ديوان الإفتاء [227]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

أما بعد:

سبب ذكر المسح على الخفين في باب الوضوء

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في حلقة جديدة من ديوان الإفتاء، والكلام في صدر هذه الحلقة يتناول المسح على الخفين، وعلماؤنا رحمة الله عليهم دائماً يذكرون المسح على الخفين، وعلى الجوربين، وعلى العمامة، وعلى الجبيرة، وعلى العصابة، في أبواب الوضوء؛ باعتبار أنها متعلقة بأعضاء الوضوء؛ لأنه قد مضى معنا الكلام في أن الأعضاء المذكورة في القرآن أربعة في قول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، فالرجلان يتعلق الكلام عليهما بالكلام عن المسح على الجوربين والخفين، والكلام على مسح الرأس يتعلق به الكلام على المسح على العمامة سواء كانت محنكة ذات ذؤابة أو لم تكن كذلك، ثم الكلام في المسح على العصابة، والجبيرة يعم هذه الأعضاء كلها، فقد تكون العصابة على الرأس، وقد تكون الجبيرة على اليد أو اليدين، أو الرجل أو الرجلين.

مشروعية المسح على الخفين

بالنسبة للمسح على الخفين نقول: هو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقول الله عز وجل: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ[المائدة:6]، هذه قراءة الجر قرأ بها أبو عمرو بن العلاء البصري ، و حمزة بن حبيب الزيات ، فقراءة الجر مؤولة على أنها في المسح على الخفين.

وأما السنة فقد ثبت من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فتوضأ، ( قال: فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما ).

وكذلك حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ فمسح على خفيه ) قال الأعمش : قال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان يعجبهم حديث جرير هذا؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، وفي رواية شهر بن حوشب رحمه الله قال: قلت لـجرير : أكان ذلك قبل نزول آية المائدة أم بعدها؟ فقال جرير: ما أسلمت إلا بعدما نزلت المائدة، بمعنى أن بعض الناس قالوا: بأن المسح على الخفين منسوخ بآية المائدة، فحديث جرير رضي الله عنه ينفي هذا الاحتمال؛ لأنه رضي الله عنه ما أسلم إلا بعد نزول المائدة، وقد ثبت في الحديث الصحيح بأن جريراً رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجله ويوقره، يقول رضي الله عنه: ( لما دنوت من المدينة لبست حلتي، وأنخت راحلتي، ودخلت المسجد، فرمقني الناس بأبصارهم، فقلت لهم: هل ذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: نعم ذكرك بخير ذكر، فقال: يدخل عليكم رجل من خير ذي يمن عليه مسحة ملك ) رضي الله عنه وأرضاه.

وكذلك المسح على الجوربين مشروع بالإجماع، قال الحسن البصري رحمه الله: روينا المسح على الجوربين عن سبعين صحابياً، ذكر هذا الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، ولذلك المسح على الخفين ثابت بالتواتر وبعض علمائنا رحمهم الله أدخله في أبواب العقائد؛ لأن فيه رداً على الرافضة الذين أنكروا المسح على الخفين.

شروط المسح على الخفين

إخوتي وأخواتي! المسح على الخفين له شروط، هذه الشروط بعضها يتعلق بالخفين، وبعضها يتعلق بالماسح، وبعضها يتعلق بالوقت، أما الخفان فقد اشترط المالكية رحمهم الله أن يكون الخفان من جلدٍ طاهرٍ مخروز ساتر لمحل الفرض، يمكن تتابع المشي فيه عادةً، وأن يلبس على طهارة، بمعنى: أنه يلبسهما بعد وضوء، وألا يكون عاصياً للبسهما، ولا مترفهاً، ومعنى: ألا يكون عاصياً، أي: ألا يكون الخفان مثلاً مسروقين، أو مغصوبين، أو يكون عاصياً بلبسهما بمعنى أنهما مما لا يحل لبسه، كما لو كانا من جلد ميتة لم يدبغ مثلاً، فلا بد أن يكون الخفان من جلد طاهر مخروزٍ ساترٍ لمحل الفرض يمكنه تتابع المشي فيه عادةً، وألا يكون اللابس عاصياً، ولا مترفهاً، وأن يلبسهما على طهارة.

