ديوان الإفتاء [305]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار.

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ومع حلقة جديدة من ديوان الإفتاء، أسأل الله أن يجعلها نافعة مفيدة.

وقد تقدم معنا الكلام في تعريف الوضوء وبيان حده، وتقدم معنا الكلام في أن الوضوء للصلاة مفروض بالكتاب والسنة والإجماع، وأنه ليس من خصوصيات هذه الأمة، بل كان مشروعاً للأمم قبلها، مثل ما شرعت الصلاة والصيام، وتقدم معنا الكلام في فضائل الوضوء، وأنه من خير الأعمال التي يتقرب بها المؤمن إلى ربه، وأنه لا يشترط وضوءاً مخصوصاً لكل صلاة؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! رأيتك قد صنعت شيئاً ما كنت تصنعه؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عمداً صنعته ) ، وبقي معنا الكلام إخوتي وأخواتي في هذه الحلقة -إن شاء الله- عن فرائض الوضوء.

قال أهل العلم: فرائض الوضوء سبعة، مذكورة في قول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6].

النية

وأول هذه الفرائض: النية، ومعناها: العزم بالقلب على فعل الشيء دون تردد، والنية مأخوذة من قول ربنا جل جلاله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، والإرادة من أفعال القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) ، والنية تميز العبادة عن العادة، فرب إنسان يغسل أعضاءه تبرداً وتنظفاً، ورب إنسان يغسلها تعبداً وتطهراً، والذي يميز بينهما هي النية، كذلك بالنسبة للغسل أول فرائضه النية، فالإنسان يعمم جسده بالماء على نية رفع الحدث، واستباحة ما كان ممنوعاً منه، وإنسان آخر يعمم جسده بالماء تبرداً لأن الجو حار، أو تنظفاً لأنه يشعر بشيء من التفث، فالذي يميز العادة عن العبادة: هي النية، التي محلها القلب، والنية لا يشترط التلفظ بها، بل لا يسن التلفظ بها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يقول إذا توضأ: نويت أن أتوضأ، وإنما كانت نيته في قلبه؛ فإن الإنسان إذا قام إلى الوضوء، فإنه ينوي بقلبه رفع الحدث، أو ينوي بقلبه استباحة ما كان ممنوعاً منه، وقد تقدم معنا الكلام أن المحدث يمنع من ثلاثة أشياء: يمنع من الصلاة، ويمنع من الطواف بالبيت العتيق، ويمنع من مس المصحف، فالإنسان إذا توضأ فإنه ينوي استباحة هذا الممنوع، أو ينوي رفع الحدث.

وهاهنا مسألة: لو أن إنساناً توضأ لشيء لا يشترط الوضوء له، كما لو أنه توضأ للنوم، فإن بعض أهل العلم يقولون بأن هذا الوضوء لا يجزئ للصلاة، مثلاً: لو أنني أردت أن أنام، فتوضأت من أجل أن أبيت على طهارة، ثم بعد ذلك ما جاء النوم، وكان هناك شيء من الأرق، فأردت الصلاة فهل يجزئ أن أصلي بذلك الوضوء؟ بعض العلماء يقولون: لا؛ لأنه لما توضأ توضأ بنية أن ينام، لا بنية أن يصلي، ولا بنية أن يستبيح ما كان ممنوعاً منه، لكن الإمام أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى يقول: بأن هذا الإنسان توضأ تعبداً، على نية أن ينام على طهارة، كأنه يقول: يا رب! إن لقيتك لقيتك على طهارة، فإما أن نقول: بأن هذا الوضوء يرفع الحدث، وإذا كان يرفع الحدث فإنه يبيح الصلاة، وإما أن نقول: بأن وضوءه لا يرفع الحدث، إذاً صار وضوءه لهواً لا قيمة له، ولا ثواب فيه أصلاً، فلذلك نقول: لا حرج على الإنسان طالما أنه توضأ، حتى لو كان قد توضأ للنوم مثلاً، أو لحمل كتب العلم مما لا يشترط له الوضوء فإنه يجوز له أن يصلي بذلك الوضوء ولا حرج عليه في ذلك. هذه هي الفريضة الأولى من فرائض الوضوء.

