من درر العلامة ابن القيم عن المحبة
مدة
قراءة المادة :
25 دقائق
.
من درر العلامة ابن القيم عن المحبةالحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين، أما بعد:
فمن مصنفات العلَّامة ابن القيم رحمه الله كتابه المسمى "روضة المحبِّين ونزهة المشتاقين"، تكلَّم فيه عن المحبَّة، ومع تخصيصه هذا الكتاب عن "المحبة" إلا أنه تكلم عنها في بعض كتبه الأخرى، والذي وقفتُ عليه منها الكتب التالية:
• كتاب إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان.• كتاب مدارج السالكين في منازل السائرين.• كتاب الكلام على مسألة السماع.• كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد.• كتاب الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب.• كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين.• كتاب الداء والدواء.• كتاب بدائع الفوائد.• كتاب الفوائد.• كتاب الروح.
هذا وقد يسَّرَ اللهُ الكريم لي، فجمعت بعضًا من أقواله عن المحبَّة في الكتب السابقة، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
كتاب "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان"
المحبة النافعة، والمحبة الضارة:
المحبة النافعة: هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم، والمحبة الضارة: هي التي تجلب لصاحبها ما يضرُّه من الشقاء والألم والعناء.
أنواع المحبة النافعة والضارة:
المحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يُعين على طاعة الله تعالى، واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.
موافقة محبة العبد وكراهته لمحبة الله تعالى وكراهته:
العبدُ أحوجُ شيء إلى معرفة ما يضُرُّه ليجتنبه، وما ينفعه ليحرص عليه ويفعله، فيُحب النافع، ويُبغض الضارَّ، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية والمحبة، ومتى خرج عن ذلك أحب ما يُسخط ربَّه، وكره ما يحبه، فنقصت عبوديته بحسب ذلك.
محبة الله جل جلاله أصل الدين:
محبة الله سبحانه والأُنْس به، والشوق إلى لقائه، والرضا به وعنه، أصل الدين.
هو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته، التي تتضمن كمال محبته، وكمال تعظيمه، والذل له، ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب، وأُسست الجنةُ والنار، وانقسم الناس إلى شقيٍّ وسعيدٍ.
حاجة القلوب لمحبة خالقها وفاطرها:
لا شيء أحبُّ إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليُّها ومولاها، وربُّها ومدبِّرُها ورازقها، ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن.
ليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزكية أحلى ولا ألذُّ ولا أطيبُ ولا أسرُّ ولا أنهمُ من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة.
والقلب لا يفلح، ولا يصلح، ولا يتنعَّم، ولا يبتهج، ولا يلتذُّ، ولا يطمئن، ولا يسكن إلا بعبادة ربِّه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها؛ بل لا تزيده إلا فاقةً وقلقًا حتى يظفر بما خُلِق له، وهُيِّئ له، من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه.
معرفة الله بأسمائه وصفاته تزرع حلاوة المحبة في القلوب:
من كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرفَ، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب؛ وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يُعرفُ إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبًّا لغيره، ولا أُنْسًا به، وكلما ازداد له حبًّا ازداد له عبودية وذلًّا وخضوعًا ورِقًّا له، وحرية عن رقِّ غيره.
قوة المحبة وضعفها بحسب قوة الإيمان وضعفه:
ما من مؤمن إلا وفي قلبه محبة الله تعالى، وطمأنينة بذكره، وتنعُّم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق على لقائه، وأُنْس بقربه، وإن لم يحسَّ به لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه على ما هو مشغول به، فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به، وقوة ذلك وضعفه، وزيادته ونقصانه هو بحسب قوة الإيمان وضعفه، وزيادته ونقصانه.
إذا عرف هذا؛ فالعبد في حال معصيته، واشتغاله عنه بشهوته ولذته تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت، أو نقصت أو ذهبت، فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة لا نسبة بينها بوجه ما؛ بل هي أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها.
ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصًا لله، منيبًا إليه، مطمئنًا بذكره، مشتاقًا إلى لقائه، منصرفًا عن هذه المحرمات، لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها.
كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد"
أنواع المحبة:
المحبة أنواع متعددة؛ فأفضلها وأجلها: المحبة في الله ولله، وهي تستلزم ما أحب الله، وتستلزم محبة الله ورسوله.
المحبة تستلزم موافقة المحبوب:
خاصية المحبة موافقة المحبوب، فمن ادَّعى محبة محبوب، ثم سخط ما يُحبه، وأحبَّ ما يُسخطه؛ فقد شهد على نفسه بكذبه، وتمقت إلى محبوبه.
كتاب "الكلام على مسألة السماع"
محبة الله مانعة من العذاب في الدنيا والآخرة:
قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، فإشارة هذه الآية أن محبة الرسول، وحقيقة ما جاء به إذا كان في القلب فإن الله لا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإذا كان وجود الرسول في القلب مانعًا من تعذيبه، فكيف بوجود الرب تعالى في القلب؟ فهاتان إشارتان.
فائدة: قال رحمه الله في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين": سئل بعض العلماء: أين تجد في القرآن: أن الحبيب لا يُعذِّب حبيبَه؟ فقال: في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ﴾ [المائدة: 18].
ولو لم يكن في محبة الله إلا أنها تنجي مُحبَّه من عذابه؛ لكان ينبغي للعبد ألا يتعوَّض عنها بشيءٍ أبدًا.
كتاب "الفوائد"
• لو تغذَّى القلبُ بالمحبة؛ لذهبت عنه بطنة الشهوات.
• لو صحَّت محبتك؛ لاستوحشت ممن لا يُذكِّرك بالحبيب.
• لو كان في قلبك محبة؛ لبان أثرها على جسدك.
• ليس العجب من قوله: ﴿ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54]؛ إنما العجب من قوله: ﴿ يُحِبُّهُمْ ﴾ [المائدة: 54].
• ليس العجب من فقير مسكين يُحبُّ محسنًا إليه؛ إنما العجبُ من محسنٍ يحبُّ فقيرًا.
كتاب "الروح"
الفرق بين الحبِّ في الله والحبِّ مع الله:
الفرق بين الحبِّ في الله والحبِّ مع الله، وهذا من أهم الفروق، وكل محتاج بل مضطر إلى الفرق بين هذا وهذا، فالحبُّ في الله هو من كمال الإيمان، والحبُّ مع الله هو عين الشرك.
والفرق بينهما: أن الحبَّ في الله تابعٌ لمحبة الله، فإذا تمكَّنَتْ محبَّتُه من قلب العبد أوجبت تلك المحبة أن يحب ما يُحبُّه الله، فإذا أحبَّ ما أحبَّه ربُّه ووليُّه كان ذلك الحب له وفيه، كما يحب رُسُلَه وأنبياءه وملائكته وأولياءه لكونه تعالى يحبهم، ويُبغض من يُبغضه لكونه تعالى يبغضه.
علامة الحب والبغض في الله:
علامة الحب والبغض في الله: أنه لا ينقلب بغضُه لبغيض الله حبًّا لإحسانه إليه، وخدمته له، وقضاء حوائجه، ولا ينقلب حبُّه لحبيب الله بُغضًا إذا وصل إليه من جهته ما يكرههُ ويُؤلمه، إما خطأ وإما عمدًا، مطيعًا لله فيه، أو متأوِّلًا ومجتهدًا، أو باغيًا نازعًا تائبًا.
من أحب وأبغض لله فقد استكمل الإيمان:
الدين كلُّه يدور على أربع قواعد: حب وبغض، ويترتب عليهما فعل وترك، فمن كان حبُّه وبغضُه، وفعله وتركُه لله فقد استكمل الإيمان.
الحب مع الله نوعان:
الحب مع الله نوعان؛ نوع يقدح في أصل التوحيد، وهو شرك، ونوع يقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله، ولا يخرج من الإسلام.
فالأول كمحبة المشركين لأوثانهم وأندادهم.
