خطب ومحاضرات
الجهاد وأنواعه [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة لم يؤمر بقتال، فكان يصبر على أذى المشركين، حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، فلما وصل المدينة كاتب المشركون، وممن كاتبهم عبد الله بن أبي ابن سلول الذي كان رأساً من رءوس الشرك إلى ذلك الحين، ولم يعلن إسلامه نفاقاً، كاتبوه: (بأنكم قد آويتم صاحبنا، وإنا لنقسم بالله لتقاتلنه، أو لتخرجنه، أو لنأتينكم جميعاً، فنقتل رجالكم، ونستبيح نساءكم)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان بعض الصحابة يحرسه في كل ليلة حذراً عليه من كيد المشركين واليهود، إلى أن نزل قول ربنا جل جلاله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]، فصرف أولئك الحرس، واكتفى بعصمة الله عز وجل وحمايته إياه صلوات ربي وسلامه عليه.
فلما استقر بالمسلمين المقام في المدينة المنورة أذن الله لهم بالجهاد، والجهاد كما حقق الإمام أبو عبد الله بن القيم في الزاد مر بأربعة مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الكف عن القتال والأمر بالصبر، نجد أن المسلمين في مكة كانوا يؤذون ويعذبون، والله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان:24]، وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً [المزمل:10]، ونحو ذلك من الآيات.
ثم جاءت المرحلة الثانية: وهي الإذن بالقتال، فهو مجرد إذن، كما في قول الله عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:39-40].
ثم جاءت المرحلة الثالثة: وفيها الأمر بالقتال، لكن قتال من بدأ المسلمين بالقتال، يعني: من اعتدى على المسلمين فإن الله عز وجل قد أمر المسلمين بأن يكافئوا الاعتداء بمثله، كما قال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190]، وفي الآية الأخرى: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194].
ثم جاءت المرحلة الرابعة: وهي الأمر بقتال المشركين عامة، من قاتل ومن لم يقاتل، كل من وقف في سبيل الدعوة وحال دون بلوغها آفاقها، فإنه يقاتل كما قال ربنا جل جلاله في سورة التوبة: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وفي الآية الأخرى قال: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36].
فهذه أربع مراحل: مرحلة الصبر والصفح والكف، ثم مرحلة الإذن بالقتال، ثم مرحلة الأمر بقتال من قاتلنا، ثم الرابعة الأمر بقتال المشركين كافة.
وكلمة الجهاد أعم من كلمة القتال، فالقتال نوع من أنواع الجهاد، وليس كل الجهاد قتالاً، بل الجهاد كما قال علماؤنا: مشتق من الجُهد، وهو: بذل الطاقة والوسع، أو من الجَهد بالفتح: وهو المشقة، إما أن يكون مشتقاً من الجُهد أو من الجَهد.
وأما في الشرع فهو: بذل الجهد لإعلاء كلمة الله بالمال والنفس واللسان، يعني: يمكن للإنسان أن يكون مجاهداً بنفسه، ويمكن أن يكون مجاهداً بماله، ويمكن أن يكون مجاهداً بلسانه، والموفق من جمع الأنواع كلها، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت حياته كلها جهاداً.
وهنا أقول: ليس الجهاد خاصاً بهذه الأمة، ليس الجهاد مفروضاً في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وحده، بل هو مفروض من لدن نوح عليه السلام، فالجهاد فرض على الأنبياء جميعاً، لكن بعضهم أمر بالقتال وبعضهم لم يؤمر، ولذلك نقرأ في القرآن بأن نوحاً عليه السلام جاهد في الدعوة إلى الله، وأمر الناس بالتوحيد ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهو يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وهكذا الأنبياء من بعده صلوات الله وسلامه عليهم.
فهذا إبراهيم عليه السلام يجاهد، يقف أمام أبيه وقومه يقول لهم: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، إلى أن يصل به الحال أن يقول لهم: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:67]، وكانت النتيجة أنه تعرض للموت: قَالُوا حَرِّقُوهُ [الأنبياء:68]، ليست موتة عادية؛ بل موتة بشعة فيها قسوة، (حرقوه) أججوا نيراناً، ثم خلعوا ثيابه عليه صلوات الله وسلامه ووضعوه في المنجنيق، يعني: ما استطاعوا أن يقتربوا من النار من شدة حرها من أجل أن يرموه فيها، لكن وضعوه في المنجنيق ثم قذفوه فيها، فنجاه الله عز وجل حين قال: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].
