ديوان الإفتاء [292]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].

أما بعد: إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في حلقة جديدة، أسال الله أن يجعلها نافعة مفيدة، وقد تقدم معنا الكلام في الحلقة الماضية عن الأعيان النجسة التي ينبغي للمسلم أن يتوقاها، وأن يعرف أحكامها، وأول هذه الأعيان: الميتة وهي كل ما مات بغير ذكاة شرعية، وعرفنا أن الميتة كذلك يلحق بها الحيوان الذي لا تعمل فيه التذكية، وهو ما كان محرماً لذاته كالخنزير، والحمار الأهلي، وذوات الناب من السباع، فهذه كلها حكمها حكم الميتة، ومن النجاسات كذلك المسكرات المائعات؛ لأن الله عز وجل سماها رجساً، ومن النجاسات كذلك بول الآدمي ورجيعه، وبول ما لا يؤكل لحمه ورجيعه، وكذلك المذي والودي والمني عند جماعة من أهل العلم، ومن الأعيان النجسة كذلك بيض ولبن ما كان نجساً لا يؤكل لحمه، ومثله أيضاً المذر، وهو البيض المتعفن، وذكرت لكم في الختام أن هذه الحلقة إن شاء الله سأذكر فيها بعضاً من الأعيان التي يحسبها الناس نجسة، وليست بنجسة.

الحشرات والأحياء البحرية

وأول هذه الأعيان إخوتي وأخواتي: الحشرات، وما لا دم له، أو كما يعبر علماؤنا: ما لا نفس له سائلة، كالذباب، والنمل، والنحل، والخنفساء، ومثلها بنات وردان، أو ما يسميه الناس الآن بالصرصار، فهذه كلها ليست نجسة، ويدل على ذلك الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء ) ومعلوم أن الذباب لو سقط في الطعام أو الشراب بارداً كان أو حاراً فإنه يموت، والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بغمسه، ثم طرحه، ومعنى ذلك بأن الطعام والشراب لا يتنجس بغمسه، فدل ذلك على أن كل ما كان خالياً من الدم فإنه يكون طاهراً حياً كان أو ميتاً.

ومن الأعيان الطاهرة: الحيوان البحري، سواء كان مما تطول حياته في البر أو لا، كالضفدع والسلحفاة؛ لأن عموم الحديث يشمل هذا وغيره وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: ( هو الطهور ماؤه, الحل ميتته ).

ما لا حياة فيه كشعر ونحوه

ومن الأعيان الطاهرة كذلك: الشعر، والوبر، والصوف، سواء كان من حي أو من ميتة، ودليل ذلك قول ربنا جل جلاله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل:80] فالله عز وجل أباح لنا الانتفاع بالشعر والصوف والوبر، ولم يفرق بين ميتة ومذكاة، قال علماؤنا: لأن الشعر والصوف والوبر مما لا تحل فيه الحياة، بدليل أن الحي لا يتألم بجزها وقطعها وأخذها.

الآدمي والحيوانات وما انفصل منها

ومن الأعيان الطاهرة: الآدمي، حياً كان أو ميتاً، مؤمناً كان أو غير مؤمن؛ لأن الله عز وجل قال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] ، وفي الحديث أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي هريرة : ( سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس ).

