العمل بسهم المؤلفة قلوبهم
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
العمل بسهم المؤلفة قلوبهمفرَض الله - تعالى - في محكم كتابه الكريم للمؤلَّفة قلوبهم سهمًا في الزكاة، فقال - جل شأنه -: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي المؤلَّفة قلوبهم هذا السهم من الزكاة على هذا النحو: جماعة منهم ليُسلموا ويسلم قومُهم بإسلامهم، وجماعة أسلموا بضعف إيمانهم، فكان يعطيهم لتقوية إيمانهم وترغيبهم، وجماعة كان يُعطيهم لدفع خطرهم وشرِّهم.
وظلَّت تلك سيرته حتى لحق بربه.
ولما ولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة جاء بعضٌ مِن المؤلَّفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم كما كان الأمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب أبو بكر رضي الله عنه كتابًا إلى عمر رضي الله عنه - الذي كان خازن بيت المال - ليُعطيهم حقهم، فذهبوا بكتابه إلى عمر رضي الله عنه فقال لهم: لا حاجة لنا بكم؛ فقد أعزَّ اللهُ الإسلامَ، وأغنى عنكم، فرجعوا إلى أبي بكر، فأقرَّ ما فعله عمر[1].
ومنذ ذلك الوقت استقر الأمر على منع المؤلفة قلوبهم من سهمِهم هذا، وصرفه إلى من عداهم ممن ذكروا في الآية الكريمة.
قال الدواليبي: "لعلَّ اجتهاد عمر رضي الله عنه في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلَّفة قلوبهم كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعًا لتغيُّر المصلحة بتغير الأزمان، رغم أن النص القرآني في ذلك لا يزال ثابتًا غير منسوخ، إيثارًا لرأيه الذي أدى إليه اجتهاده"، ثم قال: "والخبر في هذا أن الله - سبحانه وتعالى - فرَض في أول الإسلام - عندما كان المسلمون ضعافًا - عطاءً يعطى لبعض مَن يُخشى شرُّهم، ويُرجى خيرهم؛ تأليفًا لقلوبهم، وذلك في جملة من عدَّدهم القرآن لينفق عليهم من أموال بيت المال الخاص بالصدقات فقال: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
وهكذا قد جعل القرآن الكريم للمؤلَّفة قلوبهم نصيبًا في جملة مصارف الصدقات، وجعل لهم بعض المخصَّصات على نحو ما تفعله الدول اليوم من تخصيص بعض النفقات من ميزانيتها للدعاية السياسية، "غير أن الإسلام لما اشتدَّ ساعده وتوطَّد سلطانه، رأى عمر رضي الله عنه حرمان المؤلفة قلوبهم من هذا العطاء المفروض لهم بنصوص القرآن"، ثم قال: وليس معنى ذلك أن عمر رضي الله عنه قد أبطل وعطَّل نصًّا قرآنيًّا، ولكنه نظر إلى عِلَّة النصِّ، لا إلى ظاهره، واعتبر عطاء المؤلفة قلوبهم معلَّلاً بظروف زمنية - أي: مؤقَّتة - وهي تألُّفهم واتقاء شرِّهم عندما كان الإسلام ضعيفًا، فلما قوِيتْ شوكة الإسلام، وتغيَّرت الظروف الداعية للعطاء، كان من موجبات النص ومن العمل بعلَّتِه أن يُمنعوا من هذا العطاء"[2].
وعلى الرغم مما قاله الدواليبي آنفًا، وعلى الرغم من دعوى الإجماع على إلغاء هذا السهم الذي ذُكرَ في تفسير أبي السعود[3]، فإنني أرى رأيًا آخر.
في رأيي أن الخليفتين لم يُلغيا - بعد النبي صلى الله عليه وسلم - سهم المؤلفة قلوبهم، ولم يُبطِلا هذا الحق الواجب لهم بنص القرآن الكريم، ولم يُخالِفا الآية، وإن لم يُعطيا المؤلَّفة يومئذ؛ لأن الله - عز وجل - إنما جعل الأصناف الثمانية في الآية مصارف الصدقات على سبيل حصر الصرف فيها خاصة دون غيرها، لا على سبيل توزيعها على الثمانية بأجمعها، وعلى هذا، فمَن وضع صدقاته كلها في صنف واحد من الثمانية تَبرَأُ ذمَّتُه، ومَن وزَّعها على الثمانية تبرأ ذمته كذلك، وهذا مما أجمع عليه كثير من الفقهاء، فلا بأس بما فعله عمر وأمضاه أبو بكر على هذا الأساس، دون القول بإلغائهما لهذا السهم نهائيًّا، مما لا يتفق مع النص القرآني الصريح.
وعلى ذلك، فاعتبار المصلحة المتغيرة موجبة لإلغاء نصٍّ - كما قال الدواليبي - ليس صحيحًا، والقول بالإجماع على إلغاء سهمِ المؤلفة قلوبهم ليس صحيحًا كذلك.
هذا، وقد قال الشافعية: إنهم لا يعتبرون المصلحة في تخصيص عام ولا في تقييد مُطلَق إلا إذا كان لها في الشريعة نصٌّ خاص يشهد لها بالاعتبار، فإذا لم يكن لها في الشريعة أصل شاهد باعتبارها إيجابًا أو سلبًا كانت عندهم - أي المصلحة - مما لا أثر له؛ فوجود المصالح المرسَلة وعدمها عندهم على حدٍّ سواء في هذه الحالة.