وكذلك نبي الله موسى عليه السلام يجاهد ذلك الطاغية الجائر، والكافر العنيد، فرعون الذي قال: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى [غافر:29]، والذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، والذي قال: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، يدخل عليه موسى عليه السلام ويناظره، فيفحمه ويفحم جلساءه، ثم يستدعي فرعون سحرته، فيغلبهم موسى عليه السلام ويظهر الحق عليهم في يوم الزينة بعدما حشر الناس ضحى، كل الناس اجتمعوا لمشاهدة ما سيكون بين موسى وسحرة فرعون، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:119-122]، وهكذا سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
فالجهاد أعم من القتال، وهو على أربعة أنواع:
جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، وهذه الأنواع الأربعة تتفرع إلى أربعة عشر صنفاً، جهاد النفس على أربع مراتب، وكذلك جهاد المنافقين وجهاد الكفار وجهاد الشيطان على مرتبتين.
جهاد النفس مطلوب منا جميعاً، وهو على أربعة مراتب:
جهاد النفس على تعلم العلم
المرتبة الأولى: جهاد النفس على تعلم ما أمرت به من دين الله عز وجل، لابد أن تجاهد نفسك في أن تقرأ وتدرس، لابد أن تجاهد نفسك في أن تسأل، بعض الناس يستكبر عن السؤال لا يريد يسأل؛ لأنه يرى ذلك عيباً في حقه، ونقصاً في شخصه، لا، لابد أن تجاهد نفسك ولو كنت كبير الشأن، ولو كنت كبير العمر جاهد نفسك على السؤال.
كذلك جاهد نفسك على الجلوس في حلق العلم ومجالس الذكر، تثني ركبتك وتجلس على الأرض وتستمع، وتعلمون أن الشيطان يأتي في مجالس العلم من أجل أن يصرف الإنسان، إما بأن ينومه وينعسه، وإما بأن يجعله يفكر في أمور أخرى، وإما أن يجعله يحمل نعليه ويخرج، فهو محتاج إلى العلم الذي يبذل في هذه المجالس؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )، والحديث: ( إن طالب العلم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع )، والحديث: ( من خرج ليتعلم علماً كان كالمجاهد في سبيل الله يرجع غانماً )، وهو في موطأ مالك بلفظ: ( من خرج من بيته ليتعلم علماً كان كالمجاهد في سبيل الله يرجع غانماً ).
فطلب العلم أن تجاهد نفسك على تعلم ما أمرت بأن تتعلمه من دين الله، فكل إنسان لابد أن يعرف الله جل جلاله، كل واحد منا لابد أن يعرف الرسول عليه الصلاة والسلام، لابد أن يعرف الله جل جلاله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، ويتعرف على دلائل قدرته، وآيات عظمته كما قال سبحانه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17].. إلى آخر الآيات.
كذلك تتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم، تتعرف على نسبه، أيامه، مغازيه، أحواله، أزواجه، أولاده، تتعرف على معجزاته، وشمائله؛ من أجل أن تحبه عليه الصلاة والسلام فلو أن إنساناً تقدم يخطب منك ابنتك، فهل ستقبل مباشرة، أو تقول له: لا؟ أبداً: لا هذا ولا ذاك. وإنما لابد أن تسأل عنه، وتتعرف عليه، لابد أن تعرف نسبه من أي العائلات هو، لابد أن تعرف أصله، لابد أن تعرف عمله، لابد أن تعرف مؤهلاته، لابد أن تعرف أخلاقه، وربما تمكث في ذلك شهراً أو شهرين أو ثلاثة وأنت تسأل عنه وتتفحص فيه، وأنت الآن تعبد الله عز وجل لابد أن تتعرف عليه، تقول: أنا أحب الرسول عليه الصلاة والسلام، لابد أن تتعرف عليه من أجل أن تحبه محبة حقيقية، من أجل أن تزداد له محبة عليه الصلاة والسلام.