والنوع الثاني: محبة ما زيَّنه الله سبحانه للنفوس من النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل المسموَّمة، والأنعام والحرث، فيحبها محبة شهوة؛ فهذه المحبة ثلاثة أنواع:
فإن أحبها لله توصلًا بها إليه، واستعانةً على مرضاته وطاعته؛ أُثيب عليها، وكانت من قسم الحب، فيثاب عليها، ويلتذُّ بالتمتُّع بها، وهذا حال أكمل الخَلْق الذي حُبِّب إليه من الدنيا: النساءُ والطِّيْب، وكانت محبَّتُه لهما عونًا على محبة الله، وتبليغ رسالاته، والقيام بأمره.
وإن أحبها لموافقة طبعه وهواه وإرادته، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، بل نالها بحكم الميل الطبيعي؛ كانت من قسم المباحات، ولم يعاقب على ذلك؛ ولكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه.
وإن كانت هي مقصوده ومُراده، وسعيهُ في تحصيلها والظفر بها، وقدَّمها على ما يحبُّه الله ويرضاه منه؛ كان ظالمًا لنفسه، مُتِّبعًا لهواه.
فالأولى: محبة السابقين.
والثانية: محبة المقتصدين.
والثالثة: محبة الظالمين.
فتأمَّل هذا الموضع، وما فيه من الجمع والفرق، فإنه معترك النفس الأمَّارة والمطمئنة، والمهديُّ مَن هداه الله.
كتاب "مدارج السالكين في منازل السائرين"
منزلة المحبة:
من منازل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] منزلة المحبة؛ وهي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها شخَصَ العاملون، وإلى علمها شمَّرَ السابقون، وعليها تفانى المحبُّون، وبروح نسيمها تروح العابدون.
هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقُرَّة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده ففي بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كلُّه هموم وآلام.
هي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه.
شرف أهل المحبة في الدنيا والآخرة:
تحملُ أثقال السائرين إلى بلادٍ لم يكونوا إلا بشِقِّ الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتُبوِّئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها.
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله أن المرء مع مَنْ أحَبَّ، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة!
وجوب تقديم محبة الله على محبة النفس والأهل والمال:
العقول تحكم بوجوب تقديم محبة الله على محبة النفس والأهل والمال والولد، وكل ما سواه، وكل مَنْ لم يحكم عقله بهذا فلا تعبأ بعقله، فإن العقل والفطرة والشرعة تدعو كلها إلى محبَّتِه بل إلى توحيده في المحبة؛ وإنما جاءت الرسل بتقرير ما في الفِطَر والعقول.
متابعة الرسول علية الصلاة والسلام في أقواله وأعماله دليل على المحبة:
لما كثُرَ المدَّعُون للمحبة طُولِبوا بإقامة البيِّنة على صحة الدعوى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، فتأخَّرَ الخَلْق كلهم، وثبَتَ أتباعُ الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه.
المحبة ثباتها بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أعماله وأقواله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتِّباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها.
ليس الشأن أن تحب الله؛ بل الشأن في أن يحبك الله، ولا يُحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا، وأطعته أمرًا، وأجبته دعوةً، وآثرته طوعًا.
المجاهدون اشتروا بجهادهم محبة الله عز وجل:
تأخَّر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلُمُّوا إلى بيعة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ [التوبة: 111].
المحب يجد في المحبة ما ينسيه المصائب:
المحب يجد في لذة المحبة ما يُنسيه المصائب، ولا يجد من مسها ما يجد غيره؛ حتى كأنه قد اكتسى طبيعة ثانية ليست بطبيعة الخلق؛ بل يقوى سلطانُ المحبة، حتى يلتذَّ بكثير من المصائب أعظم من التذاذ الخلي بحظوظه وشهواته.
المعطِّلة أنكروا المحبة فضربت قلوبهم بالقسوة
عند الجهمية والمعطلة: لا يُحَبُّ لذاته ولا يُحِبُّ، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح، وبهجة النفوس، وقُرَّة العيون، وأعلى نعيم الدنيا والآخرة؛ ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة، وضرب دونهم ودون الله حجاب، فلا يعرفونه ولا يحبُّونه.
