أيوب عليه السلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً، مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

أيها الإخوة الكرام! ما منا واحد إلا وهو معرض للبلاء، إما في نفسه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو داره، أو دابته، أو دينه، أو غير ذلك من أنواع البلاء، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل )، وصح عنه صلوات ربي وسلامه عليه أنه قال: ( إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط )، وصح عنه صلوات ربي وسلامه عليه أنه قال: ( يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ).

وفي القرآن الكريم نماذج لأنبياء الله عز وجل، وعباده الصالحين الذين صب الله عليهم البلاء صباً، فكان منهم الصبر، والاحتساب، والرضا بقدر الله عز وجل، والتسليم لقضائه، حتى أثنى عليهم ربنا جل جلاله.

ومن هؤلاء: نبي الله أيوب الذي ذكره الله عز وجل باسمه في القرآن أربع مرات: في سورة النساء، وفي سورة الأنعام، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة ص.

ومن مجموع هذه المواضع نستفيد بأنه كان نبياً مقطوعاً بنبوته، يوحى إليه من الله؛ لأن الله تعالى قال في سورة النساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ[النساء:163]، فأيوب عليه السلام موحى إليه من الله عز وجل.

ونستفيد كذلك أنه من نسل إبراهيم عليه السلام؛ لأن في سورة الأنعام قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ[الأنعام:83-84]، فــأيوب عليه السلام من نسل إبراهيم وليس كما يذكر أهل الكتاب أنه كان قبل إبراهيم بمائة عام.

وفي سورة الأنبياء يبين الله عز وجل بأن هذا العبد الصالح لما زاد به البلاء، واشتد عليه الأمر، ما لجأ إلى أحد من الخلق، بل لجأ إلى رب العالمين جل جلاله، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، فأيوب توسل إلى الله عز وجل بصفة من صفاته وهي صفة الرحمة، قال الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ[الأنبياء:84]، أي: جاء الفرج من الله عز وجل، فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84].

يقول المفسرون والمؤرخون: كان أيوب عليه السلام من أجمل خلق الله صورة، وهكذا الأنبياء جميعاً، كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما بعث الله نبياً إلا كان حسن الصورة، حسن الصوت، وكان نبيكم صلى الله عليه وسلم أحسنهم صورة، وأحسنهم صوتاً، وكان أيوب من أحسن الناس خلقة، وأجملهم صورة، وأتمهم عافية، وأكثرهم مالاً وأولاداً.

قالوا: كان في حوران من أرض الشام، وكان له فيها من الزرع والضرع والمال من الإبل والمواشي والعبيد، وغير ذلك مما يمتع الله عز وجل به من شاء من خلقه، فهو سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب.

وكان له من الأولاد عدد كثير، ومن المال شيء كثير، ثم قدر الله عليه أن يفقد أولاده جميعاً في يوم واحد، حيث انهدم عليهم البيت فماتوا جميعاً.

ثم قدر الله عليه أن يفقد ماله كله، ثم سلط عليه البلاء في جسده، وهذا الداء ليس كما يوجد في بعض الكتب بأن الدود قد سرى في جسده، وأن رائحته قد أنتنت، معاذ الله! فالأنبياء يمرضون أمراضاً، لكنها ليست منفرة، فلا يكون النبي أبرص، ولا يكون النبي أجرب، ولا يكون النبي أقطع، لكن قد يبتلى النبي بالجراح، قد يبتلى بالصداع، قد يبتلى بالزكام، قد يبتلى بالحمى، ونحو ذلك من الأمراض اليسيرة، أما المرض المنفر، فالأنبياء معصومون منه.

فأيوب عليه السلام ابتلاه الله عز وجل في بدنه حتى قعد به مرضه، وتفرق عنه الناس، كما هي عادة الناس في الدنيا، فالإنسان إذا مرض ربما يهتمون به يوماً أو شهراً أو شهوراً أو سنة، ثم بعد ذلك كل ينشغل بأمره.

فتفرق الناس عن أيوب عليه السلام، ولم يبق معه جليس ولا أنيس، ما بقيت معه إلا امرأته رضي الله عنها، صابرة محتسبة، تطعمه وتسقيه، وتعينه على قضاء حاجته، وتدخل به وتخرج.

ثم لما نفد ما بقي عندهم من مال، قال أهل التفسير: أنها أخدمت نفسها في البيوت، بعدما كانت من أهل العز والشرف والخدم والرئاسة، صارت رضي الله عنها تخدم في البيوت بالأجر، حتى بلغ بها الحال أن الناس زهدوا في خدمتها، قالوا: ولم تجد ما تطعم به أيوب فذهبت إلى بعض بنات الأشراف وباعتها ضفيرة لها، يعني: كأن شعرها كان مميزاً فباعتها ضفيرة لها، ثم أتت أيوب عليه السلام بطعام جيد، فقال لها: من أين هذا؟ قالت: أخدمت نفسي ناساً، ثم لما كان اليوم الذي يليه، باعت ضفيرتها الأخرى، ثم جاءت لــأيوب عليه السلام بطعام جيد، فأقسم عليها بالله أن تخبره عن حقيقة الأمر، فكشفت عن رأسها فإذا هو حليق ليس فيه شعر، فدعا أيوب عليه السلام ربه: أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].

