أرشيف المقالات

الرياضة.. الأخلاق الفاضلة

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الرياضة الأخلاق الفاضلة

الأمة الإسلامية وهي تتطلع إلى تفعيل دورها الغائب لا بد لها من العودة إلى الينابيع الأولى - الكتاب والسنة - التي استقى منها الرعيل الأول تجربته الإنسانية الرائدة؛ انطلاقًا لبناء النخبة المؤثرة التي تمثل قدوة الأمة، وقلبها النابض؛ لتصمد قبالة هذه الأعاصير العاتية من الداخل والخارج، التي تسعى لتقتلع ثوابتها العقدية، وربما حتى حقوقها الإنسانية، "فإن قاده الفكر وما ينجزون سيصبحون من أبرز الأدوات الحضارية في توجيه طاقات الأمة، ووقاية مقوماتها، من حيث: كوادرها، ونسقها العقدي، وثقافتها، ورسالتها الحضارية، ولغتها، ومؤسساتها، وحمايتها من التخلخل الداخلي الذي يهدد بناءها الأساسي، ومن التغلغل الخارجي الوافد الذي يهدد كيانها ورسالتها الحضارية، إضافة إلى تهديد قدرتها على التجديد والارتقاء والتميز، إن صناعة الطليعة المبدعة التي سعِدتْ بها الإنسانية، فاختزلت الزمان والمكان واحترمت الأديان، وصانت كرامة الإنسان، خلافًا للحضارة المعاصرة، وبالرغم من أنها أقامت العمران، فإنها أهانت الإنسان وأقصت الأديان، وإن علا صوتها ولمع بريقها في الأرض والأنفس والآفاق.
 
واكتساب الأخلاق من الوظائف التربوية العامة والمتعارف عليها للتربية البدنية والرياضة؛ حيث تختار الأنشطة والمهارات والسلوكيات بعناية لتحقيق أهداف تربوية محددة، التي يكتسبها المسلم في شكل قيم وحصائلَ سلوكية، فيما يعرف بالمنهج الرسمي للتربية البدنية والرياضة.
 
ولكن هناك وسائل وقنوات أخرى تسهم فيها التربية البدنية والرياضة في إكساب القيم والمعارف مثل مجموعة القيم والسلوكيات التي تكتسب خارج المنهج.
 
إن الاهتمام الزائد الذي تناله الرياضة يؤثر في الثقافة الفرعية للمراهقين، كما وُجد أن المراهق يستطيع أن يمثل أقرانه عبر الرياضة، بينما يصعب عليه ذلك من خلال المواد؛ مثل: التحصيل والنجاح، العمل والنشاط، والتوجه الخلقي نحو المزيد من الإنسانية، والكفاية والاتجاه العملي، والتقدم، والتكيف المادي، والمساواة، والعلم والتفكير العلمي، والشخصية المتفردة، والعنصرية وما يقودها من مشتملات؛ مثل:
تعلم الحياة وسط الزحام.
تعلم تقبل تقييم الآخرين.
تعلم التنافس من أجل الحصول على جائزة ما.
 
تعلم ما يتصل بالتصنيف الطبقي الهرمي للمجتمع ومن المنظور الشرعي؛ أشار ابن قيم الجوزية إلى الجري والسباحة وحمل الأثقال والمصارعة على أنها مباحة؛ لأن فيها تقوية البدن، وراحة النفس، وانشراحًا للصدر مع عدم وجود مضرة فيها.
 
فمنذ أن نشأت الرياضة والأخلاق والقيم الاجتماعية إحدى دعائمها ومقوماتها الكبرى، حتى أصبح من الدارج سماع التجريد العامي للرياضة بأن "الرياضة أخلاق"، وهذا النعت الذي أصبح جوهرًا لصيقًا بالرياضة، لا يمكن أن تتخلص أو حتى تتخفف منه، والطبيعة التنافسية للرياضة تحتِّمه، وإلا أصبح الملعب ساحة قتال تُسفك بها الدماء، كما فعل الروم الوثنيون بالشهداء المسيحيين الأوائل، وجعلوهم يصارعون العبيد الأشداء حتى الموت، تحت اسم الرياضة والفرجة الرياضية، وكانت الرياضة عبر التاريخ - وستظل إلى ما شاء الله - وسيلة من وسائل تطبيع الأطفال والشباب على تقاليد المجتمع، وتنشئتهم على مكارم الأخلاق والآداب المحمودة.
 
