قيام الليل
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
الحمد لله الذي جعل الصلاة راحة للمؤمنين، ومفزعاً للخائفين، ونوراً للمستوحشين، والصلاة والسلام على إمام المصلين المتهجدين، وسيد الراكعين والساجدين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
أمّا بعد:
فإنّ قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين، ففي اللّيل يخلو المؤمنون بربّهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات.
قيام الليل في القرآن
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]. قال مجاهد والحسن: " يعني قيام الليل ".
وقال ابن كثير في تفسيره: " يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة ".
وقال عبد الحق الأشبيلي: " أي تنبو جنوبهم عن الفرش، فلا تستقر عليها، ولا تثبت فيها لخوف الوعيد، ورجاء الموعود ".
وقد ذكر الله عزّ وجل المتهجدين فقال عنهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18،17] قال الحسن: " كابدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر، ثمّ جلسوا في الدعاء والإستكانة والإستغفار ".
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
أي: هل يستوي من هذه صفته مع من نام ليله وضيّع نفسه، غير عالم بوعد ربه ولا بوعيده؟!
إخواني: أين رجال الليل؟ أين ابن أدهم والفضيل ذهب الأبطال وبقي كل بطال !!
يا رجال اللّيل جدوا *** ربّ داع لا يُردُ
قيام اللّيل في السنة
أخي المسلم، حث النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل ورغّب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بقيام اللّيل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،ومطردة للداء عن الجسد» [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل» [متفق عليه].
قال سالم بن عبد الله بن عمر: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من اللّيل إلاّ قليلاً.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «في الجنّة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والنّاس نيام» [رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنّك ميت، وأحبب من شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك مجزي به، واعلم أنّ شرف المؤمن قيامه باللّيل، وعزّه استغناؤه عن النّاس» [رواه الحاكم والبيهقي وحسنه المنذري والألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» [رواه أبو داود وصححه الألباني].
والمقنطرون هم الذين لهم قنطار من الأجر.
وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه !!» [متفق عليه].
وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» [رواه مسلم].
قيام النبي صلى الله عليه وسلم
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1-4].
وقال سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.
فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟» [متفق عليه].
وهذا يدل على أنّ الشكر لا يكون باللّسان فحسب، وإنّما يكون بالقلب واللسان والجوارح، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بحق العبودية لله على وجهها الأكمل وصورتها الأتم، مع ما كان عليه من نشر العقيدة الإسلامية، وتعليم المسلمين، والجهاد في سبيل الله، والقيام بحقوق الأهل والذرية، فكان كما قال ابن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروفٌ من الصبح ساطعُ
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقناتٌ أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النّساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوذ...
الحديث » [رواه مسلم].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء.
قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأَدَعَهُ!» [متفق عليه].
قال ابن حجر: " وفي الحديث دليل على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قوياً محافظاً على الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما هم بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده ".
قيام الليل في حياة السلف
قال الحسن البصري: " لم أجد شيئاً من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل ".
وقال أبو عثمان النهدي: " تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون اللّيل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا ".
وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنّه حبة على مقلى، ثم يقول: " اللّهم إنّ جهنّم لا تدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه ".
وكان طاوس يثب من على فراشه، ثم يتطهر ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: " طيَّر ذكر جهنّم نوم العابدين !! ".
وكان زمعة العابد يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: " يا أيّها الركب المعرِّسون، أكُل هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون !! فيسمع من هاهنا باكٍ، ومن هاهنا داع، ومن هاهنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى: عند الصباح يحمد القوم السرى !! ".
طبقات السلف في قيام الليل
قال ابن الجوزي: واعلم أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات:
الطبقة الأولى: كانوا يحيون كل اللّيل، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء.
الطبقة الثانية: كانوا يقومون شطر اللّيل.
الطبقة الثالثة: كانوا يقومون ثلث اللّيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سُدسه» [متفق عليه].
الطبقة الرابعة: كانوا يقومون سدس اللّيل أو خمسه.
الطبقة الخامسة: كانوا لا يراعون التقدير، وإنّما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام.
الطبقة السادسة: قوم كانوا يصلون من اللّيل أربع ركعات أو ركعتين.
الطبقة السابعة: قوم يُحيون ما بين العشاءين، ويُعسِّـلون في السحر، فيجمعون بين الطرفين. وفي صحيح مسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في اللّيل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلاّ آتاه، وذلك كل ليلة» .
الأسباب الميسِّرة لقيام الليل
ذكر أبو حامد الغزالي أسباباً ظاهرة وأخرى باطنة ميسرة لقيام الليل:
فأمّا الأسباب الظاهرة فأربعة أمور:
الأول: ألاّ يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام.
الثاني: ألاّ يتعب نفسه بالنّهار بما لا فائدة فيه.
الثالث: ألاّ يترك القيلولة بالنّهار فإنّها تعين على القيام.
الرابع: ألاّ يرتكب الأوزار بالنّهار فيحرم القيام باللّيل.
وأمّا الأسباب الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
الثالث: أن يعرف فضل قيام اللّيل.
الرابع: وهو أشرف البواعث: الحب لله، وقوة الإيمان بأنّه في قيامه لا يتكلم بحرف إلاّ وهو مناج ربّه.
قيام رمضان
قيام رمضان هو صلاة التراويح التي يؤديها المسلمون في رمضان، وهو من أعظم العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربّه في هذا الشهر.
قال الحافظ ابن رجب: " واعلم أنّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنّهار على الصيام، وجهاد باللّيل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين وُفِّي أجره بغير حساب ".
وقال الشيخ ابن عثيمين: " وصلاة اللّيل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [متفق عليه] وقيام رمضان شامل للصلاة في أول اللّيل وآخره، وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان، فينبغي الحرص عليها والإعتناء بها، واحتساب الأجر والثواب من الله عليها، وما هي إلاّ ليالٍ معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها ".
وتشرع صلاة التراويح جماعة في المساجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من سنّ الجماعة في صلاة التراويح في المسجد، ثمّ تركها خشية أن تُفرض على أمته، فلمّا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار ربّه، واستقرت الشريعة؛ زالت الخشية، وبقيت مشروعية صلاتها جماعة قائمة.
وعلى المسلمين الإهتمام بهذه الصلاة وأداؤها كاملة، والصبر على ذلك لله عزّ وجل.
قال الشيخ ابن عثيمين: " ولا ينبغي للرجل أن يتخلف عن صلاة التراويح لينال ثوابها وأجرها، ولا ينصرف حتى ينتهي الإمام منها ومن الوتر ليحصل له أجر قيام اللّيل كلّه ).
ويجوز للنّساء حضور التراويح في المساجد إذا أمنت الفتنة منهنّ وبهنّ. ولكّن يجب أن تأتي متسترة متحجبة، غير متبرجة ولا متطيبة، ولا رافعة صوتاً ولا مبدية زينة.
والسنة للنّساء أن يتأخرن عن الرجال ويبعدن عنهم، ويبدأن بالصف المؤخر فالمؤخر عكس الرجال، وينصرفن من المسجد فور تسليم الإمام ولا يتأخرن إلاّ لعذر، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلّم قام النّساء حين يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيراً قبل أن يقوم.
قالت: نرى - والله أعلم - أنّ ذلك كان لكي ينصرف النّساء قبل أن يدركهن الرجال» [رواه البخاري].
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من إعداد/ دار الوطن
موقع طريق الدعوة