بين سفر الدنيا وسفر الآخرة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
بين سفر الدنيا وسفر الآخرةالحمد لله الذي خلق فهدى، وأنعم وأسدى، أحمده تعالى وأشكره على آلائه التي لا نحصي لها عددًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا أحدًا، فردًا صمدًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُالله ورسوله، أكرِمْ به رسولًا وعبدًا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين أكسبهم شرفًا ومجدًا، والتابعين ومن تبعهم بأمثل طريقة، وأقوم سبيل وأهدى؛ أما بعدُ:
فلا تمشِ يومًا في ثياب مَخْيَلة
فإنك من طينٍ خُلقتَ وماءِ
أزور قبور المترفين فلا أرى
بهاءً وكانوا قبلُ أهلَ بهاءِ
يعزُّ دفاع الموت عن كل حيلة
ويعيا بداء الموت كل دواءِ
أمامك يا نومانُ دارُ سعادةٍ
يدوم البقا فيها ودار شقاءِ
خُلقتَ لإحدى الغايتين فلا تَنَمْ
وكُنْ بين خوف منهما ورجاءِ
أيها الأحبة في الله:
لي معكم اليوم ثلاث وقفات:
أما الوقفة الأولى فهي:
وقفة مع السفر:
السفر سفران؛ فأعظم سفر هو سفر إلى الله والدار الآخرة، وإن من الأمور التي يوافقك عليها جميع المؤمنين، ولا يخالفك فيها أحد من المسلمين، أن هذه الدنيا إنما هي جسرٌ يعبره العابرون، ويجتازه المارُّون، قد قدموا من دار لينتقلوا إلى دار، قد قدموا من عالم العدم؛ لينتقلوا إلى دار الخلود: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، ويقول الله تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 62]، ثم هم إما إلى نعيم مقيم، أو جحيم أليم؛ قال العلي الخبير: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7]، فنحن في هذه الدنيا في سفر دائم، لا أحد منا يعلم متى يُقال له: حطَّ رحالك، وودِّع أهلك ومالك، واعرض علينا أعمالك؛ عندئذٍ ينتهي السفر؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].
ولئن كان السفر الذي نسافره في هذه الدنيا قطعةً من العذاب، فكيف بالسفر لملاقاة العزيز الوهاب؟! فالسفر شاقٌّ وطويل، والزاد ضئيل وقليل، ونهاية السفر، إما إلى نار وجحيم، وإما إلى جنات النعيم:
فحيَّ على جنات عدن فإنها
منازلُك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبيُ العدوِّ فهل ترى
نعود إلى أوطاننا فنسلَمُ
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
والنوع الثاني من السفر: سفر راحةٍ واستجمام، فسافر لترى البُلدان والأمصار، سافر لترى العجائب والآثار:
تلك الطبيعةُ قِفْ بنا يا سارِ
حتى أريَك بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزَّتا
لروائع الآيات والآثارِ
الماء الذي لا يجري يتغير ويحمل الأنجاس، والشمس لو بقيت واقفة في السماء لملَّها الناس، والأُسْدُ لولا فراقُ الغاب ما افترست، والسهم لولا فراق القوس لم يُصِب.
