أرشيف المقالات

منهج ابن كثير في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
منهج ابن كثير في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 
تعريف المعروف لغة واصطلاحًا:
يدور معنى المعروف في اللغة غالبًا على ما تعارَفَ عليه الناسُ وعلِموه ولم يُنكِروه[1].
 
وجاء في المعجم الوسيط: العُرف: المعروف، وهو خلاف المنكَر وما تعارَفَ عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم[2].
 
وفي الاصطلاح: المعروف: هو كل ما يَعرِفُه الشرع ويأمر به، ويمدحه ويُثني على أهله، ويدخل في ذلك جميعُ الطاعات، وفي مقدمتها توحيدُ الله عز وجل والإيمان به[3].
 
تعريف المنكر لغة واصطلاحًا:
يدور معنى المنكَر في اللغة غالبًا على ما جهله الناس واستنكَروه وجحَدوه[4]، والمنكَر ضد المعروف؛ يقال: نَكِرَ الشيءَ وأنكَرَه: لم يَقبَله ولم يعترف به لسانه[5].
 
وفي الاصطلاح:
المنكر: هو كل ما يُنكِرُه الشرع وينهى عنه، ويذمُّه ويذم أهله، ويدخل في ذلك جميعُ المعاصي والبدع، وفي مقدمتها الشِّركُ بالله عز وجل، وإنكار وحدانيته أو ربوبيته أو أسمائه وصفاته[6].
 
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر قِوامُ أمر الناس، وصِمامُ أمنِ الحياة، لا تستقيم الدنيا ولا تصلُح بدونه، وقد اعتنى ابن كثير ببيان هذا الأمر عنايةً كبيرة، فذكر أهميته وضرورته للأمَّة، وأنه واجب على كل أحد بحسَبِه، وأنه سبب للنجاة في الدنيا والآخرة، وسبب للتمكين والعزة، إلى غير ذلك مما سنذكره بشكل موجز من خلال النقاط التالية:
1- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يرى ابن كثير أنه يتعيَّن على الأمَّة أن تكون فِرقةٌ منها متصديةً للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما على الأفراد فالأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ على كل فرد بحسب قدرته وطاقته؛ يقول رحمه الله عن تفسير الآية: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 104]:"أي منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصودُ من هذه الآية أن تكون جماعةٌ من الأمَّة منتصبة لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمَّة بحسَبِه"[7].
 
2- إن الآمر بالمعروف يتعيَّن عليه فعلُ ما أَمَرَ به، وكذا الناهي عن المنكَر يتعيَّن عليه تركُ ما يَنهى عنه، ولكن لا نُسقِط أحدهما بترك الآخر، فيقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44]: "والغرض أن الله تعالى ذَمَّهم على هذا الصُّنع، ونبَّههم على خطاياهم في حقِّ أنفسهم، حيث كانوا يأمُرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمَّهم على أمرِهم بالبرِّ مع تركهم له، بل على تركِهم له، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ، والأولى بالعالم أن يفعله مع مَن أمَرَهم به ولا يتخلَّف عنه، كما قال شعيب عليه السلام: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]، فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعلِه واجبٌ، لا يسقُط أحدُهما بترك الآخر على أصح قولَي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا يَنهى غيرَه عنها، وهذا ضعيف، وأضعفُ منه تمسُّكُهم بهذه الآية، فإنه لا حُجَّةَ لهم فيها، والصحيح أن العالِم يأمر بالمعروف وإن لم يَفعله، ويَنهى عن المنكر وإن ارتكَبَه...
ولكنه والحالة هذه مذمومٌ على ترك الطاعة وفعله المعصية؛ لعلمه بها ومخالفته على بصيرة؛ فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم"[8].
 
وهذا التصوُّرُ لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قرَّرَه ابن كثير من خلال المنهج العقليِّ - يكون عونًا على تصحيح المفهوم الخاطئ لدى بعض الدعاة، وذلك بترك الداعية بعضَ الأحيان القيامَ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله؛ بحُجة تقصيره في عدم فعل ما يأمُر به ويدعو إليه، وعدمِ تركه لما يَنهى عنه ويحذِّر عنه، والصحيح كما قال ابن كثير "أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يَفعله، ويَنهى عن المنكر وإن ارتكَبَه؛ قال مالك عن ربيعة[9]: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمَرَ أحدٌ بمعروف، ولا نَهى عن منكر، وقال مالك: وصدق، مَن ذا الذي ليس فيه شيء؟"[10]، ولكن ابن كثير رحمه الله ينبِّه ويقول: "ولكنه والحالة هذه مذمومٌ على ترك الطاعة وفعله المعصية؛ لعلمه بها ومخالفته على بصيرة؛ فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم"[11].
 
3- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعاقبة تركه:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سفينةُ نجاة المجتمع، وتركُه سببٌ في عقوبة الله وسخطه، وقد أشار ابن كثير إلى ذلك عند تفسير الآية: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾ [هود: 116]:"يقول تعالى: فهلا وُجِد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير يَنهَوْنَ عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، وقوله: ﴿ إِلَّا قَلِيلًا ﴾؛ أي: قد وُجِد منهم مِن هذا الضرب قليلٌ لم يكونوا كثيرًا، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَرِه، وفجأة نِقَمِه؛ ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمَّةَ الشريفة أن يكون فيها من يأمُر بالمعروف ويَنهى عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]،وقوله: ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116]؛ أي استمَرُّوا على ما هم فيه من المعاصي والمنكَرات، ولم يَلتفتوا إلى إنكار أولئك، حتى فاجأهم العذابُ"[12].
 
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين الذين يحبُّهم الله ويحبُّونه: فهم خلاف المنافقين الذين يأمرون بالمنكر ويَنهَوْنَ عن المعروف، كما قال سبحانه: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾ [التوبة: 67]، يقول ابن كثير: "يقول تعالى منكِرًا على المنافقين الذين هم خلاف صفات المؤمنين، ولما كان المؤمنون يأمُرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكَر، كان هؤلاء يأمرون بالمنكَر وينهَوْن عن المعروف"[13].
 
وقال عند تفسير الآية: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ﴾ [المائدة: 54]: "أي لا يرُدُّهم عما هم فيه من طــاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يرُدُّهم عن ذلك رادٌّ، ولا يصُدُّهم عنه صادٌّ، ولا يحيك فيهم لومُ لائم، ولا عذلُ عاذل"[14].



[1] انظر: القول المبين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ للدكتور/ عبدالعزيز الراجحي، طبعة مطابع المدينة الرياض الطبعة الأولى بدون تاريخ.


[2] المعجم الوسيط لإبراهيم أنيس وزملائه ص 595.


[3] القول المبين الأظهر ص 10.


[4] المرجع نفسه ص 8.


[5] انظر: القاموس المحيط، الفيروزابادي 2/ 208، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/ 281.


[6] القول المبين الأظهر ص 10.


[7] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 477.


[8] المرجع نفسه 1/ 109.


[9] هو ربيعة بن فروخ التيمي بالولاء، المدني، أبو عثمان، إمام حافظ فقيه مجتهد، كان بصيرًا بالرأي (وأهلُ الرأي عند أهل الحديث هم أصحاب القياس؛ لأنهم يقولون برأيهم فيما لم يجدوا فيه حديثًا أو أثرًا)؛ فلقِّب ربيعة الرأي، وكان من الأجواد، أنفَقَ على إخوانه أربعين ألف دينار، ولما قدم السفاح المدينة أمَرَ له السفاح بمالٍ فلم يقبله، وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وبه تفقَّهَ الإمام مالك، توفي بالهاشمية من أرض الأنبار سنة 136هـ.
الأعلام 3/ 17.


[10] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 109.


[11] المرجع نفسه 1/ 109.


[12] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 572 وانظر 2/ 97 عند تفسير الآية: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ ﴾ [المائدة: 63]، و2/ 107 عند تفسير الآية: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 79]، و1/ 108 والمرجع نفسه 1/ 374 عند تفسير الآية: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]، والمرجع نفسه 1/ 438 عند تفسير الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [آل عمران: 25]، والمرجع نفسه 1/ 485 عند تفسير الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [البقرة: 174]، والمرجع نفسه 1/ 372 عن تفسير الآية: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [البقرة: 246]، وكذلك المرجع نفسه 1/ 749 عند تفسير الآية: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، و2/ 314 عند تفسير الآية: ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ﴾ [الأعراف: 154].


[13] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 455.


[14] المرجع نفسه 2/ 91 وانظر 3/ 152 عند تفسير الآية: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾ [مريم: 31]، 1/ 152 عند تفسير الآية: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، 3/ 160 عند تفسير الآية: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ﴾ [مريم: 54]، 3/ 550 عند تفسير الآية: ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [لقمان: 17].
وغيرها من المواضع الكثيرة التي قرَّر فيها ابن كثير أهميةَ الأمر بالمعروف وفضله ومنزلته من خلال المنهج العاطفي.

شارك الخبر


Warning: Undefined array key "codAds" in /home/islamarchive/public_html/templates_c/24203bf677d3c29484b08d86c97a829db7a16886_0.file.footer.tpl.php on line 33

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchive/public_html/templates_c/24203bf677d3c29484b08d86c97a829db7a16886_0.file.footer.tpl.php on line 33
ساهم - قرآن ٣