وكذلك ما انفصل من الحيوان آدمياً كان أو غيره، سواء كان ريقاً، أو عرقاً، أو مخاطاً، هذا كله طاهر، ويشهد لهذا حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: ( كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي -أي في الحج- ولعابها يمسني ) ، ومن الأدلة على أن العرق طاهر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً معرورياً لـأبي طلحة ) أي: فرساً ليس عليه سرج، وليس هناك فاصل بين جسد النبي صلى الله عليه وسلم وجسد الفرس، ومعلوم بأن الفرس إذا ركض فإنه ينفصل منه العرق، وأيضاً روى الإمام مالك في الموطأ أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يعرق في الثوب وهو جنب، ثم يصلي فيه، فدل ذلك على أن العرق طاهر، ومثله أن علماءنا رحمهم الله مجمعون على جواز نكاح الكتابية، وهي ليست بمؤمنة، ومعلوم بأن الزوج إذا ضاجع زوجته فإن عرقها يمسه، فدل ذلك على أن العرق طاهر، سواء كان من مؤمن أو غير مؤمن، ودل ذلك أيضاً على أن الريق طاهر، ويدل على ذلك: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبالة المسجد -أي في ناحية القبلة- فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أراد أحدكم أن يتنخع أو يتنخم فليجعلها عن يساره تحت قدمه، أو ليجعلها في ثوبه ثم يدلكه ) ولو كان الريق نجساً أو النخامة نجسة، لما أباح النبي صلى الله عليه وسلم أن تجعل في الثوب أثناء الصلاة.

السباع خلا الكلب

ومن الأعيان الطاهرة: السباع التي لا يؤكل لحمها، ويدل على ذلك ما ثبت في الموطأ: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ، فإذا مرت به الهرة يصغي لها الإناء حتى تشرب، ويقول: إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) ، ومعلوم بأن الهرة من ذوات الناب، وهي تأكل الميتة، وربما تأكل بعض الأشياء النجسة، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى لها الإناء، فشربت، ثم أتم وضوءه صلوات ربي وسلامه عليه، فدل ذلك على أن سؤر السباع طاهر ما خلا الكلب، فإن رواية ابن وهب رحمه الله عن مالك تدل بأنه حكم بنجاسة سؤر الكلب؛ لظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب ) ، وهذه المسألة خالف فيها المالكية رحمهم الله، استدلالاً بالحديث الصحيح: ( أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرشون من ذلك شيئاً ) ، وأن عبد الله بن عمر كان شاباً عزباً ينام في المسجد، ومعلوم بأن نومه يستلزم أن يكون له ثياب، وأن يكون عنده شراب، وأن يكون عنده طعام. ولربما مست الكلاب شيئاً من ذلك، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسله.

ما يصيب الإنسان في الطريق وأثناء مروره

ومن الأعيان الطاهرة الماء الذي يصيب المارة، يعني: ربما يكون الإنسان في طريق، خاصة في الأماكن التي فيها بنايات عالية، فيصيبه شيء من الماء، فلست مأموراً أيها المسلم بأن تتوقف وتسأل وتستفسر: يا عباد الله! هل هذا الماء طاهر أم نجس؟ بل الأصل حمله على الطهارة، ولا يتوقف الإنسان ويسأل عن مثل هذا.

ومن الأعيان الطاهرة: القيء الذي لم يتغير؛ فلو أن إنساناً أكل طعاماً، أو شرب شراباً، ثم تقيأه واستفرغه لسبب ما، وهو على حاله ما تغير بحموضة في طعمه، ولا باختلاف في ريحه، فحكمه حكم الطعام والشراب، ولا يعد من الأعيان النجسة.

ما يتولد من الأعيان الطاهرة

ومن الأعيان الطاهرة: اللبن والبيض، وما كان في حكمهما، كلبن المرأة؛ لأن بعض الناس ربما لو أصابه شيء من لبن المرأة فإنه يذهب ويغسله، ويتحرج، فنقول له: الآدمي لا يتربى إلا بهذا اللبن الطيب الطاهر الذي جعله الله غذاءً لأطفالنا وصغارنا، وكذلك لبن مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم فإنه يشرب وينتفع به ولا حرج في ذلك إن شاء الله، وكذلك البيض الذي يخرج من الطيور التي يؤكل لحمها، فإنه ينتفع به ولا حرج إن شاء الله، أما لبن مكروه اللحم فمكروه، ولبن محرم اللحم فهو محرم.

