ديوان الإفتاء [606]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, كما يحب ربنا ويرضى, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته, ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من ديوان الإفتاء.

وأنبه إلى أن هذا البرنامج المبارك سيكون في كل ليلة في مثل هذا الوقت إن شاء الله, وسيتناوب على تقديمه ثلة من أهل العلم والفضل في هذه البلاد، بثاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعليماً لتفسير كتاب الله عز وجل، وجواباً لأسئلة الناس في نوازلهم, وبياناً لما يحتاجون إلى بيانه.

ويحسن في مقدمة هذه البرنامج ونحن في دورة برامجية جديدة, أن أذكر ببعض الآداب التي تلزم المفتي والمستفتي، وتلزم المجيب والسائل معاً, فإن المسئولية مشتركة بيننا، وقد قيل: بأن حسن السؤال نصف العلم, وهاهنا لا بد من أن أذكر خمس مسائل:

المقصود بالفتوى

المسألة الأولى إخوتي وأخواتي هي أن الفتوى: بيان حكم الله عز وجل جواباً لسؤال سائل, وهي في اللغة مشتقة من الفتى، كما يقول الزمخشري بمعنى: حديث السن, والفتوى لما كانت جواباً على حادثة, وبياناً لحكم الله في نازلة من النوازل, إن كانت نازلةً حقيقة, أو كانت نازلة باعتبار سؤال الشخص عنها, فمن من أجل هذا سميت فتوى.

منزلة الفتوى في الإسلام

المسألة الثانية: إن الفتوى من الدين بمنزلة عظيمة, وقد تولاها رب العالمين جل جلاله بنفسه في كتابه الكريم, فقال سبحانه: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا[النساء:127], وفي قوله سبحانه: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ[النساء:176], الآية, وفي مواضع من القرآن أجاب الله عز وجل على أسئلة السائلين، كما في قوله سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ[البقرة:219], وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ[البقرة:222], وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهمْ خَيْرٌ[البقرة:220], وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا[طه:105], وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مهمته الأولى بيان ما أنزل الله إليه من القرآن، وتفصيل الأحكام التي أجملت فيه، كما قال سبحانه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[النحل:44], وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل عديدة، فأجاب الجواب الشافي صلوات ربي وسلامه عليه, فسئل صلوات ربي وسلامه عليه عن الأشربة، وسئل عن الأطعمة، وسئل عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليرى مكانه, أي ذلك في سبيل الله.

ثم من بعده صلوات ربي وسلامه عليه تولى أصحابه بيان أحكام الله عز وجل لمن سأل, ولذلك الإمام القرافي وهو من علماء المالكية عد المفتي ترجماناً عن الله عز وجل, والإمام ابن القيم رحمه الله عد المفتي موقعاً عن رب العالمين, إذا قال: هذا حلال وهذا حرام، فإنما يوقع عن الله عز وجل، وقال: إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمنزلة التي لا تجهل، والمكانة التي لا تغفل، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات، أو قريباً من هذا.

التحذير من الفتوى بغير علم

المسألة الثالثة: إن نصوص القرآن والسنة قد تتابعت في التحذير من الفُتيا بغير علم, والقول على الله عز وجل أو على رسوله صلى الله عليه وسلم بغير بينة, يقول سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ[النحل:116], وقال سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[الأنعام:144], وقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33], وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ( أجرأ الناس على الفُتيا أجرؤهم على النار ), وقال: ( من أفتى بفتيا غير ثبت كان إثمه على من أفتاه ), ( ومن قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ ) قال علماؤنا: وينبغي لولي الأمر أن يمنع من يفتي الناس بغير علم, وأن يحول بينه وبين إضلال الناس, فهو بمنزلة من يرشد الناس إلى الطريق وهو أعمى, وبمنزلة من يطبب الناس ولم يعلم منه طب, فلو أن إنساناً حمل مشرطاً وقال للناس: أنا طبيب, ثم بعد ذلك استبان أنه لا علم له بالطب, وأنه ما تلقاه في معاهده ولا تعلمه من الأطباء الموثوقين من أجل أن يأخذ منهم أسرار الطب وأصول المهنة ليكون عالماً حاذقاً في طبه فإنه يمنع ويحظر, وكذلك في الفُتيا والقول على الله عز وجل بهذا حلال وهذا حرام، ينبغي لولي الأمر أن يمنع من يخبط فيه خبط عشواء، ويحول بينه وبين ذلك.