أيها الإخوة الكرام! الناس لا يفقهون سنن الله عز وجل، يظنون أن البلاء دليل على أن هذا الإنسان بعيد من الله، أو أنه قد أتى ذنباً عظيماً، أو أسرف في جنب الله عز وجل.

قال أهل التفسير: وكان لـأيوب عليه السلام صاحبان يترددان عليه حيناً بعد حين، فسمع أحدهما يقول للآخر: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما فعله أحد من العالمين، ولولا ذلك ما ابتلاه الله هذا البلاء، فقال له الآخر: لو كان عند أيوب خير لكشف الله عنه ما به، فلما سمع أيوب عليه السلام هذا الكلام تضرع إلى الله عز وجل، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني ما بت شبعان، وأنا أعلم بمكان جائع فصدقني، فصدقه الله عز وجل والرجلان يسمعان، كأن الله عز وجل أرسل ملكاً يقول: صدق عبدي أيوب.

ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني ما بت قط، وعندي قميصان، وأنا أعلم بمكان عار فصدقني، فصدقه الله عز وجل، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني أمر بالرجلين يتلاحيان -يتخاصمان- ويذكران اسمك، يعني الواحد منهم يقول: والله كذا، والآخر يقول: والله، كذا! فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما؛ كراهة أن يذكر اسمك في غير حق، اللهم فصدقني، فصدقه الله عز وجل، عندها خر أيوب عليه السلام لله ساجداً وقال: وعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي.

وبعد أن مكث في البلاء ثماني عشرة سنة، كما روى ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( مكث أيوب في الفقر والمرض والحاجة، وتفرق الناس عنه ثماني عشرة سنة ).

يقول أهل التفسير: دخلت عليه امرأته يوماً، وقد أدركها بعض ما يدرك البشر من الضعف، فقالت له: يا نبي الله! ألا تدعو الله عز وجل فيكشف ما بك، فقال لها: إني مكثت في العافية سبعين سنة، أقليل على الله أن أتحمل بلاءه ثماني عشرة سنة؟!

فكأنه صلوات ربي وسلامه عليه سلم أمره لله، صبر واحتسب، فلما خر لله ساجداً، وقال: وعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي، أنبع الله له عيناً من الماء، قال الله له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ[ص:42]، أي: اضرب الأرض برجلك، فأنبع الله له تلك العين.

ثم قال: هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، أي: اشرب من هذه العين، من ذلك الماء يذهب الله ما بك من الأمراض الباطنة، ومغتسل أي: اغسل به جسدك يذهب الله ما بك من المرض الظاهر، الذي أصاب جلدك.

يقول الله عز وجل: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:43].

قال أهل التفسير: كان لـأيوب وعاءان أحدهما للقمح والآخر للشعير، فأرسل الله عز وجل سحابتين صبت في أحد الوعاءين ذهباً وفي الآخر ورقاً (أي فضة)، فبدل القمح والشعير ذهباً وفضة، وعوضه الله عز وجل عن الذرية التي ذهبت ضعفها، وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:43].

فقام أيوب عليه السلام واغتسل من ذلك الماء، وشرب منه، فعاد كما كان، جمال خلقة وصباحة وجه واستواء صورة. فجاءت امرأته رضي الله عنها، فقالت له: يا عبد الله! أما رأيت أيوب ذاك المبتلى؟ فوالله القدير ما رأيت رجلاً أشبه به منك حين كان صحيحاً، فقال لها: أنا أيوب، يعني: هي استبعدت أن يرجع لحاله الأولى في لحظات معدودات.. فقد فارقته عن قريب ثم رجعت فإذا الحال غير الحال والله على كل شيء قدير.

يا أيها الإخوة الكرام! الصبر على البلاء من خصال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

وانظر كيف صبر يوسف عليه السلام، وكيف صبر إبراهيم عليه السلام على أب كافر، يدعوه إلى الله، وقوم فجار، يبادئونه بالعداوة، وانظر كيف صبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين آذاه قومه وفعلوا به ما فعلوا، ( ونزل عليه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين، فكان يقول: بل أصبر، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون ).

والإنسان إذا نزل به البلاء يصبر على قدر الله عز وجل، وفي الوقت نفسه يطرق أبواب السماء، فإن الله عز وجل قادر على أن يغير حاله.

ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال

فكم من مريض قد أصح الله جسده، ورد عليه عافيته، وكم من فقير أغناه الله من فضله، وكم من جاهل علمه الله عز وجل من علمه، وكم من مبتلى كشف الله عز وجل ما به من البلاء، وكم من عقيم رزقه الله عز وجل ذرية قرن بها عينه، وكم وكم في هذه الدنيا من النماذج! هذا الذي نستفيده من قصة أيوب.

أسأل الله أن يرزقنا الاقتداء به.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ذو القرنين 2756 استماع
فرعون 2321 استماع
يوسف عليه السلام 2278 استماع
قارون 2031 استماع
زيد بن حارثة 1995 استماع
عيسى بن مريم عليه السلام 1910 استماع
أبو بكر الصديق 1802 استماع
خولة بنت ثعلبة وأم كلثوم بنت عقبة وحفصة بنت عمر وآسيا بنت مزاحم 1711 استماع
أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط 1709 استماع
يونس عليه السلام 1645 استماع