غسل الوجه

الفريضة الثانية: غسل الوجه قال الله عز وجل: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] ، وكلمة الوجه مشتقة من المواجهة؛ لأن الإنسان يواجه به الناس، وهذا الوجه الذي يجب غسله، حده طولاً من منبت الشعر عادة إلى أسفل الذقن، وحده عرضاً من وتد الأذن إلى وتد الأذن، والوتد هو الجزء الناتئ عند طرف الأذن مما يلي الوجه، ولا يجب غسل الوتد، بل يجب غسل ما يليه من الوجه، وكذلك لا يجب غسل الشعر المنسدل على الوتد، وإنما - كما ذكرت - طولاً يغسل الوجه من منبت الشعر عادة، وحين نقول: عادة، أي أنه لا اعتبار بالأصلع، فلو أن إنساناً أصلع نبت شعره من وسط رأسه، أو لو أن إنساناً أغم، شعره منسدل على جبهته إلى أن يقارب حاجبيه مثلاً، نقول: لا عبرة بهذا ولا بذاك، وإنما يغسل الوجه من منبت الشعر عادة، فلو أن إنساناً أصلع فإنه لا يبدأ من نصف الرأس، وإنما يبدأ من منبت الشعر عادة، ولو أن إنساناً أغم أيضاً فإنه لا يبدأ من بداية الشعر، وإنما يبدأ من منحدر الجبهة، هذا من ناحية الطول، ومن ناحية العرض أيضاً يعمم وجهه، وصفة ذلك أن يأخذ الماء بكلتا يديه، فيصبه على أعلى جبهته ماسحاً بيديه، وإذا كانت له لحية فإنه يغسل أو يمسح على ما انسدل منها.

وهاهنا أمور ينبغي العناية بها عند غسل الوجه: أولاً يجب العناية بالتكاميش، فلرب إنسان صار في جبهته تكاميش، وفي وجهه تجاعيد، ولرب إنسان في وجهه جرح غائر قد برئ، فينبغي له أن يعتني بهذا كله، وأن يمر يده عليه، وكذلك يمر يديه على جفنيه، وعلى موق عينيه، وكذلك على ظاهر شفتيه، ويجب عليه كذلك أن يعتني بوتر الأنف، وهو ما بين المنخرين، وبمارنه وهو أعلى الأنف، ويجب عليه كذلك أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة، وأن يعتني بشاربه، ويعتني بالعنفقة، وهو الشعر النابت في أسفل الشفة السفلى، هذا كله عليه أن يعتني به حال غسله لوجهه.

وهناك أمور ينبغي اجتنابها عند غسل الوجه.

من هذه الأمور: ينبغي للإنسان أن يجتنب لطم وجهه حال غسله، فإن بعض الناس ممن غلب عليه الجهل أو الغلو لربما يأخذ الماء ثم يعمد إلى لطم وجهه بذلك الماء، ظناً منه أن في ذلك إحساناً للوضوء، وهذا من الاعتداء، والاعتداء في الطهارة مذموم، فقد ثبت في سنن أبي داود من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: ( أنه لما سمع ولده يقول في دعائه: اللهم إني أسألك القصر الأبيض على يمين الجنة إذا دخلتها. قال له: يا بني! سل الله الجنة، واستعذ به من النار، فإنك إن دخلت الجنة رزقتها بما فيها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في أمتي قوم يعتدون في الطهور وفي الدعاء )، أي: سيكون ناس إذا تطهروا اعتدوا، وإذا دعوا اعتدوا، والله عز وجل يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55] يعني: ليس هناك داع أن يقول الإنسان: اللهم إني أسألك القصر الأبيض على يمين الجنة -يحدد الموقع- إذا دخلتها، فالإنسان إذا رُزق الجنة - جعلنا الله من أهلها - فإنه يرزق الجنة بحورها، وقصورها، وحريرها، وطعامها، وشرابها، وأنسها، وبهجتها، وخضرتها، وفاكهتها، وأنهارها، وعسلها، إلى آخر ما فيها، فكذلك من الاعتداء في الطهور: مسألة لطم الوجه باليدين.

وكذلك مما يجتنب: أن يصب الإنسان وجهه بين كفيه، يعني: بعض الناس قد يأخذ الماء، ثم يعمد فيجعل وجهه بين كفيه، نقول: لا، أنت مأمور بأن تنقل الماء إلى وجهك، لا أن تنقل وجهك إلى الماء.

وكذلك من الاعتداء في غسل الوجه: أن يعمد الإنسان إلى أن يدخل الماء في عينيه؛ لأن هذا من التشديد الذي لا ينبغي قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فالله عز وجل ما أمرنا بأن نغسل باطن أعيننا، وإنما أمرنا بأن نغسل ظاهرها كل هذا من الذي ينبغي أن يجتنب في غسل الوجه.