تورع السلف عن الفتيا

المسألة الرابعة: إن سلفنا رحمة الله عليهم كانوا أورع الناس في الفُتيا وكانوا يتدافعونها, فقد روى الإمام الدارمي رحمه الله في مقدمة سننه: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قال: أدركت بهذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار لا يحدث أحدهم بحديث إلا ود لو أن أخاه كفاه, ولا يفتي أحدهم بفتيا إلا ود لو أن أخاه كفاه. وروي أن رجلاً سأل عامراً الشعبي : كيف كنتم تصنعون في الفُتيا؟ قال له: على الخبير سقطت, كان الرجل إذا سئل يقول لصاحبه: أفتهم فلا يزالون كذلك حتى ترجع إلى الأول. و القاسم بن محمد بن أبي بكر رحمه الله ورضي عنه، وكان وعاءً من أوعية العلم سأله أحد الناس سؤالاً فقال له: لا أحسنه, فقال له الرجل: جئتك لا أعرف غيرك, فقال له: يا ابن أخي! لا يغرنك طول لحيتي، ولا كثرة الناس حولي والله لا أحسنه, فقال له رجل من قريش: ما رأيتك في مجلس قط أنبل منك اليوم، الزمها يا ابن أخي, فقال له القاسم رحمه الله ورضي عنه: والله لأن يقطع لساني أحب إليّ من أن أقول على الله ما لا أعلم.

ودخل بعض الناس على ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو شيخ الإمام مالك فوجده يبكي، فقال له: ما لك؟ قال: حدث في الإسلام أمر عظيم: استفتي من لا يعلم، ولبعض من يفتي الناس أولى بالسجن من السراق. والإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله ورضي عنه قال: والله لولا الخوف من أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً بشيء يكون له المهنأ وعلي الوزر, هكذا كانوا رحمة الله عليهم ورضي الله عنهم.

والشعبي رحمه الله لما سأله بعض الناس سؤالاً فقال له: لا أدري، قال له السائل: أما تستحي وأنت فقيه العراق؟ فقال له: لكن الملائكة ما استحت حين قالت: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا[البقرة:32], وكذلك الإمام مالك رحمه الله لما سأله بعض الناس سؤالاً، فقال له: لا أدري، قال له الرجل: جئتك من اليمن وتقول: لا أدري ماذا أقول للناس, قال له: قل لهم مالك بن أنس يقول: لا أدري.

إخوتي وأخواتي! أطول بذكر هذه النقول عن هؤلاء العلماء الأجلاء والفقهاء النبلاء القاسم بن محمد و أبي حنيفة النعمان و عامر الشعبي و ربيعة بن أبي عبد الرحمن و مالك بن أنس و عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم؛ لأن كثيراً من الناس يستعظم ويستنكر إذا سأل سؤالاً فقال له المسئول: لا أدري, أو قال له: الله أعلم, ويظن أنه يدلس عليه، أو أنه لا يرغب في أن يجيبه، لكنني أقول: بأن هذا الذي تعلمناه من نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يُسأل في بعض المسائل فيقول: لا أدري، وكان يسأل أحياناً فيمسك عن الجواب حتى ينزل الوحي, وهكذا أصحابه رضوان الله عليهم كان الواحد منهم يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

وهكذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول: أيها الناس! من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم, فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم, قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ[ص:86].

صور من تجاسر أهل زماننا على الفتوى بحجج واهية

المسألة الخامسة: ظهر في زماننا ناس يتجاسرون على الفُتيا، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، لا يقدرون الله حق قدره, ولا يبالي الواحد منهم بأن يقول: هذا حلال وهذا حرام بغير أثارة من علم أو هدى أو كتابٍ منير.

ومن صور ذلك: أن بعضهم يخوض في المسألة خوضاً مع الخائضين, فإذا قيل له: اتق الله قال: الإسلام ليس فيه رجال دين, أو الإسلام ليس فيه كهنوت, وهذه كلمة حق أريد بها باطل, فما عرفنا في ديننا طبقةً يقال لها: رجال الدين, ولا عرفنا في ديننا كهنوتاً, لكن عرفنا في ديننا العلماء الذين يرجع إليهم, وينزل على قولهم, قال الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43], وهو شعار هذا البرنامج, وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( هلا سألوا إذ جهلوا, إنما شفاء العيّ السؤال)، فالخوض في المسائل بدعوى أنه ليس في الإسلام رجال دين, هذا أيضاً من القول على الله بغير علم.