مدة المسح على الخفين

ثم إنه لا بد من التقيد بالمدة، ففي صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن )، وأيضاً من حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وأمرنا ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة، لكن من بول ونوم وغائط )، بمعنى: أن الإنسان ما ينزع خفيه لأنه أصابه حدث أصغر كبول أو مظنة حدث كنوم، أو الحدث كالغائط، فلا ينزع الخف لا من بول ولا من نوم ولا من غائط، لكن ينزعه إذا أصابته الجنابة، ولا يصح المسح على الخفين من الحدث الأكبر، بل لا بد من أن يعم الماء البدن كله من قدمه إلى رأسه.

إخوتي وأخواتي! الخفان ليسا مستعملين في هذه البلاد، وما رأينا واحداً يلبسين خفين، بل الخفاف يستعان بها بالبلاد ذات البرد الشديد؛ لأن الأقدام تستفيد منها دفئاً وسخونة.

حكم المسح على الجوربين

لكن في بلادنا بعض الناس خاصة ممن يلبسون الملابس الإفرنجية، وطبيعة عملهم تقتضي ذلك، قد يلبسون أحذية، ومع الأحذية جوارب، فهل يصح المسح على الجوربين أو لا؟ الحديث رواه الإمام الترمذي وقال: حسن صحيح عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح على النعلين والجوربين )، وهذا الحديث الحفاظ الكبار كـأحمد بن حنبل و يحيى بن معين ، و علي بن المديني ، و عبد الرحمن بن مهدي ، و أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري رحمة الله على الجميع قد ضعفوه، وكما قال الإمام النووي رحمه الله: الواحد منهم مقدم على الترمذي ، يعني: أحمد و مسلم و عبد الرحمن بن مهدي ، و يحيى بن معين هؤلاء الواحد منهم مقدم على الترمذي لو انفرد، فكيف بهم وقد اجتمعوا على تضعيف هذا الحديث في مقابل قول الترمذي رحمه الله: بأنه حسن صحيح، لكن بعض العلماء قال: الجوربان كالخفين في المعنى؛ لأن القدم مثلما تستفيد من الخفين دفئاً وسخونة ووقاية، كذلك تستفيد من الجوربين.

والمالكية رحمهم الله قالوا: على فرض صحة هذا الحديث، فالجورب المقصود هو الذي يكون أسفله جلد، وأعلاه قطن أو صوف أو كتان، يعني: قيدوه بجورب مخصوص لا يستعمله الناس في أيامنا هذه، أو في بلادنا هذه، جوربان مخصوصان أسفلهما جلد، وأعلاهما قطن، أو صوف، أو كتان، أو غير ذلك من أنواع الأقمشة، لكن لو أخذنا قول بعض الصحابة رضي الله عنهم ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزوناها برداً وجدناه، فأمرنا أن نمسح على العصائب، والتساخين )، وكلمة التساخين: تشمل الجوربين، مثلما تشمل النعلين.

إذاً: يمكن أن يقال بجواز المسح على الجوربين، وقد قال بذلك جماعة من أهل العلم، لكن الجوربين اللذين يمسح عليهما لا بد أن يكونا ساترين لمحل الفرض، بمعنى أن يكون ساتراً من أخمص القدم إلى الكعبين، ولا يكونا مخرقين مقددين بحيث يبدو منهما ثلث القدم فأكثر، وبعض الناس قد يلبس جوارباً، لكن هذه الجوارب قد تمزقت من الأمام فبدت أصابعه، وأيضاً تمزقت من الخلف فظهر عقبه، ولربما ظهر كعباه، فهذا لا يصلح أن يمسح عليه، لكن إذا كان الجورب سليماً يمسح عليه، ولا بد أن يكون صفيقاً ولا يكون شفافاً من أجل أن يكون ساتراً، فالشفاف ليس بساتر، وألا يكونا محرمين، كما لو لبس الإنسان جوربين من حرير طبيعي مثلاً، فمثل هذا لا يمسح عليه لأنه عاصي، والعاصي لا يستفيد من الرخصة، فإذا كان الجوربان سليمين صفيقين، ولابسهما غير عاصٍ بلبسهما، يعني: لم يكونا مسروقين ولا مغصوبين، ولا هما من حرير مثلاً جاز له أن يمسح عليهما، يوماً وليلة، يعني: لو فرض بأن الواحد منا مثلاً قبل أن يخرج من بيته في الصباح توضأ وضوءاً كاملاً ثم لبس الجوربين، ثم بعد ذلك أحدث مثلاً في الساعة العاشرة، أو الساعة الحادية عشرة، فإذا جاء وقت صلاة الظهر، وأراد أن يتوضأ جاز له أن يمسح على هذين الجوربين.