كذلك تتعرف على القرآن الذي هو كلام الله جل جلاله، وكلنا يحفظ (قل هو الله أحد)، لكن كم منا يعرف معنى (الله الصمد)؟ الله الصمد جل جلاله سمى نفسه الصمد، ما معنى هذا الاسم؟ كلنا يحفظ: (قل أعوذ برب الفلق) ما هو الفلق؟ ما هو الكوثر؟ ما هو المسد؟ لابد أن نتعرف على القرآن من أجل أن نزداد يقيناً بأنه كلام الله، وهذا كله يحتاج إلى جهاد.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان في مجلسه المبارك فجاء ثلاثة، فتقدم أحدهم حتى جلس بين يديه عليه الصلاة والسلام، والآخر جلس في آخر القوم، والثالث نظر يميناً وشمالاً ثم انصرف، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بخبر الثلاثة؟ أما أحدهم فقد أقبل فأقبل الله عليه -هذا الذي جاء في الأمام- وأما الآخر -الذي جلس في آخر القوم- فقد استحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فقد أعرض فأعرض الله عنه )، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3].
فمجالس العلم تحتاج إلى مجاهدة، وكما قلت لكم: أن الإنسان سرعان ما يمل، بينما لو كان هناك مباراة في كرة القدم، فإنه يجلس أولاً قبل أن تبدأ من أجل أن يرى القرعة، ومن سيأخذ الناحية اليمنى، ومن سيأخذ الناحية اليسرى، ولمن ستكون ضربة البداية، ثم يتفحص الحكام من هم، من حكم المباراة، أو من حامل الرايات؟ ومن الحكم الرابع، ويتأكد أن اللاعبين الذين يعرفهم كلهم حضور ليس منهم مصاب أو معاب، ثم بعد ذلك تبدأ المباراة فيتابعها بشغف، ولربما يصيح، وربما يقفز، وربما يتقلب، وربما يأتي بالأفعال التي يأنف منها الصبيان، وينتهي الشوط الأول، ثم الشوط الثاني، ثم بعد ذلك إذا استمر التعادل يبقى ينتظر الهدف الذهبي، وبعد الهدف الذهبي ركلات الجزاء الترجيحية، ثم بعد ذلك تسليم الكأس، ولربما يكون قد حصره البول وهو يشاهد المباراة وربما إلى الساعة الثالثة صباحاً وهو لا يبالي، لكن التهجد في رمضان تجده يراوح بين رجليه، وأحد الناس لما قال لي: يا أخي! الصلاة هذه طويلة قلت له: يا أخي! أنا أعرفك تجلس في كأس العالم إلى الساعة الثانية صباحاً ولا تمل.
فلابد أن تجاهد نفسك على الجلوس في مجالس العلم وحلق الذكر، وهذا جهاد عظيم، وهو الذي فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانوا خير أمة أخرجت للناس.
جهاد النفس على العمل بالعلم
المرتبة الثانية: جهاد النفس على العمل بما تعلمت، فالعلم ليس غاية في ذاته، بل المراد العمل بالعلم، يعني: واحد عرف الصلاة وأركانها وشروطها وسننها وآدابها، ثم بعد ذلك لا يصلي، ما قيمة علمه؟ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5]، ما انتفع بعلمه؛ ولذلك يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ أقول: بل علمت. يقال لي: فما عملت بما علمت؟ وإن أخوف ما أخافه يوم القيامة: أن لا تبقى آية في كتاب الله إلا جاءت فقالت: يا أبا الدرداء أمرت فلم تأتمر، ونهيت فلم تنته).
ولذلك فعلى الإنسان أن يحرص على أن يعمل بما علم قدر الإمكان، والكمال لله سبحانه وتعالى، لا يوجد إنسان يستطيع أن يزعم أنه قد أحصى كتاب الله عملاً؛ لا أحد يستطيع أن يزعم لنفسه ذلك، لكن كما قال ربنا: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78]، وكما قال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
جهاد النفس على الدعوة إلى العلم
المرتبة الثالثة في جهاد النفس: جهادها على الدعوة إلى هذا العلم الذي تعلمته، يعني: الآن أنت والحمد لله رب العالمين صائم، ونسأل الله القبول، وصليت العصر وبشرى لك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى البردين دخل الجنة )، والبردان الصبح والعصر، وقال عليه الصلاة والسلام: ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فمن استطاع منكم أن لا يغلب على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فليفعل ).
لكن بعد ذلك تعلم بأن لك أخاً لا يصلي، أو تعلم بأن لك صاحباً لا يصوم، وتعلم بأن لك زميلاً مثلاً قد ترك كثيراً من العمل الذي هو قادر عليه، لابد أن تجاهد نفسك في دعوة هؤلاء إلى الالتزام بدين الله عز وجل، والانصياع إلى شرعه، تجاهد نفسك على دعوتهم.
