خطب ومحاضرات
الجهاد وأنواعه [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فقد تقدم معنا الكلام في أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وأن الله عز وجل قد فرضه على عباده المؤمنين رداً للأذى، وحماية للمستضعفين، ونشراً للدين، وانتصاراً للمظلومين، وأن الجهاد ليس خاصاً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل كان الأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم مجاهدين، وعرفنا أن الجهاد أعم من القتال، وأنه على أربعة أنواع:
جهاد للنفس.
وجهاد للشيطان.
وجهاد للمنافقين.
وجهاد للكفار.
وأن جهاد النفس على أربع مراتب:
جهادها على تعلم دين الله عز وجل.
وجهادها على العمل بما تعلمت.
وجهادها على الدعوة إلى الخير الذي علِمت.
وجهادها على الصبر في هذا الطريق الشاق الطويل.
وأن جهاد الشيطان على مرتبتين:
جهاد الشيطان فيما يلقي من الشبهات.
وجهاد الشيطان فيما يبعث من الشهوات.
بقي أن نقول: بأن جهاد الكفار وجهاد المنافقين كل واحد منهما على أربع مراتب:
المرتبة الأولى: جهادهم بالقلب، وذلك ببغض ما هم عليه، أي: كراهية ما هم عليه من الكفر والشرك والنفاق والفسوق والعصيان، وهذه المرتبة قد أمر بها ربنا جل جلاله حين قال: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22]، فلابد أن تكره ما هم عليه من مخالفة أمر الله عز وجل بقلبك.
المرتبة الثانية: مجاهدتهم باللسان، وذلك برد باطلهم والجواب على شبههم، لو أنهم أثاروا شبهة عن الدين وحاولوا الصد عن سبيل الله، فلابد أن تجاهدهم بلسانك.
المرتبة الثالثة: جهادهم بالمال، وذلك بأن يُبذل المال للدفاع عن الدين ورد أذى المعتدين.
المرتبة الرابعة: جهادهم باليد، كما قال الله عز وجل: و يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73]، أما جهاد الكفار باليد فأمره ظاهر، وأما جهاد المنافقين فالأصل أنهم يُجاهدون باللسان، ويجاهدون بالقرآن، كما قال الله عز وجل: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52].
لكن المنافق لو أراد أن يؤذي المسلمين أو أعان عليهم عدوهم، فإنه يقاتل شأنه شأن المشركين كما قال الله عز وجل: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً [النساء:91].
ولو تأملنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تجدون أنهم حققوا هذه الأنواع الأربعة، فالجهاد بالقلب، تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبغض الأصنام والأوثان، وكان يبغض الشرك وأهله، وكان يبغض المعاصي ومن يتلبسون بها، فكان يبغض الخمر وأهلها، والميسر وأهله، وأنواع الظلم والفسوق، كل ذلك كان مبغضاً له بقلبه صلوات ربي وسلامه عليه.
وأما جهاد المشركين والمنافقين باللسان، فقد كان له القدح المعلى صلوات الله وسلامه عليه، وكان يجيب على الشبهات التي يطرحونها، ولما جاء أبي بن خلف وفي يده عظم بال فطحنه بين يديه ثم نفخه وقال: (يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما صارت رميماً؟ قال: نعم. يحييها ويبعثك ويدخلك النار)، هذا جهاد باللسان.
ولما قال له أحد اليهود: (يا محمد! تزعم أن الله أنزل عليك: أن الجنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال له: فأين النار؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ )، أجاب على شبهة هذا اليهودي بأن طرح عليه هذا السؤال، وهذا جهاد باللسان.
وكذلك الصديق أبو بكر رضي الله عنه دخل بيت المدراس، وهو المكان الذي يجتمع فيه اليهود لقراءة التوراة، وكان كبيرهم يقال له: فنحاص بن عازورا ، فـأبو بكر قال له: (يا فنحاص ! اتق الله وأسلم فإنك تعلم أن محمداً رسول الله الذي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال له اليهودي الخبيث: ما نعلم أنه رسول الله، ولو كان ربك غنياً ما استقرضنا كما يزعم صاحبك، في القرآن الكريم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245])، فاليهودي يقول: لو كان غنياً ما استقرضنا، إن الله فقير ونحن أغنياء. (فـأبو بكر رضي الله عنه لطم هذا اليهودي لطمة منكرة، فلما جاء اليهودي يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر : والله يا عدو الله! لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك، يا رسول الله! زعم الخبيث أن الله فقير وهو غني. فحلف اليهودي بالله ما قال، فأنزل الله تعالى تصديق أبي بكر : لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181])، فهنا أبو بكر جاهد بلسانه وجاهد بيده.