غسل اليدين

الفرض الثالث: غسل اليدين، قال الله عز وجل: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] واليد تطلق على العضو من أطراف الأصابع إلى نهاية العضد، إلى أول الكتف، هذه كلها يد، فالكف من اليد، والذراع من اليد، والعضد من اليد، لكن الله عز وجل قال: إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] ، والمرفق هو العظم الذي يفصل بين الذراع والعضد، وسمي مرفقاً لأنه يرتفق به، يعني: الإنسان إذا جلس، أو إذا أراد أن يستريح، أو إذا أراد أن ينهض فإنه يستعين بهذا الجزء، قال الله عز وجل: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] والعلماء قالوا: إلى هنا بمعنى مع، أي: وأيديكم مع المرافق؛ ولذلك ينبغي أن يدير الماء أو الغسل على مرفقه، وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا غسل يديه جاوز المرفق حتى يشرع في العضد، وهذا من باب الاحتياط، من أجل أن يتأكد أن المرفق قد دخل في الغسل، وينبغي للإنسان إذا غسل يديه أن يعتني بالبراجم، والبراجم هي المفاصل التي عد رسول الله صلى الله عليه وسلم غسلها من خصال الفطرة، ويعتني كذلك بأن يجمع رءوس الأصابع فيدلكها على كفه، اليمنى على اليسرى، واليسرى على اليمنى، من أجل أن يتأكد أن الماء قد لابسها وخالطها، وكذلك يعتني بتخليل الأصابع من ظاهر الكف؛ لما ثبت من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: ( إذا توضأت فخلل الأصابع ) ويكون التخليل من الظاهر لا من الباطن، فإن فعل من الباطن أجزأ إن شاء الله.

وفي فرض اليدين هاهنا مسائل أذكرها:

أولاً: ماذا يفعل الأقطع، يعني ربما يبتلى بعض الناس -عافانا الله جميعاً والمسلمين- بأن تقطع يديه؟

نقول: إذا قطعت يده إلى محل الفرض، يعني: إذا قطعت يده مثلاً إلى المرفق، أو من باب أولى إلى الكتف، فقد سقط الغسل؛ لأن الله عز وجل فرض عليه أن يغسل اليد، واليد قد ذهب محلها، فسقط ما أوجبه الله عز وجل، وليس مأموراً بأن يغسل العضد، وإذا قطع العضد فليس مأموراً بأن يغسل الكتف؛ لأن الله عز وجل إنما فرض غسل اليد إلى المرفق، طيب: لو بقي من اليد شيء فإنه يغسل هذا الباقي، يعني: لو فرض أن إنساناً قطعت يده من مفصل كفه، بمعنى قطعت الكف وبقي الذراع، فإنه يغسل الباقي؛ لأن هذا هو المستطاع، والله عز وجل قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ، وكما قال علماؤنا: المقدور عليه لا يسقط بالمعجوز عنه. فهذه الكف التي قطعت هو عاجز عن غسلها؛ لأنها ذهبت فبقي الذراع مقدوراً عليه، فيغسله.

المسألة الثانية: ماذا يصنع الإنسان بالخاتم؟

نقول: الخاتم لا يخلو من حالين: إما أن يكون مأذوناً فيه، أو ممنوعاً منه، فالخاتم المأذون فيه هو خاتم الفضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اتخذ خاتماً من فضة، نقشه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم )، فلو أن الإنسان اتخذ خاتماً من فضة فإنه لا يلزمه تحريكه، وإنما إذا كان واسعاً فإن الماء يتخلله، وإذا لم يكن واسعاً، وإنما هو قد أطبق على الأصبع ونبت عليه اللحم، فإنه كذلك لا يجب نزعه، وإنما يقوم مقام الجبيرة التي أذن الشرع في المسح عليها؛ لأن الشرع قد أذن لنا في اتخاذ خاتم الفضة، وأما إذا لم يكن الخاتم مأذوناً فيه، كخاتم الذهب بالنسبة للرجل، أو ما يسمى الآن بالدبلة؛ لأن بعض الناس الآن إذا خطب، أو إذا عقد اتخذ دبلة من ذهب -وإن كان والحمد لله في هذه البلاد هذا قليل جداً، بل لا يكاد يرى- فنقول: هذا الإنسان لو أراد أن يتوضأ، فإنه يجب عليه أن ينزع ذلك الخاتم، أو أن يحركه من أجل أن يصل الماء، ولولم يفعل ما صح وضوءه؛ لأنه عاص بلبس ذلك الخاتم والتحلي به أصلاً، فهذا فيما يتعلق بالخاتم.

مسح الرأس

الفرض الرابع: مسح الرأس كله؛ لأن الله عز وجل قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6] ، والباء للإلصاق، ودلت على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبت من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما توضأ أخذ ماءً جديداً فمسح به رأسه )، يعني: ليس الماء الذي بقي من غسل اليدين، وإنما أخذ ماءً غير ما فضل من غسل يديه، ( فأقبل بيديه وأدبر )، قالوا: المعنى: أدبر بيديه وأقبل، وصفة ذلك كما قال علماؤنا رحمهم الله: أن يأخذ الماء فينفضه من يديه، ثم بعد ذلك يجعل إبهاميه على صدغيه، والصدغان هما: ما بين العين والأذن، فيضع إبهاميه على صدغيه، ويقرن بين الوسطيين، ثم يدبر بيديه حتى يبلغ قفاه ثم يقبل، ولا تشرع في مسح الرقبة، فإن هذا من الغلو المذموم، وكذلك إذا غسلت وجهك لا تغسل صدغيك؛ لأن الصدغين ليسا من الوجه، وقد تقدم معنا الكلام في أن الوجه عرضاً من وتد الأذن إلى وتد الأذن، والصدغان ليسا داخلين في مسمى الوجه، فيقبل بيديه ويدبر، وهذا الإدبار هو الفرض، وأما الإقبال: أي الثانية فهي سنة من سنن الوضوء.