كتاب "الداء والدواء"
كل محبة لغير الله فهي عذاب على صاحبها:
كل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها؛ بل من أعرَض عن محبَّةِ الله وذكره والشوق إلى لقائه ابتلاه الله بمحبة غيره، فيُعذِّبه بها في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، فإمَّا أن يُعذِّبه بمحبَّة ِالأوثان، أو الصلبان، أو النيران، أو المردان، أو النسوان، أو الأثمان.
أنواع المحبة:
ههنا أربعة أنواع من المحبة، يجب التفريق بينها؛ وإنما ضلَّ مَن ضَلَّ بعدم التميُّز بينها:
أحدها: محبة الله، ولا تكفي وحدها في النجاة من عذابه، والفوز بثوابه، فإن المشركين وعُبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحبه الله، وهذه هي التي تُدخله في الإسلام، وتُخرجه من الكفر، وأحبُّ الناس إلى الله أقومُهم بهذه المحبة، وأشدهم فيها.
الثالث: الحب لله وفيه، وهي من لوازم محبة ما يحب، ولا تستقيم محبة ما يحب إلا بالحب فيه وله.
الرابع: المحبة مع الله، وهي المحبة الشركية، وكل مَن أحب شيئًا مع الله، لا لله ولا من أجله ولا فيه، فقد اتخذه نِدًّا من دون الله، وهذه محبة المشركين.
وبقي قسم خامس ليس مما نحن فيه؛ وهو المحبة الطبيعية؛ وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه؛ كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم والزوجة والولد، فتلك لا تُذمُّ إلا إذا ألهت عن ذكر الله، وشغلت عن محبته، كما قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [المنافقون: 9].
لا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، وتنعُّمه بحبه:
لا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره، وتنعُّمه بحبه، وإيثاره لمرضاته؛ بل لا حياة له ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلا بذلك، فعدمُه آلمُ شيء له، وأشدُّه عذابًا عليه؛ وإنما تغيب الرُّوحُ عن شهود هذا الألم والعذاب لاشتغالها بغيره واستغراقها في ذلك الغير، فتغيب به عن شهود ما هي فيه من ألم الفوت بفراق أحب شيء إليها، وأنفعه لها.
أنفع المحبة وأجلُّها وأعلاها محبة الله جل جلاله:
اعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلَّها محبة من جُبِلَتْ القلوب على محبته وفُطِرَتْ الخليقة على تَأْليهه، وبها قامت الأرض والسماوات، وعليها فطرت المخلوقات، وهي سِرُّ شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم، والذل والخضوع، وتعبده، والعبادة لا تصح إلا له وحده، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل، والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله، والله تعالى يُحب لذاته من جميع الوجوه، وما سواه فإنما يُحب تبعًا لمحبته.
محبة كلام الله من علامة محبته:
محبة كلام الله من علامة محبة الله، وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر إلى محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطْرِب بسماعهم، فإنه من المعلوم أنَّ من أحب محبوبًا كان كلامه وحديثه أحبَّ شيء إليه، قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "لو طهُرَتْ قلوبُنا لما شبعت من كلام الله، وكيف يشبع المحِبُّ من كلام محبوبه، وهو غاية مطلوبه.
محبة سماع الألحان دون سماع القرآن دليل على فراغ القلب من محبة الله:
إذا رأيت الرجل: ذوقه ووجده وطربه ونشوته في سماع الأبيات دون سماع الآيات، وفي سماع الألحان دون سماع القرآن...فهذا من أقوى الأدلة على فراغ قلبه من محبة الله وكلامه، وتعلُّقه بسماع الشيطان، والمغرور يعتقد أنه على شيء.
تفاوت الناس في محبة الله:
كل مسلم في قلبه محبة الله ورسوله لا يدخل الإسلام إلا بها، والناس متفاوتون في درجات هذه المحبة تفاوتًا لا يحصيه إلا الله، فبين محبة الخليلين ومحبة غيرهما ما بينهما.