أما الجهاد بالمال فـأبو بكر رضي الله عنه، كذلك عثمان وغيرهم من الصحابة أنفقوا أموالهم طيبة نفوسهم نصرة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والجهاد الأصل فيه: أنه فرض على الكفاية، وهذه الفرضية لابد فيها من شروط ثمانية وهي:
الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، وسلامة الأعضاء، والسلامة من الدين، وإذن الوالدين.
إذاً الذي يجب عليه الجهاد في حالة أنه فرض كفاية لابد فيه من ثمانية شروط:
أن يكون مسلماً، بالغاً، عاقلاً، حراً، ذكراً، سليم الأعضاء، سليماً من الدين، قد استأذن والديه.
أما إذا تعين الجهاد، ولا يتعين الجهاد إلا إذا داهم العدو بلداً للمسلمين فيصير فرضاً عينياً على أهل تلك البلد ثم من يليهم، أو إذا كان النفير عاماً، أو إذا عين الإمام طائفة، أو عند التقاء الصفين، فهاهنا لا يشترط ذكورة ولا حرية ولا سلامة من الدين ولا إذن للوالدين، بل يخرج الذكر والأنثى والدائن والمدين ومن أذن له والداه ومن لم يأذن له والداه، الكل يخرج، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]، إلى أن قال: انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41]، فقوله: (انفروا خفافاً وثقالاً)، يعني شيوخاً وشباباً، كباراً وصغاراً ، رجالاً وركباناً، أغنياء وفقراء، الكل يخرج للدفاع عن بيضة الدين والذب عن حريم المسلمين.
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو إمام المجاهدين، جاهد في الله حق جهاده، حياته في مكة منذ أن بعثه الله نبياً إلى أن خرج منها كلها كانت جهاد، ما استراح عليه الصلاة والسلام ولا ركن إلى الدعة، والله عز وجل أنزل عليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، وأنزل عليه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً [المزمل:1-2]؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( مضى عهد النوم يا خديجة ).
وبعدما مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يجاهد في الله حق جهاده هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، ومن اليوم الأول بدأ في تأسيس الدولة أسس المسجد، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وأقام معاهدات مع اليهود، قال لأصحابه: ( أحصوا لي من يلفظ بالإسلام )، أي: اعملوا لي تعداداً سكانياً لعدد المسلمين في المدينة، ثم بعد ذلك ما مضت إلا شهور معدودات حتى بدأ يوجه السرايا، والسرايا جمع سرية، أي عدد محدود من الصحابة كان يوجههم الرسول صلى الله عليه وسلم في مهمة معينة محددة؛ لأن الله عز وجل أخبر بأن الناس يخرجون جماعات وفرادى جهاداً في سبيل الله عز وجل، وهكذا الذي كان يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، وربما بعث في مهمة شخصاً واحداً كما فعل مع عبد الله بن أنيس رضي الله عنه حين ابتعثه لقتل خالد بن نبيح الهذلي ، وربما يبعث عدداً محدوداً من الناس في مهمة مخصوصة، فالله عز وجل قال: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، يعني: إما فرادى وإما مجموعات.
وأما الذي كان يريد تحقيقه صلوات ربي وسلامه عليه من وراء هذه السرايا؟
فالجواب: هدف عليه الصلاة والسلام إلى أمرين عظيمين:
الأمر الأول: مهاجمة قوافل قريش التجارية، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث هذه السرايا لمهاجمة تلك القوافل عملاً بقول الله عز وجل: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، أخرجوا المسلمين من ديارهم، وانتهبوا أموالهم، وآذوهم، لابد أن يقابل الاعتداء بمثله، فليس المسلم من يجر الذيل على الأذى، وليس المسلم من يغمض العين على القذى، وليس المسلم من يضرب فيطأطئ رأسه، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، المسلم ما يشجب ويستنكر ويندد ويصرخ ويستغيث باليهود والنصارى، وإنما المسلم متى ما هيئ له السبيل يرد الاعتداء بمثله، هذا هو الهدف الأول.
الهدف الثاني: إرسال رسائل واضحة لأهل مكة؛ لأن أهل مكة يريدون أن يطاردوا المسلمين في المدينة، وقد مر معنا الكلام بأنهم كتبوا إلى عبد الله ابن سلول : (بأنكم قد آويتم صاحبنا، وإنا لنقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنأتينكم جميعاً، فنقتل رجالكم ونستبيح نساءكم)، يعني: يرسلون تهديدات خارج الحدود إلى المدينة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يبعث إليهم برسالة يقول لهم: إذا فكرتم في الإضرار بنا ونحن بالمدينة، فنحن نستطيع الإضرار بكم خارج المدينة، وقادرون على أن نلحق بكم الأذى، وأن نوقع بكم الضرر، وخير لكم أن تكفوا أيديكم وتنتهوا عما تصنعون. هذان هدفان عظيمان رمى إليهما نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثم إن من سياسته عليه الصلاة والسلام: أنه عمل على عزل قريش عزلة سياسية؛ وذلك بإقامة معاهدات مع القبائل المحيطة بالمدينة، فوادع بني ضمرة، وغفار، وأسلم، وخزاعة، وجماعات من جهينة، هؤلاء جميعاً أقام النبي عليه الصلاة والسلام معهم معاهدات: ألا يقاتلوه، وألا يعينوا عليه عدواً، وألا يكثروا عليه. هذا كله مما التزمته تلك القبائل مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
سرية سيف البحر
وبدأ بعد ذلك في توجيه السرايا، وكان أولها: سرية سيف البحر بقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث حمزة ومعه ثلاثون من المهاجرين من أجل أن يعترضوا عيراً لقريش مقبلة من الشام فيها أبو جهل ومعه ثلاثمائة رجل، إذاً: ثلاثون أمام ثلاثمائة، قال الله عز وجل: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:65]، يعني: الواحد بعشرة، ثم قال تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65].
وفعلاً هذه السرية بقيادة حمزة أدركوا تلك القافلة وعندما اصطفوا للقتال حجز بينهم رجل يقال له: مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفاً للفريقين، فسعى بينهما بالواسطة وتهدئة الأمور، وضبط النفس كما يقولون في لغة هذه الأيام، فلم ينشب قتال بين الفريقين، ولكن كانت هذه السرية فيها رسالة واضحة لقريش: بأن المسلمين صاروا مهاجمين، فانتبهوا يا معشر قريش!
سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار
ثم جاءت السرية الثانية بقيادة: سعد بن أبي وقاص إلى مكان يقال له: الخرَّار، وإلى الآن والمكان يطلق عليه هذا الاسم، الرسول وهو القائد الأعلى صلوات الله وسلامه عليه استدعى واحداً من قادته الأدنين وهو خاله: أبو إسحاق سعد بن مالك بن أهيب الزهري القرشي الذي كان يفاخر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: ( هذا خالي فليرني امرؤ من خاله ).
وتلاحظون في السرية الأولى: سرية سيف البحر أنها كانت بقيادة حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه بقيادة سعد وهو خال النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام يضرب للناس المثل بأن الجهاد يوجه إليه قرابته عليه الصلاة والسلام من أجل أن يقول للناس: أنا أدعوكم إلى خير عظيم، إلى باب من أبواب الجنة، وأنا حريص عليه قبلكم، والدليل على ذلك أني أوجه أقربائي والأدنى فالأدنى في قيادة تلك السرايا.
استدعى عليه الصلاة والسلام سعداً وقال له: ( اخرج حتى تبلغ الخرَّار فإن عيراً لقريش ستمر به )، أي: ستمر بذلك المكان، فخرج سعد على رأس عشرين رجلاً، وخرجوا على أقدامهم ما عندهم دواب، يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار، يعني بالليل يمشون وبالنهار يختفون، حتى بلغوا ذلك المكان في الخرار، فوجدوا العير قد سبقتهم بيوم واحد، يقول سعد رضي الله عنه: (ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن لا أجاوز الخرار لكنت مدركهم)، يعني: لولا الأمر العسكري ووجوب تنفيذه بحذافيره كان ممكن أتجاوز ذلك الموضع وأدرك تلك القافلة، لكنني التزمت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أتجاوز الخرار.
غزوة الأبواء
ثم جاءت الغزوة الثالثة: وكانت بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: غزة ودان، ويسمونها أيضاً غزوة: الأبواء، وهذه الغزوة كانت في صفر، يعني: بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بأحد عشر شهراً؛ لأن وصوله إلى المدينة كان في ربيع ثم في صفر في السنة الثانية خرج النبي صلى الله عليه وسلم يريد اعتراض عير لقريش، فسار صلوات ربي وسلامه عليه حتى بلغ ديار بني ضمرة، والنسبة إليها ضمري، فوجد بأن هذه العير قد أفلتت، فلم يلق قتالاً صلى الله عليه وسلم، لكنه وادع بني ضمرة مثلما وادع من قبل غفار وأسلم وقبائل من جهينة، فوادع بني ضمرة بألا يعينوا عليه عدواً، وألا يقاتلوه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت هذه أول غزوة خرج فيها بنفسه عليه الصلاة والسلام.
فإذا سئلت: ما هي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقل هي: غزوة الأبواء، أو غزوة ودان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعاً وعشرين غزوة، باشر القتال في تسع منها عليه الصلاة والسلام.
سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب إلى رابغ
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب على رأس ستين رجلاً إلى رابغ، ورابغ مكان معروف ويحمل هذا الاسم إلى الآن، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب السرية أن النبي عليه الصلاة والسلام بلغه أن عيراً لقريش قد أقبلت بقيادة أبي سفيان بن حرب ، وبعض كتاب السير قالوا: بل كانت بقيادة عكرمة بن أبي جهل ، وسواء كانت بقيادة هذا أو ذاك، ثم إن المسلمين أدركوا العير فحصلت مناوشات بين الفريقين وتراموا بالسهام، وكان سعد رضي الله عنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، ثم بعد ذلك لم يحصل بينهم قتال، لكن هاهنا فائدة وهي أنه: فر من المشركين رجلان: المقداد بن الأسود وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما، هؤلاء احتبسوا ومنعوا من الهجرة، فخرجوا مع المشركين من باب أنهم معهم، فلما بدأ الترامي فر المقداد وعتبة بن غزوان من معسكر المشركين ولحقوا بمعسكر المسلمين، وكانت هذه فائدة عظيمة من فوائد هذه الغزوة أن خلص هذان الرجلان المباركان من قيد المشركين وأسرهم.
غزوة بواط
ثم الغزوة الخامسة: غزوة بواط، من ناحية رضوى، ورضوى جبل على مرمى من المدينة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه لاعتراض عير لقريش بقيادة: أمية بن خلف الجمحي ، عليه لعنة الله، وكان فيها مائة رجل وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ صلى الله عليه وسلم بواط، لكن لم يعثر على القافلة ولم يلق حرباً، يعني: كأن الله عز وجل يهيئ هذه الأسباب من باب التدريب للمسلمين على الخروج إلى الغزو، والاستعداد لمنازلة المشركين، وأيضاً كأن هذا كله تهيئة للموقعة العظيمة الفاصلة في يوم الفرقان، وهي موقعة بدر التي سيحصل بها فتح للإسلام وأهله.
غزوة بدر الأولى
ثم جاءت غزوة بدر الأولى، وكان سببها أن رجلاً اسمه: كرز بن جابر الفهري ، أغار على سرح المدينة، يعني: المكان الذي تحبس فيه المواشي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له: سفوان، بالسين من ناحية بدر فلم يدركه.
وهذه الغزوة يسمونها غزوة بدر الأولى أو الصغرى تمييزاً لها عن الغزوة الكبرى التي كانت في رمضان من السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة، وهذه الغزوة كانت في ربيع، وتلاحظون بأنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بواط كان في صفر، يعني: ما استراح صلى الله عليه وسلم شهراً، ولما رجع من بواط خرج إلى سفوان أو إلى بدر الصغرى.
غزوة العشيرة
ثم بعد ذلك في جمادى الآخرة، يعني: بعد ذلك بشهرين خرج عليه الصلاة والسلام في مائة وخمسين من أصحابه إلى العشيرة -والعشيرة ناحية في ينبع- يعترض عيراً لقريش لكنها أفلتت أيضاً، وهذه ستكون سبباً لغزوة بدر الكبرى؛ لأن هذه العير خرجت في جمادى الآخرة من مكة ذاهبة إلى الشام، فخرج صلى الله عليه وسلم ليدركها فأفلتت، وفي طريق عودتها بعد ذلك بثلاثة أشهر في رمضان، الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من أجل أن يدركها وأيضاً أفلتت وبسببها كانت موقعة بدر الكبرى، كما سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم.
وبدأ بعد ذلك في توجيه السرايا، وكان أولها: سرية سيف البحر بقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث حمزة ومعه ثلاثون من المهاجرين من أجل أن يعترضوا عيراً لقريش مقبلة من الشام فيها أبو جهل ومعه ثلاثمائة رجل، إذاً: ثلاثون أمام ثلاثمائة، قال الله عز وجل: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:65]، يعني: الواحد بعشرة، ثم قال تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65].
وفعلاً هذه السرية بقيادة حمزة أدركوا تلك القافلة وعندما اصطفوا للقتال حجز بينهم رجل يقال له: مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفاً للفريقين، فسعى بينهما بالواسطة وتهدئة الأمور، وضبط النفس كما يقولون في لغة هذه الأيام، فلم ينشب قتال بين الفريقين، ولكن كانت هذه السرية فيها رسالة واضحة لقريش: بأن المسلمين صاروا مهاجمين، فانتبهوا يا معشر قريش!
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
بداية نزول الوحي | 2554 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [2] | 2403 استماع |
عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل | 2173 استماع |
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم | 2146 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة [2] | 2129 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [1] | 2106 استماع |
إرهاصات النبوة [2] | 2069 استماع |
الإسراء والمعراج | 2012 استماع |
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم | 1874 استماع |
عام الحزن وخروج النبي إلى الطائف | 1824 استماع |