ولقد كتب إخوان الصفا في رسائلهم أن المحاكاة والاختلاط تساعد على نقل الأفكار، فإذا نشأ الصبيان مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح وتربَّوا معهم، تطبَّعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم.
 
ولقد كتب المؤرخ الحسن بن عبدالله في كتابه (آثار الأول في ترتيب الدول) عن الآثار الخُلُقية للرياضة من المنظور النفسي الاجتماعي فقال: "منها: السرور والفرح بالظفر، والاستياء مع التألم مع العجز والغلبة، فإن بذلك يُعرف مقدار لذة الغلبة، ومنها تعود الاجتماع والتدريب، ومساعدة الأصحاب بعضهم لبعض، وتعاضد الأولياء، وتعاونهم على الخصوم والأعداء".
 
قال عتبة بن الزبير: "يا بَنيَّ، العبوا؛ فإن المروءة لا تكون إلا بعد اللعب".
 
وذكر عالم الطب المسلم ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية في الإنسان، في معرض تناوله لقيم الرياضة في كتابه (الموجز في الطب).
 
واللعب بالصولجان رياضة للبدن والنفس، ولِما يلزمه من الفرح بالغلبة، والغضب بالانقهار.
 
ونوَّه أبو الفرج بقيمة اللعب للطفل، وكيف يمكن الحكم على سلوك الطفل من خلاله، ودعا إلى أن يتشاغل الصبي بالنماذج الطيبة من الحياة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يُجنَّب أشعار الغزل؛ لأنها بذور الفساد، وأن يُشجَّع على تقدير أشعار السخاء والمجد، وأن يُجنَّب رفقاء السوء في اللعب وغيره.
 
ولقد قدَّم ابن قيم الجوزية كتابه الفروسية، ولعله أفضل ما كتب السلف الصالح عن الرياضة الإسلامية؛ بقوله: "هذا مختصر في الفروسية الشرعية والنبوية التي هي من أشرف عبادات القلوب والأبدان، الحاملة لأهلها على عزة الرحمن.
 
ولقد ذهب ابن القيم مذهب أستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي دعا الشباب إلى تقوية أبدانهم بالرياضة الشرعية، وترك الحياة الناعمة، والتمسك بالجهاد.
 
﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].
 
ويقول ابن كثير في تفسيره هذه الآية؛ أي: هو مع هذا أعلم منكم، وأنبل، وأشد قوة وجسمًا في الحرب، ومعرفة بها، ومن هنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن، وقوة شديدة في بدنه ونفسه.
 
وقال الله تعالى: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].
 
ويذكر ابن كثير في تفسيره: "﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26] حين سألها أبوها: وما علمكِ بذلك؟ قالت له: رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال".
 
وهكذا يتضح المفهوم القرآني في الربط بين السلوك القويم (الأمانة)، وبين صحة الأجسام (القوة)، وهذا الجمع التلازمي يعبر عن تصور إسلامي شمولي لطبيعة الإنسان؛ فلا انفصام بين الجسم والأخلاق.
 
وقال تعالى: ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ [البقرة: 247]؛ ربط بين العقل (العلم)، وبين القوة والبأس (الجسم)، كمقتضيات لأرفع مسؤوليات الإنسان؛ وهي الحُكْمُ.
 
ويذكر الشيخ محمد الغزالي أن عناية الإسلام بالرياضة تنبع من عنايته بجسم الإنسان؛ فإن الإسلام يهتم بالإنسان جسمًا وعقلًا، فهو لا يزكِّي الروح والقلب على حساب حرمان الجسد وضعفه، بل هو يكرم جسد الإنسان، يقويه إذا ضعُف، ويصلحه إذا مرِض، ويمرنه على تحمُّل الأعباء التي تفرضها الرجولة، وذلك الجسم السليم هو الذي يتحمل تكاليف العمل ومشاق الجهاد، أما الجسم الواهن المتعَب، فيعجز عن أداء واجباته؛ فيسقط في الطريق.
 
والرياضة والتربية البدنية في السياق الإسلامي أحد الجوانب الأساسية في تنمية الشخصية الإنسانية المسلمة لأعلى المستوى الجسمي فقط، بل على كافة المستويات السلوكية عقليًّا وروحيًّا، فهدفها هو الشمول والتكامل، والربط بين سلامة الجسم، وحاجة العقل، وصفاء الروح.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١