جهاد النفس على الصبر في الطريق إلى الله
المرتبة الرابعة: أن تجاهد نفسك على الصبر في هذا الطريق الطويل، فإنك لن تسلم من سخرية الساخرين، واستهزاء المستهزئين، لن تسلم من غمز الغامزين، فلم يسلم من كانوا خيراً منك، الأنبياء والمرسلون، والأولياء المقربون، وعباد الله الصالحون، وقد قرأنا في القرآن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29-30]، (يتغامزون) هؤلاء مساكين! يزعمون أن بعد الموت بعثاً! وبعد البعث حساباً! وبعد الحساب جنة وناراً! كانوا يسخرون، وإذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن كانوا يضحكون.
فبعض الناس -والعياذ بالله- يصوم ولا يصلي، وربما يفطر في المسجد ثم يهرب كالشيطان، فلو قلت لمثل هذا: صل. فلا تتوقع أنه يقول لك: إن شاء الله، بل يقول لك: يا أخي اشتغل بنفسك، وبعضهم يتفلسف فيقول: دع الخلق للخالق، ودع الملك للمالك، أقام العباد فيما أراد، فيذكر كلاماً ليس بآية ولا حديث، والله تعالى يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ [التوبة:71]، فهذا كلام ربنا في القرآن، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ( لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ).
فجهاد النفس على أربعة مراتب:
الأولى: جهادها على تعلم ما أمرت به.
والثانية: جهادها على العمل بما تعلمت.
والثالثة: جهادها على الدعوة إلى ما علمت.
والرابعة: جهادها على الصبر في هذا الطريق.
وهذه الأنواع الأربعة في تلك السورة الوجيزة العزيزة التي نحفظها جميعاً، قال الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
المرتبة الأولى: جهاد النفس على تعلم ما أمرت به من دين الله عز وجل، لابد أن تجاهد نفسك في أن تقرأ وتدرس، لابد أن تجاهد نفسك في أن تسأل، بعض الناس يستكبر عن السؤال لا يريد يسأل؛ لأنه يرى ذلك عيباً في حقه، ونقصاً في شخصه، لا، لابد أن تجاهد نفسك ولو كنت كبير الشأن، ولو كنت كبير العمر جاهد نفسك على السؤال.
كذلك جاهد نفسك على الجلوس في حلق العلم ومجالس الذكر، تثني ركبتك وتجلس على الأرض وتستمع، وتعلمون أن الشيطان يأتي في مجالس العلم من أجل أن يصرف الإنسان، إما بأن ينومه وينعسه، وإما بأن يجعله يفكر في أمور أخرى، وإما أن يجعله يحمل نعليه ويخرج، فهو محتاج إلى العلم الذي يبذل في هذه المجالس؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )، والحديث: ( إن طالب العلم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع )، والحديث: ( من خرج ليتعلم علماً كان كالمجاهد في سبيل الله يرجع غانماً )، وهو في موطأ مالك بلفظ: ( من خرج من بيته ليتعلم علماً كان كالمجاهد في سبيل الله يرجع غانماً ).
فطلب العلم أن تجاهد نفسك على تعلم ما أمرت بأن تتعلمه من دين الله، فكل إنسان لابد أن يعرف الله جل جلاله، كل واحد منا لابد أن يعرف الرسول عليه الصلاة والسلام، لابد أن يعرف الله جل جلاله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، ويتعرف على دلائل قدرته، وآيات عظمته كما قال سبحانه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17].. إلى آخر الآيات.
كذلك تتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم، تتعرف على نسبه، أيامه، مغازيه، أحواله، أزواجه، أولاده، تتعرف على معجزاته، وشمائله؛ من أجل أن تحبه عليه الصلاة والسلام فلو أن إنساناً تقدم يخطب منك ابنتك، فهل ستقبل مباشرة، أو تقول له: لا؟ أبداً: لا هذا ولا ذاك. وإنما لابد أن تسأل عنه، وتتعرف عليه، لابد أن تعرف نسبه من أي العائلات هو، لابد أن تعرف أصله، لابد أن تعرف عمله، لابد أن تعرف مؤهلاته، لابد أن تعرف أخلاقه، وربما تمكث في ذلك شهراً أو شهرين أو ثلاثة وأنت تسأل عنه وتتفحص فيه، وأنت الآن تعبد الله عز وجل لابد أن تتعرف عليه، تقول: أنا أحب الرسول عليه الصلاة والسلام، لابد أن تتعرف عليه من أجل أن تحبه محبة حقيقية، من أجل أن تزداد له محبة عليه الصلاة والسلام.