ومن صور القول على الله بغير علم: أن بعض الناس يدعي الاجتهاد بدعوى أن بابه مفتوح، وأنه لا حجر على العقول، فنقول: باب الاجتهاد مفتوح نعم, ولا حجر على العقول نعم, لكن لمن ملك آلة الاجتهاد وحصل أسبابه, ومن عرف كتاب الله، وفقه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان له قدرة على تمييز الصحيح من السقيم في ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير, سواء كان ذلك باستقلاله أو كان تقليداً منه لغيره من النابهين في علم الحديث وممن أفنوا أعمارهم في صحبة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن صور القول على الله بغير علم: اعتقاد بعضهم أن الخلاف حجة بذاته, فبعض الناس يعتقد أنه إذا كان في المسألة قولان, وإذا كان في القضية رأيان لشخصين من أهل العلم، أو لجماعتين من أهل العلم، فهذا يكفيه في أن يأخذ بأشهى الأقوال وأحبها إلى نفسه, لكنني أقول: الخلاف ليس حجة بذاته، خاصةً إذا كان خلافاً شاذاً مهجوراً مرغوباً عنه, فقد تجد من أهل العلم من قال بقصر الصلاة في السفر، أو قد تجد من بينهم من يقول بجواز الجمع بين المرأة وعمتها، أو المرأة وخالتها, إلى غير ذلك من أقوال شاذة قد هجرها العلماء وعدوها من النوادر أو السقطات, وكل راد ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولذلك أقول: الخلاف الذي يكون بين العلماء يميزه العلماء، ولا دخل للعامة به.

ومن صور القول على الله بغير علم: أن بعضهم يستجيب لضغط الواقع، فيأتي بأقوال ما سبق إليها, لربما قال بجواز ولاية الكافر على المسلمين, ولربما قال: بأن الحجاب للمرأة لها أن تأخذ به ولها أن تتركه, إلى غير ذلك من مسائل سمعت حديثاً من أفواه بعض الناس, وما حملهم على ذلك إلا الاستجابة لضغط الواقع, لكنني أقول: كتاب الله عز وجل بين، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة, وهناك مسائل هي مظان الإجماع لا يحل لمسلم أن يخالفها.

ومن صور القول على الله بغير علم: أن بعضهم يتتبع الرخص, وقد نقل الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي رحمه الله إجماع العلماء على تحريم تتبع الرخص, ونقل مثل هذا عن الإمام أبي محمد بن حزم الظاهري والإمام أبي الوليد الباجي ، وغيرهم من أئمة العلم: بأن الإنسان إذا تتبع الرخص وسقطات أهل العلم فإنه يجتمع فيه الشر كله, فلو أنه أخذ بقول أهل العراق في النبيذ، وبقول أهل المدينة في الغناء, وبقول ابن عباس في نكاح المتعة، وبقول غيره في أنه لا ربا إلا في النسيئة, فإنه يجتمع فيه الشر كله، وكما قال الإمام أحمد : من تتبع نوادر العلماء خرج من الإسلام, وحقيقة ذلك أن العلماء يصيبون ويخطئون, فليس العالم معصوماً, ولا أحد معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه الذي لا ينطق عن الهوى, ومن دونه من بعد ذلك بدايةً من الصديق أبي بكر وانتهاءً بأصغر علماء الأمة يؤخذ من قوله ويترك، رادّ ومردود عليه, فما ينبغي للإنسان العاقل أن يتتبع الرخص ذات اليمين وذات الشمال, وإلا سيجد نفسه قد خرج من الدين، نسأل الله السلامة والعافية.

إخوتي وأخواتي! شروط المفتي, وأخلاقه, وآدابه, يأتي الكلام عنه في حلقة آتية إن شاء الله؛ لئلا يطول بنا الأمر، أدع ما بقي من وقت البرنامج لأسئلتكم.

المسألة الأولى إخوتي وأخواتي هي أن الفتوى: بيان حكم الله عز وجل جواباً لسؤال سائل, وهي في اللغة مشتقة من الفتى، كما يقول الزمخشري بمعنى: حديث السن, والفتوى لما كانت جواباً على حادثة, وبياناً لحكم الله في نازلة من النوازل, إن كانت نازلةً حقيقة, أو كانت نازلة باعتبار سؤال الشخص عنها, فمن من أجل هذا سميت فتوى.