كيفية المسح على الخفين

أما كيفية المسح فهو أن يأخذ الماء وينفضه من يده، ثم المالكية رحمهم الله يقولون: يمسح عليهما ظاهراً وباطناً، بمعنى أنه في رجله اليمنى يجعل باطن كفه اليمنى على ظاهر رجله، ويجعل باطن كفه اليسرى على أسفل رجله استدلالاً بحديث المغيرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله )، لكن الأحاديث الصحيحة تثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مسح إلا على ظاهر الخف، ففي الصحيح أن علياً رضي الله عنه قال: ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على أعلى الخف )، يعني: علي رضي الله عنه يقول: لو كان الأمر أمر رأي واستمزاج، فالعقل يقول: بأن الذي يلامس الأذى أسفل الخف وليس أعلاه، فالمسح ينبغي أن يكون في الأسفل لكن رسول الله مسح على الأعلى، ونحن مأمورون بالاتباع والتسليم، ولذلك المالكية رحمهم الله قالوا: الواجب مسح أعلاه، ومسح الأسفل مستحب، لكن ينبغي أن يعيد في الوقت احتياطاً لو تركه.

ونقول: الحديث الصحيح ثابت في أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في المسح على الأعلى، ولذلك لو أن الإنسان مسح على أعلى الخفين أو الجوربين فقد أتى بالسنة وما تعداها، ولا يلزمه أن يمسح على الأسفل.

ابتداء وقت المسح على الخفين

مدة المسح يوم وليلة للمقيم، بمعنى: هذا اليوم والليلة هل يبدأ من وقت الحدث، أو من وقت المسح؟ خلاف بين أهل العلم، والذي يظهر رجحانه والعلم عند الله تعالى بأن الوقت يبدأ من المسح؛ لأن الأحاديث قيدت بالمسح، وعلقت على المسح، فتحدثت عن المسح ولم تتحدث عن الحدث، ولذلك لو أن إنساناً مثلاً توضأ في الصباح الساعة السابعة قبل أن يخرج من بيته، ثم لبس جوربيه، ثم أحدث في العاشرة، ثم توضأ لصلاة الظهر في الواحدة، فيبدأ وقت المسح من حين مسح لا من حين أحدث، فيستغرق مسحه أربعاً وعشرين ساعة.

الأمور التي يبطل بها المسح على الخفين

المسح على الخفين ينتقض أولاً: بالجنابة، لو أنه أصابته جنابة وجب عليه أن يخلع خفيه ويغتسل غسلاً كاملاً.

ثانياً: ينتقض المسح لو أنه أخرج إحدى قدميه، فلو أنه خلع الجورب من قدمه اليمنى أو من اليسرى فليبادر إلى خلع الأخرى، ويغسل رجليه، ويتوضأ وضوءاً كاملاً.

وإذا علم هذا بقي معنا الكلام عن المسح على العمامة، والمسح على العصابة، والمسح على الجبيرة، وقبل ذلك المسح على الدواء، وهذا يأتي الكلام عنه في الحلقة القادمة إن شاء الله.

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في حلقة جديدة من ديوان الإفتاء، والكلام في صدر هذه الحلقة يتناول المسح على الخفين، وعلماؤنا رحمة الله عليهم دائماً يذكرون المسح على الخفين، وعلى الجوربين، وعلى العمامة، وعلى الجبيرة، وعلى العصابة، في أبواب الوضوء؛ باعتبار أنها متعلقة بأعضاء الوضوء؛ لأنه قد مضى معنا الكلام في أن الأعضاء المذكورة في القرآن أربعة في قول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، فالرجلان يتعلق الكلام عليهما بالكلام عن المسح على الجوربين والخفين، والكلام على مسح الرأس يتعلق به الكلام على المسح على العمامة سواء كانت محنكة ذات ذؤابة أو لم تكن كذلك، ثم الكلام في المسح على العصابة، والجبيرة يعم هذه الأعضاء كلها، فقد تكون العصابة على الرأس، وقد تكون الجبيرة على اليد أو اليدين، أو الرجل أو الرجلين.