أما الحنابلة فإنهم وإن أخَذوا بالمصالح المُرسَلة التي لا يكون لها في الشريعة أصل يشهد لها، فإنهم مع ذلك لا يَقفون بالمصالح موقف المعارَضة من النصوص، بل يؤخِّرون المصلحة على النصوص.
أما المالكية فهم وإن أخذوا بالمصالح المرسَلة ووقفوا بها موقف المعارضة للنصوص، فإنهم إنما يعارضون بها أخبار الآحاد وأمثالها مما لا يكون قطعيَّ الثبوت، ويُعارضون بها بعض العموميات القرآنية التي لا تكون قطعية الدلالة على العموم، أما ما كان قطعيَّ الثبوت وقطعيَّ الدلالة فلا يمكن عندهم أن تَقِفَ المصالح المرسلة معارضةً لها أبَدًا.
وعلى هذا، ففي رأينا أن نصَّ المؤلفة قلوبهم قطعيُّ الثبوت والدلالة معًا، مما لا يبرِّر إلغاءه تحت أي حجة، وبالجُملة فإن أصول الفقه على هذه المذاهب كلها لا تُبيح حرمان المؤلفة قلوبهم على مبدأ تغيُّر المصلحة حرمانًا مطلقًا، وإنما تبيح تأجيله أو صرفه لصالح المصارف الأخرى، لضرورة أو مصلحة مؤقَّتة، لا إلغاءه نهائيًّا كما قيل.
وإذا صح هذا، فإنني أرى ضرورة العودة إلى العمل بهذا السهم لتغيُّر الظروف مرة أخرى عما كانت عليه أيام الخليفتين رضي الله عنهما؛ فالمسلمون الآن قد أصبَحوا ضعفاء، يترصَّد لهم أعداؤهم في كل سبيل وفي كل مكان من هذا العالم، كما هو مشهود ومعروف، ليس ذلك فحسب، بل إن الغرب قد قطع السبيل على الإسلام أن ينتشر في مجالاته الطبيعية في إفريقيا وآسيا، وحاول ويُحاول بكل الطرق والأساليب - وعلى رأسها المغريات المادية والمساعدات - أن يُحوِّل ليس الوثنيين فحسب، بل والمسلمين إلى دِينه، وقد خصَّصت كل الدول الغربية - وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية - أموالاً ضخمة للإنفاق على الفقراء، ورعاية الأيتام، وإنشاء المشاريع، والمدارس في عدد من الدول الإفريقية والآسيوية بصفة خاصة؛ تأليفًا لقلوبهم، وإدخالاً لهم في دينهم.
ومِن تجاربي الخاصة، عندما زرتُ عددًا من الدول الإفريقية، أننا لو تمكنا فقط من الإنفاق على عدد محدود جدًّا من الدعاة الذين تعلموا اللغة العربية والدين من أهل القبائل غير المسلمة في هذه البلاد - وهم موجودون - لأمكن إدخال الملايين من أبناء هذه القبائل في الإسلام، وقد رأيتُ بعينَي رأسي - أيضًا - دعاة متطوِّعين من أهل تلك البلاد، لا يَملكون حتى نسخًا من كتاب الله الكريم لاستخدامها في تعليم الداخلين في الإسلام، ورأيتُهم أحيانًا يتبادَلون نسخة واحدة من القرآن الكريم.
إنَّ الضرورة الآن تَقتضي إنشاء مؤسسة خاصة تتبع الأزهر الشريف، ويُمثِّلها ملحقون دينيون في السفارات المصرية في قارات العالم، خاصة إفريقيا وآسيا، على أن تتلقَّى هذه المؤسسة نسبة سهم المؤلَّفة قلوبهم من زكاة المسلمين والمتبرعين في كافة أنحاء الوطن الإسلامي، وأن تقوم بالإنفاق من هذا السهم على الدعوة وتأليف القلوب، وتجربتي الشخصية تدعوني إلى القول بضرورة التدقيق في اختيار هؤلاء الملحقين والدعاة؛ بحيث تتوفَّر فيهم عدة شروط، أولها: معرفة لغات القوم وتاريخهم، والدراية بعلم الأنثروبولوجيا، وأن يكونوا من الشباب القادر على الحركة والتجوُّل ومخالطة الناس، والقدرة على اكتسابهم وإقناعهم وقيادتهم.
لو أمكن أن يتبنَّى الأزهر الشريف هذا الاقتراح والدعوة له، وتأسيس مؤسَّساته، فإنَّنا بذلك نؤدِّي واجبًا أهملناه طويلاً، ولا نَنسى أن للدعوة واجبًا على كل مسلم ومسلمة.
وبالله التوفيق
[1] راجع ذلك في كتاب الجوهرة النيرة على مختصر القدوري في الفقه الحنفي (ص: 164) من الجزء الأول، وقد ذكر هذه الحادثة غير واحد، عند حديثهم عن مناقب الخليفتَين.
[2] محمد معروف الدواليبي في كتابه: "المدخل إلى علم أصول الفقه" دار العلم: 1385 هـ؛ حيث ذكر أمثلة على تغير الأحكام بتغير الأزمنة (ص: 239).
[3] أول (ص: 150) من هامش الجزء الخامس من تفسير الرازي، وما ذكر مرسلاً في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، (ص: 502) أخرجته وزارة الأوقاف المصرية تحقيقًا لرجاء الملك فؤاد.