وحكمة الله عز وجل أنه جعل فرض الرأس المسح، وفرض الرجلين الغسل؛ لأن الرأس لا يلامس من الأذى إلا يسيراً، ولربما أصاب الشعر غبار ونحو ذلك، أما الرجلان مثلاً لما كانتا ملامستين للأذى، معرضتين للقذر، فإن ( النبي صلى الله عليه وسلم غسل رجليه حتى أنقاهما ) .

وبقي معنا الكلام عن غسل الرجلين، وتأويل قراءة حمزة بن حبيب الزيات و أبي عمرو بن العلاء و الكسائي : (وأرجلِكم إلى الكعبين) بالجر، وبيان وجه هذه القراءة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبقي الكلام عن الدلك والموالاة، لكن إن شاء الله نرجئ الكلام عنها إلى حلقة أخرى من أجل أن يتسنى الإجابة على أسئلتكم.

وأول هذه الفرائض: النية، ومعناها: العزم بالقلب على فعل الشيء دون تردد، والنية مأخوذة من قول ربنا جل جلاله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، والإرادة من أفعال القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) ، والنية تميز العبادة عن العادة، فرب إنسان يغسل أعضاءه تبرداً وتنظفاً، ورب إنسان يغسلها تعبداً وتطهراً، والذي يميز بينهما هي النية، كذلك بالنسبة للغسل أول فرائضه النية، فالإنسان يعمم جسده بالماء على نية رفع الحدث، واستباحة ما كان ممنوعاً منه، وإنسان آخر يعمم جسده بالماء تبرداً لأن الجو حار، أو تنظفاً لأنه يشعر بشيء من التفث، فالذي يميز العادة عن العبادة: هي النية، التي محلها القلب، والنية لا يشترط التلفظ بها، بل لا يسن التلفظ بها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يقول إذا توضأ: نويت أن أتوضأ، وإنما كانت نيته في قلبه؛ فإن الإنسان إذا قام إلى الوضوء، فإنه ينوي بقلبه رفع الحدث، أو ينوي بقلبه استباحة ما كان ممنوعاً منه، وقد تقدم معنا الكلام أن المحدث يمنع من ثلاثة أشياء: يمنع من الصلاة، ويمنع من الطواف بالبيت العتيق، ويمنع من مس المصحف، فالإنسان إذا توضأ فإنه ينوي استباحة هذا الممنوع، أو ينوي رفع الحدث.

وهاهنا مسألة: لو أن إنساناً توضأ لشيء لا يشترط الوضوء له، كما لو أنه توضأ للنوم، فإن بعض أهل العلم يقولون بأن هذا الوضوء لا يجزئ للصلاة، مثلاً: لو أنني أردت أن أنام، فتوضأت من أجل أن أبيت على طهارة، ثم بعد ذلك ما جاء النوم، وكان هناك شيء من الأرق، فأردت الصلاة فهل يجزئ أن أصلي بذلك الوضوء؟ بعض العلماء يقولون: لا؛ لأنه لما توضأ توضأ بنية أن ينام، لا بنية أن يصلي، ولا بنية أن يستبيح ما كان ممنوعاً منه، لكن الإمام أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى يقول: بأن هذا الإنسان توضأ تعبداً، على نية أن ينام على طهارة، كأنه يقول: يا رب! إن لقيتك لقيتك على طهارة، فإما أن نقول: بأن هذا الوضوء يرفع الحدث، وإذا كان يرفع الحدث فإنه يبيح الصلاة، وإما أن نقول: بأن وضوءه لا يرفع الحدث، إذاً صار وضوءه لهواً لا قيمة له، ولا ثواب فيه أصلاً، فلذلك نقول: لا حرج على الإنسان طالما أنه توضأ، حتى لو كان قد توضأ للنوم مثلاً، أو لحمل كتب العلم مما لا يشترط له الوضوء فإنه يجوز له أن يصلي بذلك الوضوء ولا حرج عليه في ذلك. هذه هي الفريضة الأولى من فرائض الوضوء.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2822 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2648 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2534 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2532 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2506 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2475 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2464 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2442 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2406 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2405 استماع