طهارة الدم غير المسفوح

ومن الأعيان الطاهرة الدم غير المسفوح: وهو الدم الذي يوجد في العروق وأنسجة اللحم، ولربما يطفو على القدر إذا طبخ اللحم، فهذا كله طاهر، ولا يتحرج منه الناس، وفي الحديث ( كنا نطبخ اللحم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الدم ليطفو على القدر ) فهذا الدم لا تأثير له؛ لأن الله عز وجل لما ذكر المحرمات الأربعة قيد الدم بأن يكون مسفوحاً قال سبحانه: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] .

ومن الأعيان الطاهرة: المسك، وهو طاهر بالإجماع، وأصله دم من خلية حيوانية، لكنه بعد ذلك استحال طيباً، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه أطيب الطيب )، فيجوز للإنسان أن يتمسح به، وأن يدهن به، ولا حرج في ذلك إن شاء الله رغم أن أصله دم.

البسط المتغيرة بطول المكث

ومن الأعيان الطاهرة: الحصر والبسط التي تغيرت بطول مكثها، فبعض الناس إذا أراد أن يصلي لا بد أن تكون السجادة جديدة نظيفة، أما إذا كانت متغيرة أو قديمة مهترئة فإنه يجد في نفسه حرجاً من الصلاة عليها، ومثل هذا لا تأثير له؛ لأن الحديث الثابت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه ( أن جدته مليكة رضي الله عنها، دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته, قال: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعم، ثم قمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فبسطناه، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف، فصففت أنا واليتيم خلفه, والعجوز من ورائنا ) يعني بالعجوز: جدته مليكة رضي الله عنها، فهذه كلها أعيان طاهرة.

سؤر السباع ما عدا الكلب

ومن الأعيان الطاهرة: سؤر السباع والحديث ثابت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر على حوض، يعني: من جنس ما يجمع فيه الآن البناءون الماء من أجل أن يستعملوه في البناء، وعجن المونة، وما أشبه ذلك، فأراد عمر أن يتوضأ، فقال عمرو بن العاص : يا صاحب المقراء!

هل ترد حوضك السباع؟ فقال له عمر : لا تخبرنا فإننا نرد على السباع وترد علينا؛ ولذلك لو أن الهرة، أو لو أن الثعلب أو النمر أو غيره شرب من ماء فلا مانع من أن نتطهر بهذا الماء بعده، اللهم إلا الكلب كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن نجاسته مغلظة، وقد أمرنا عليه الصلاة والسلام بغسل لعابه فقال: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم ليغسله سبعاً أولاهن بالتراب ) فهذه الأعيان طاهرة، وهي مما تشتبه على كثير من الناس.

وأكرر القول إخوتي وأخواتي بأن الأصل في الأشياء الطهارة، وهذا الأصل لا ينتقل عنه إلا بيقين، وإن شاء الله في الحلقة القادمة نتكلم عن المعفوات، فهناك أشياء نجسة، ولكن الشريعة خففت في أمرها، وعفت عنها لعموم البلوى بها.

أسأل الله أن يعلمنا علما نافعاً، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.

وأول هذه الأعيان إخوتي وأخواتي: الحشرات، وما لا دم له، أو كما يعبر علماؤنا: ما لا نفس له سائلة، كالذباب، والنمل، والنحل، والخنفساء، ومثلها بنات وردان، أو ما يسميه الناس الآن بالصرصار، فهذه كلها ليست نجسة، ويدل على ذلك الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء ) ومعلوم أن الذباب لو سقط في الطعام أو الشراب بارداً كان أو حاراً فإنه يموت، والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بغمسه، ثم طرحه، ومعنى ذلك بأن الطعام والشراب لا يتنجس بغمسه، فدل ذلك على أن كل ما كان خالياً من الدم فإنه يكون طاهراً حياً كان أو ميتاً.

ومن الأعيان الطاهرة: الحيوان البحري، سواء كان مما تطول حياته في البر أو لا، كالضفدع والسلحفاة؛ لأن عموم الحديث يشمل هذا وغيره وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: ( هو الطهور ماؤه, الحل ميتته ).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2822 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2648 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2534 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2532 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2506 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2475 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2464 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2442 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2406 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2405 استماع