تأملات في سور القرآن - النحل


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

سورة النحل يسميها بعض علمائنا بسورة النعم، وبعضهم يسميها بسورة الامتنان؛ لأن الله عز وجل امتن فيها على عباده بنعمه في الأنعام والحيوانات والأرزاق والأقوات، ونعمة البنين والبنات والحفدة والزوجات، وامتن الله علينا كذلك بنعمة المساكن والبيوت، وامتن علينا بأعظم نعمه وهي نعمة الهداية للإسلام.

والمناسبة بينها وبين سورة الحجر أن في آخر سورة الحجر قول ربنا جل جلاله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وابتدأت سورة النحل بقول ربنا: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ[النحل:1]، أي: أن القيامة واقعة لا ريب فيها؛ ولذلك عبر عنها بالماضي، كناية عن الحدوث وتحقق الوقوع.

وهذه السورة مكية في قول جمهور المفسرين، إلا الآيات الأخيرة منها وهي قول ربنا جل جلاله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، قالوا: نزلت في يوم أحد لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جثمان عمه حمزة مجندلاً في ثرى أحد، وقد بقر المشركون بطنه وجدعوا أنفه، وقطعوا أذنه واستخرجوا كبده ومثلوا به، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ( والله يا عمي! ما وقفت موقفاً أغيظ من هذا؛ ولئن أمكنني الله منهم لأمثلن بسبعين )، فأنزل الله هذه الآيات: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:126-128].

وهذه السورة المباركة يتعلق بها سؤال في موضعين:

الموضع الأول: في الآية الخامسة والعشرين، قول الله عز وجل: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25]، هذه الآية بين فيها ربنا أن الضالين المضلين يحملون أوزارهم وأوزار من أضلوهم؛ ولذلك كان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين )، وقد دلت نصوص القرآن على أن الإنسان لا يحمل إلا وزره كقوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[الأنعام:164]، وكما في قوله سبحانه: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:36-39]، إلى قوله: ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:41]، الآيات.

وكذلك قول الله عز وجل: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى[فاطر:18]، فكيف التوفيق بين هذه المواضع؟ قال أهل العلم: أنه لا تعارض أصلاً؛ لأن هؤلاء الضالين المضلين لم يحملوا أزوار غيرهم، بل حملوا أوزار أنفسهم، لكن أوزارهم على قسمين: وزر الضلال، لكونهم ضالين، ثم وزر الإضلال؛ لأنهم أضلوا غيرهم، وهذا أيضاً في سورة العنكبوت: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، فهذه إن شاء الله واضحة، وفيها تحذير لكل إنسان في أن يتقي الله عز وجل فيما يقول وفيما يكتب وفيما يفعل؛ من أجل أن يكون هادياً مهدياً، غير ضال ولا مضل.

الموضع الثاني: قول الله عز وجل: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100]، فالله عز وجل أثبت أن الشيطان له سلطان على أوليائه، وعلى من يشركونه مع الله عز وجل؛ لأن بداية سياق الآيات: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:98-100]، وقد دلت آيات أخرى أن الشيطان ليس له سلطان أصلاً، كما في قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ[إبراهيم:22]، هذه الكلمات سيقولها الشيطان في أهل النار، نسأل الله العافية!

وكذلك قول الله عز وجل: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ[سبأ:20-21].

والجواب أن السلطان المثبت غير السلطان المنفي، فالسلطان المنفي هو سلطان الحجة، أي: ما كان للشيطان حجة على هؤلاء الذين اتبعوه، وأما السلطان المثبت فهو سلطان الإغواء والتزيين، وأن الشيطان زين لهم الضلالة على أنها هدى، وزين لهم الباطل وصوره حقاً، فتبعوه في تزيينه وإغوائه، أو كما قال بعض أهل التفسير: بأن السلطان المنفي هو سلطان التمكن، والله عز وجل لم يمكن إبليس من الناس، بل كما قال سبحانه: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، لكن ابن آدم لما كفر بالله وغفل عن ذكر الله وجعل لله أنداداً وكله الله إلى نفسه وإلى شيطانه، كما قال سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً [مريم:83]، سلط الله عليهم الشياطين لما غفلوا عن ربهم وعن ذكر مولاهم جل جلاله، فلا تعارض بين هذه المواضع.

أسأل الله أن ينور قلوبنا بنور القرآن، والحمد لله رب العالمين.