من منافع وثمار المحبة:
فهذه المحبة التي تُلطِّف الروح، وتُخفِّف أثقال التكاليف، وتسخي البخيل، وتُشجِّع الجبان، وتُصفِّي الذهن، وتُروِّض النفس، وتُطيِّب الحياة على الحقيقة، لا محبة الصور المحرمة.
وهذه المحبة التي تنور الوجه، وتشرح الصدر، وتُحيي القلب.
محبة الله دليلها الكتب المنزلة والعقول والفطر والنعم:
وقد دلَّ على وجوب محبته سبحانه جميعُ كتبه المنزلة، ودعوةُ جميع رسله، وفطرتُه التي فطر عباده عليها، وما ركب فيهم من العقول، وما أسبغ عليهم من النعم، فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها، فكيف بمن كل الإحسان منه، وما بخلقه جميعهم من نعمه فمنه وحده لا شريك له، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53] وما تعرف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العُلا، وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته.
دواعي المحبة الجمال والإجمال، والله له الكمال المطلق من ذلك:
المحبة لها داعيان: الجمال والإجمال، والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك، فإنه جميل يحب الجمال، بل الجمال كله له، والإجمال كله منه، فلا يستحق أن يُحبَّ لذاته من كل وجه سِوَاه.
وكلُّ ما منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبته، مما يحب العبد أو يكره، فعطاؤه ومنعه، ومعافاته وابتلاؤه، وقبضه وبسطه، وعدله وفضله، وإماتته وإحياؤه، ولطفه وبره، ورحمته وإحسانه، وستره وعفوه، وحلمه وصبره على عبده، وإجابته لدعائه، وكشف كربه، وإغاثة لهفته، وتفريج كربته - من غير حاجة منه إليه، بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه – كل ذلك داعٍ للقلوب إلى تأليهه ومحبَّتِه.
فلو أن مخلوقًا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته، فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس، مع إساءته؟ فخيره إليه نازل، وشره إليه صاعد، يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه، والعبد يتبغض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه، فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته، ولا معصية العبد ولؤمُه يقطع إحسان ربه عنه.
كُلُّ مَن تُعامِلُه من الخَلْق إن لم يربح عليك لم يُعامِلْك، ولا بد له من نوع من أنواع الربح، والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه، فالدرهم بعشر أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة، وهي أسرع شيئًا محوًا، وأيضًا فمطالبك بل مطالب الخلق كلهم جميعًا لديه، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يُؤمِّله.
وأيضًا فكلُّ مَن تُحبُّه من الخَلْق ويحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك، والله سبحانه وتعالى يريدك لك...فكيف لا يستحي العبد أن يكون ربُّه له بهذه المنزلة، وهو معرض عنه، مشغول بحب غيره، قد استغرق قلبَه محبةُ سِواه؟
يشكر القليل من العمل ويُنمِّيه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه، ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، لا يشغله سمع عن سمع، ولا يغلِّطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحِّين؛ بل يحبُّ الملحين في الدعاء، ويُحبُّ أن يُسألَ، ويغضب إذا لم يُسألْ، ويستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه، ويستره حيث لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه، دعاه بنعمه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه فأبى.
وكيف لا تحب القلوب مَن لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يجيب الدعوات إلا هو، ولا يُقيل العثرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكربات ويُغيث اللهفات ويُنيل الطلبات سِواه؟!
فهو أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقُّ مَنْ شُكِر، وأحقُّ مَن عُبِد، وأحَقُّ من حُمِد، وأنصر مَن ابتُغي، وأرأف من ملك، وأجودُ من سُئل، وأوسعُ مَن أعطى، وأرحمُ مَن استرحم، وأكرمُ من قُصِد، وأعزُّ من التُجئ إليه، وأكفى مَن تُوكَّل عليه، أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأشد فرحًا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا يئس من الحياة ثم وجدها.
وهو الملك لا شريك له، والفرد فلا نِدَّ له، كل شيء هالك إلا وجهه، لن يُطاع إلا بإذنه، ولن يُعصى إلا بعلمه، يُطاع فيُشكر، وبتوفيقه ونعمته أُطِيع، ويُعصَى فيغفر ويعفو، وحقُّه أُضِيع.