كذلك تتعرف على القرآن الذي هو كلام الله جل جلاله، وكلنا يحفظ (قل هو الله أحد)، لكن كم منا يعرف معنى (الله الصمد)؟ الله الصمد جل جلاله سمى نفسه الصمد، ما معنى هذا الاسم؟ كلنا يحفظ: (قل أعوذ برب الفلق) ما هو الفلق؟ ما هو الكوثر؟ ما هو المسد؟ لابد أن نتعرف على القرآن من أجل أن نزداد يقيناً بأنه كلام الله، وهذا كله يحتاج إلى جهاد.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان في مجلسه المبارك فجاء ثلاثة، فتقدم أحدهم حتى جلس بين يديه عليه الصلاة والسلام، والآخر جلس في آخر القوم، والثالث نظر يميناً وشمالاً ثم انصرف، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بخبر الثلاثة؟ أما أحدهم فقد أقبل فأقبل الله عليه -هذا الذي جاء في الأمام- وأما الآخر -الذي جلس في آخر القوم- فقد استحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فقد أعرض فأعرض الله عنه )، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3].
فمجالس العلم تحتاج إلى مجاهدة، وكما قلت لكم: أن الإنسان سرعان ما يمل، بينما لو كان هناك مباراة في كرة القدم، فإنه يجلس أولاً قبل أن تبدأ من أجل أن يرى القرعة، ومن سيأخذ الناحية اليمنى، ومن سيأخذ الناحية اليسرى، ولمن ستكون ضربة البداية، ثم يتفحص الحكام من هم، من حكم المباراة، أو من حامل الرايات؟ ومن الحكم الرابع، ويتأكد أن اللاعبين الذين يعرفهم كلهم حضور ليس منهم مصاب أو معاب، ثم بعد ذلك تبدأ المباراة فيتابعها بشغف، ولربما يصيح، وربما يقفز، وربما يتقلب، وربما يأتي بالأفعال التي يأنف منها الصبيان، وينتهي الشوط الأول، ثم الشوط الثاني، ثم بعد ذلك إذا استمر التعادل يبقى ينتظر الهدف الذهبي، وبعد الهدف الذهبي ركلات الجزاء الترجيحية، ثم بعد ذلك تسليم الكأس، ولربما يكون قد حصره البول وهو يشاهد المباراة وربما إلى الساعة الثالثة صباحاً وهو لا يبالي، لكن التهجد في رمضان تجده يراوح بين رجليه، وأحد الناس لما قال لي: يا أخي! الصلاة هذه طويلة قلت له: يا أخي! أنا أعرفك تجلس في كأس العالم إلى الساعة الثانية صباحاً ولا تمل.
فلابد أن تجاهد نفسك على الجلوس في مجالس العلم وحلق الذكر، وهذا جهاد عظيم، وهو الذي فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانوا خير أمة أخرجت للناس.
المرتبة الثانية: جهاد النفس على العمل بما تعلمت، فالعلم ليس غاية في ذاته، بل المراد العمل بالعلم، يعني: واحد عرف الصلاة وأركانها وشروطها وسننها وآدابها، ثم بعد ذلك لا يصلي، ما قيمة علمه؟ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5]، ما انتفع بعلمه؛ ولذلك يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ أقول: بل علمت. يقال لي: فما عملت بما علمت؟ وإن أخوف ما أخافه يوم القيامة: أن لا تبقى آية في كتاب الله إلا جاءت فقالت: يا أبا الدرداء أمرت فلم تأتمر، ونهيت فلم تنته).
ولذلك فعلى الإنسان أن يحرص على أن يعمل بما علم قدر الإمكان، والكمال لله سبحانه وتعالى، لا يوجد إنسان يستطيع أن يزعم أنه قد أحصى كتاب الله عملاً؛ لا أحد يستطيع أن يزعم لنفسه ذلك، لكن كما قال ربنا: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78]، وكما قال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
بداية نزول الوحي | 2555 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [2] | 2404 استماع |
عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل | 2174 استماع |
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم | 2147 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة [2] | 2130 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [1] | 2107 استماع |
إرهاصات النبوة [2] | 2070 استماع |
الإسراء والمعراج | 2013 استماع |
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم | 1875 استماع |
عام الحزن وخروج النبي إلى الطائف | 1826 استماع |