فمن آداب السفر ألَّا تسافر إلى بلدان مشبوهة، وأماكن بالفساد معروفة، فهذا ليس سفرَ طاعةٍ، بل هو سفر معصية، وكل لحظة تقضيها في تلك البلدان، فأنت في سخط وغضب من الواحد الديان، ألَا تخشى أن تُقبَضَ روحك هناك، وأن تموت في سخط ومعصية مولاك:
مشيناها خطًى كُتِبت علينا
ومن كُتبت عليه خطًى مشاها
ومن كانت منيَّتُه بأرضٍ
فليس يموت في أرضٍ سواها
الوقفة الثانية: مع سفر المعصية:
السفر إلى شواطئ العُرْيِ والفجور، وإلى أماكن التبرج والسُّفور، منكرات مخزية ومبكية، نراها في شواطئنا البحرية، فما يحدث على شواطئنا منكَرٌ، لا يرضاه عاقل ولا رب البشر، الله تبارك وتعالى سخر لنا البحر وجعله نعمة، بل هو آية من آياته ومنة؛ مناظر لغروب الشمس جميلة، ولوحة يرسمها المبدع كل ليلة، مياه ورمال، حسن وجمال؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الجاثية: 12]، ولكن مع كل أسف، جاء الإنسان فأفسد، وعصى الواحد الأحد؛ اختلاط وفجور، عُرْي وسفور:
فيا عجبًا كيف يُعصَى الإله
أم كيف يجحده الجاحدُ
وله في كل شيء آية
تدل على أنه واحدُ
أسر تزعُم أنها مسلمة متمسكة بدينها، تتفنن نساؤها وبناتها في إبراز مفاتنها، أين المروءة؟ أين الرجولة؟ ما هذه المنكرات؟ أين الشهامة؟ أين الغَيرة على الحُرُمات؟ رجل يسبح شبه عارٍ أمام بناته، أمٌّ تسبح شبه عارية أمام أبنائها، وبنت تفنَّنت في إبراز مفاتنها؛ جاء في مسند الإمام أحمد عن أم الدرداء رضي الله عنها، قالت: ((خرجتُ من الحمَّام، فلقِيَني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أين يا أم الدرداء؟ فقالت: من الحمام، فقال: والذي نفسي بيده، ما من امرأة تنزِع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها، إلا وهي هاتكةٌ كلَّ سترٍ بينها وبين الرحمن عز وجل)).
هذا حمام فقط، قال فيه ما قال، فكيف بالتي تنزع ثيابها في الشواطئ أمام الرجال؟ عيون للشباب تترصدها، وقلوب مريضة تنهَش جسدها، سقط الحياء، وهُتِكَ السِّتار، وغضِبَ الجبَّار.
الوقفة الثالثة: رسالة شكر وعتاب للشابات والشباب:
أما شكري، فأوجِّهه لمن عرَف ربَّه، وسلك طريقه ودربه:
أُهْدِي الشباب تحية الإكبار
هم كَنْزُنا الغالي وسرُّ فَخاري
هل كان أصحاب النبي محمدٍ
إلا شبابًا شامخَ الأفكارِ
أيها الشاب، انتبِهْ؛ فالشباب فترة تمر ولا تعود، ومرحلة للنجاح والصعود، الشباب ساعة، فاغتنمها في الطاعة، الشباب قوة، فلا تفسدها في الشهوة، الشباب مرحلة ستُسأل عنها فيما قضيتها، وفيما أفنيتها، الشاب المسلم لا يعرف الفراغ؛ فهو يستغل وقته قدر المستطاع، الشباب عافية وصحة كأنها تاج من ذهب، والكل حتمًا سيزول ويذهب، أيها الشاب، اغتنم شبابك قبل الهَرَمِ، فسيأتي يومًا على شبابك ستندم، لو سألتَ شيخًا: ماذا تتمنى؟ لتمنَّى أن يعيش يومًا من شبابه، يومًا من عافيته وصحته وقوته، يومًا بلا أمراض ولا آلام، يومًا بلا تعب ولا أسقام، يومًا يستطيع فيه أن يقف على قدميه، أن يمشي أن يجري، فهذا أقصى أمانيه.
أما عتابي فإليك أيها الشاب، يا من فتَّشنا عنك في المسجد فما وجدناك، وبحثنا عنك بين الصفوف فما رأيناك، زُرْتَنا في رمضان والآن هجرتنا، سُرِرْنا بإقبالك في تلك الأيام والآن أحزنتنا، مكان سجودك اشتاق إليك، والمؤذِّن خمس مرات في اليوم يناديك، أقْبِلْ على ربِّك، أقبِل على الفلاح، أقبل على سعادتك، فهنا السر، وهنا المفتاح؛ مفتاح سعادتك في خطوات تمشيها، ودقائق في بيت الله تقضيها.
أيها الشاب، إياك وأصدقاءَ السوء، أصحابك جنتك، وأصحابك نارك، فاختر بين أصحاب وأصحاب، فالنار دركات، والجنة درجات وأبواب، صاحبك قد يكون طريقك إلى الجنة؛ فبه تسعَد والله عنك يرضى، وقد يكون طريقك إلى النار فبه تخسر وتشقى.
أنت في نعمة أيها الشاب؛ ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 211].
يا رب، أكرمتنا فلك الحمد، ورزقتنا فلك الحمد، وعافَيْتَنا فلك الحمد، وسترتنا فلك الحمد، فلك الحمد دائمًا وأبدًا.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.