أرشيف المقالات

القرآن المدني وأسلوبه البياني

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
القرآن المدني وأسلوبه البياني

استمر التنزيل في العهد المدني لبيان أصول العقيدة وفروعها والرد على شبه الملحدين والمحرفين من الوثنيين وأهل الكتاب والدعوة إلى أمهات الأخلاق على المستوى الفردي والاجتماعي، وبيان أصول العبادات وفروعها.
ويمكن أن نقول: إن القرآن المدني تناول كل ما تقدم من الموضوعات في المعهد المكي، وزاد عليه في جوانب هي ما يتعلق بالبناء والحماية والصيانة للمجتمع الإسلامي، إلا أن التنزيل المدني كان له ميزاته في الأسلوب وفي التدرج في عرض الموضوعات.
 
أما الأسلوب البياني فقد امتاز بـ:
1- الأسلوب الهادئ: وهو الأسلوب المنسجم مع طبيعة الموضوعات التي اشتمل عليها القرآن المدني من التشريعات التفصيلية التي تبني الشخصية الإسلامية، وتحدد سلوكها في التعامل مع أفراد المجتمع الإسلامي في مختلف الطبقات وجميع الأحوال.

2- طول الآيات وتنوع المقاطع والفواصل المنسجمة مع الأسلوب الهادئ الرخيم.
والتركيز على حِكَم التشريع في الأحكام والهدايات.

3- الإكثار من ضرب الأمثال والاعتبار بقصص المحرفين للوحي المنزل من بني إسرائيل ومن سار على خُطاهم من المنافقين في المجتمع الإسلامي، والأمثلة والشواهد كثيرة منوعة، فمثلاً من يقرأ آيات سورة البقرة وآل عمران والمائدة والتوبة والنور والأحزاب والحشر..
وغيرها يدرك الأسلوب المختلف عن المرحلة المكية.

أما الموضوعات التي عرضتها السور المدينة فقد اتسعت دائرتها وتنوعت تفاصيلها بحيث شملت نواحي الحياة كلها على مستوى الفرد والجماعة.
ولكن النقلة من عمومات العبادات وأصولها وأمهات الأخلاق جاءت متدرجة حسب المنهج القرآني في التربية.
فإننا لا نجد في المرحلة المكية الدعوة المباشرة إلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يأتي الأمر بطاعة الأنبياء والمرسلين على ألسنة الأنبياء عند عرض الحوار بينهم وبين أقوامهم.

أما في المرحلة المدنية فقد جاء التركيز على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل مباشر في آيات كثيرة وما ذاك إلا لإيجاد الأرضية الواسعة لتقبل الأوامر التفصيلية والشرائع التفريعية التي يوضحها التنزيل المدني ويطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عملياً في المجتمع، فنقرأ مثلاً في سورة النساء قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].

وفي قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 64 – 65].

وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].

كما جاءت آيات كثيرة تحذّر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التحذير يلتقي في النتيجة مع الأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالثمرة هو الالتزام بأحكام شرع الله، وأن تكون الحياة الإسلامية في المجتمع الإسلامي تحت أنوار الوحي، وفي إطار الهدايات الربانية فلا تصادمها ولا تخرج عن دائرتها، ونقرأ مثل هذا التحذير في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 14].
ومن شأن المؤمن أن ينشأ على حب الطاعة وكراهية المعصية ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7].
وأخذت البيعة والعهود على المسلمين عامة وعلى النساء خاصة في عدم الخروج عن الطاعة وتجنب العصيان:
﴿ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 12].

وهذا التنويع في الأساليب لترسيخ طاعة الله ورسوله في النفوس وتكوين ملكة الانقياد عند المؤمنين لله ولرسوله، ومخالفة الهوى والشهوات والشبهات التي قد تثور من داخل النفس أو خارجها تجاه حكم الله وحكم رسوله.

وهذا هو الأسلوب الرباني في التربية المثلى، فبعد أن ترسخت العقيدة الإسلامية في النفوس وأصبحت الموجهة للأقوال والأفعال والسلوك عامة، جاءت التشريعات التفصيلية لتكمل صرح البناء الاجتماعي وتصونه من عبث العابثين من الداخل وتضع السياج الواقي من هجمات الأعداء المتربصين في الخارج.

جاءت التشريعات الإسلامية لتؤكد على الروابط الاجتماعية وتشد من أواصرها لكيلا تبقى الشخصية الإسلامية شخصية متميزة معزولة، بل تكون مؤسسات اجتماعية مترابطة متلاحمة نواتها الأسرة وتتسع الدائرة لتشمل المجتمع الإسلامي المتماسك بكلِّ هيئاته.

فنجد تشريع الجهاد، وأحكام الزكاة والصيام متلاحمة مع أحكام الصلاة والبيوع إلى جانب أحكام الوصية والإرث والقصاص والحدود، والنكاح والطلاق والعدة بالإضافة إلى تشريعات العهود والمواثيق بين المسلمين وغيرهم في السلم والحرب.
 
وباختصار أضاف القرآن في المرحلة المدنية:
أ- الآيات التي نزلت بالتشريعات التفصيلية لتنظيم شؤون المجتمع الإسلامي وبنائه بناءً راسخاً قوياً.

ب- صيانة هذا المجتمع الإسلامي من الداخل بإنزال الآيات المتعلقة بالمنافقين وكشف دخائل نفوسهم وحقيقة مشاعرهم تجاه المؤمنين وقياداتهم، وتعرية مخططاتهم وتآمرهم على الدولة الإسلامية.
ومحاولاتهم زعزعة ثقة المؤمنين برسولهم صلى الله عليه وسلم.

جـ- حماية المجتمع الإسلامي من أعداء الخارج بإنزال آيات الجهاد والتشريعات الخاصة بعلاقة الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول والشعوب التي تخضع للحكم الإسلامي[1].

وكثير من هذه التشريعات التفصيلية تحتاج إلى السلطة المنفذة لها، ولما كانت السلطة في المرحلة المكية بيد غير المسلمين، لم يكن من الحكمة إنزالها والمسلمون عاجزون عن تنفيذها، أما في المرحلة المدنية فقد وجدت السلطة الإسلامية القادرة على التنفيذ، فكان الوقت المناسب والمكان المناسب لنزولها وهي كلها تدور حول ما أطلق عليه العلماء الكليات الخمس وحمايتها (الدين، العقل، العرض، النفس، المال).
ولا تخلو سورة مدنية من قضية أو أكثر من هذه الموضوعات فمن أراد تحديد محور سورة مدنية فعليه أن يضع نصب عينيه هذه القضايا بالإضافة إلى الموضوعات التي ذكرت في المرحلة المكية.

[1] ملحوظة: ورد ذكر بني إسرائيل في المرحلة المكية أُنموذجاً لأمة اختارها الله لرسالته وأسند إليهم القوامة عليها، ولكنهم عصوا وتمردوا وخالفوا، فكانت النماذج المنحرفة في عقائدها عن جادة الحق واستكبارها وعنادها على أوامر ربها.
وفي المرحلة المدنية جاء ذكر اليهود أيضاً ولكن كان التركيز على انحرافاتهم في الشرائع التفصيلية وتحريفها وتبديلها وكتمانها، وقتلهم الأنبياء الذين كانوا يأمرونهم بالحق وينهونهم عن المنكر، وغير ذلك من المواقف الشائنة لهم تجاه شرائعهم.
انظر (معالم قرآنية في الصراع مع اليهود)، ص 65 وما بعدها.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