فهو أقرب شهيد وأجل حفيظ، وأوفى وفي بالعهد، وأعدل قائم بالقسط، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسخ الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكل أحد إليه ملهوف.
عنت الوجوه لنور وجهه، وعجزت القلوب عن إدراك كنهه، ودلَّت الفطر والأدلة كلها على امتناع مثله وشبهه، أشرقت لنور وجهه الظلمات، واستنارت له الأرض والسماوات، وصلحت عليه جميع المخلوقات، لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يحفظ القسط، ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
أنواع المحبة المذمومة والمحبة المحمودة:
أعظم أنواع المحبة المذمومة: المحبة مع الله، التي يُسوِّي المحبُّ فيها بين محبته لله ومحبته للنَّدِّ الذي اتخذه من دونه.
وأعظم أنواعها المحمودة: محبة الله وحده، ومحبة ما أحبَّ، وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها.
والمحبة المذمومة الشركية هي أصل الشقاوة ورأسها، التي لا يبقى في العذاب إلا أهلها.
فأهل المحبة الذين أحبُّوا الله، وعبدوه وحده لا شريك له.
لا شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده:
والشيء قد يُحب من وجه دون وجه، وقد يُحب لغيره، وليس شيء يُحبُّ لذاته من كل وجه إلا الله وحده، ولا تصلح الألوهية إلا له، و﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22] والتألُّه هو المحبة، والطاعة، والخضوع.
توابع كل نوع من أنواع المحبة له حكم متبوعه:
توابع كل نوع من أنواع المحبة له حكم متبوعه، فالمحبة النافعة المحمودة التي هي عنوان سعادة العبد، توابعها كلها نافعة له، حكمها حكم متبوعها، فإن بكى نفعه، وإن حزن نفعه، وإن فرح نفعه، وإن انقبض نفعه، وإن انبسط نفعه، فهو يتقلَّب في منازل المحبة وأحكامها في مزيد وربح وقوة.
والمحبة الضارَّة المذمومة، توابعها وآثارها كلها ضارة لصاحبها، مُبعدة له من ربِّه، كيفما تقلب في آثارها ونزل في منازلها فهو في خسارة وبعد.
لوازم وآثار المحبة:
المحبة لها آثار وتوابع ولوازم وأحكام، سواء كانت محمودة أو مذمومة، نافعة أو ضارة، من: الذوق، والوجد، والحلاوة، والشوق، والأُنْس، والاتصال بالمحبوب بالقرب منه، والانفصال عنه والبُعْد منه، والصد والهجران، والفرح والسرور، والبكاء والحزن، وغير ذلك من أحكامها ولوازمها.
المحبة المحمودة النافعة:
والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة التي تجلب لصاحبها ما ينفعه في دنياه وآخرته، وهذه المحبة هي عنوان سعادته، والضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره في دُنْياه وآخرته، وهي عنوان شقاوته.
كتاب "بدائع الفوائد"
محبة الله جل جلاله لعبده:
وأما محبة الرب عبده فإنها تستلزم إعزازه لعبده، وإكرامه إياه، والتنويه بذكره، وإلقاء التعظيم والمهابة له في قلوب أوليائه.
كتاب "الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب"
قال في فوائد الذكر التاسعة أنه يورث المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة، وقد جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر، فمن أراد محبة الله عز وجل فليلهج بذكره...
فالذكر باب المحبة، وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم.
كتاب "طريق الهجرتين وباب السعادتين"
أنواع المحبة المشركة:
المحبة المشتركة ثلاثة أنوع:
أحدها: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم.
والنوع الثاني: محبة رحمةٍ وإشفاقٍ، كمحبة الوالد لولده الطفل، ونحوها، وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم.
والنوع الثالث: محبة أنسٍ وإلفٍ، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضًا.
فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركًا في محبة الله.
محبة العبودية لا تكون إلا لله وحده:
وأما المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحبَّ العبد بها غيره كان شركًا لا يغفره الله، فهي محبة العبودية المستلزمة للذُّلِّ والخضوع، والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره