه إلى بيت فاطمة ، وأول ما سألها قال لها: ( أين ابن عمك؟ )، يذكرها صلوات ربي وسلامه عليه بوشيجة الرحم، بعد أخوة الإسلام، ( أين ابن عمك؟ )، ما قال لها: أين علي ؟ أين الزوج؟ أو كما يقول بعض الناس الآن: أين المشئوم؟! وغيرها، ولم يضف على الزوج من عبارات التقريع والتوبيخ والتأنيب ما يزيد الزوجة عداوة وبغضاء لزوجها؛ بل قال: ( أين ابن عمك؟ فقالت: هو في المسجد يا رسول الله! )، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد ووجد علياً مضطجعاً وقد التصق التراب بجنبه، فمازحه صلوات ربي وسلامه عليه وقال: ( قم أبا تراب )، هذه ممازحة لـعلي رضي الله عنه من أجل أن يطيب نفسه، وأن يعلم بأن أبا الزوجة ما جاء معاتباً ولا جاء معنفاً ولا جاء مظاهراً لابنته على زوجها، وإنما جاء بغرض الإصلاح، فقال: ( قم أبا تراب ! )، ثم بعد ذلك أصلح النبي عليه الصلاة والسلام بينهما وخرج صلوات ربي وسلامه عليه سعيداً مسروراً، وقد أصلح بين أناس هم من أحب الناس إليه.

وكذلك ينبغي للأب العاقل إذا جاءته ابنته مغاضبة أو إذا اتصلت به تشكو زوجها أن يهون عليها الأمر، ولا ينبغي أن يأخذه ما قرب وما بعد، ويعتقد بأن هذه نهاية الدنيا، وأن في هذا حطاً من كرامته وخدشاً لرجولته، ولا يحدث نفسه قائلاً: إني قد زوجت هذا اللئيم من ابنتي، ثم بعد ذلك أساء إليها أو أغلظ عليها أو قصر في حقها.. أو نحو ذلك. لا، بل يهون عليها، بأن التقصير سمة ابن آدم، وأن النسيان جبلة فيه، وأنه ما من أحد منا إلا ويخطئ ويصيب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصانا بأنه ( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر )، كذلك لا تفرك مؤمنة مؤمناً، إن كرهت منه خلقاً رضيت منه آخر، ونحو ذلك من الأشياء التي تجعل الزوجة تتطامن، وتعيد التفكير، ويذهب بعض ما في نفسها من غل على الزوج، هذا الذي ينبغي أن يقوم به الأب.

إخوتي وأخواتي! خلاصة ما أريد أن أقوله: إن على الأب دوراً عظيماً ينبغي أن يقوم به وأن يحققه؛ لأنه يقيناً ما منا واحد إلا وهو يرجو الخير لبناته، ويرجو لهن حياة زوجية مستقرة، ويرجو لهن سعادة واستقامة وأمناً وأماناً، هذا الذي يريده كل أب سوي لبناته؛ لكن أقول: بأن كثيرين لا يسلكون السبيل الأرشد في سبيل تحقيق هذه الغاية التي نرجوها جميعاً.

ما ينبغي للوالد كذلك أن يعنف زوج ابنته أمامها؛ لأنه بذلك قد يوغر صدر الزوج ويشعره بأن أبا الزوجة قد جاء مناصراً، وربما يؤدي ذلك بالزوجة إلى أن تعيره فيما بعد؛ بل نسلك سبيل الحكمة من أجل أن نؤلف بين القلوب ونصلح بين المتنافرين أو المتخاصمين.

وأختم بقول الله عز وجل: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114]، وبقول النبي المختار صلوات ربي وسلامه عليه: ( ألا أدلكم على ما هو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ).

أبدؤها بتوجيه رسالة إلى الآباء، وأعني بذلك آباء الزوجات.

كثير من المشكلات الزوجية التي تصل إلى وضع متأزم وإلى مرحلة حرجة سببها بأن كثيراً من الآباء لا يقوم بما أوجب الله عليه في رأب الصدع وتوجيه الزوجين معاً، باعتبارهما من أولاده، الزوجة هي بنته وزوجها كذلك هو بمنزلة ولده؛ فالواجب أن يكون للآباء دور مقدر؛ عملاً بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وعملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2824 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2650 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2535 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2534 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2508 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2476 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2466 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2443 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2407 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2407 استماع