خطب ومحاضرات
تفسير من سورة الإخلاص إلى سورة الناس
الحلقة مفرغة
سورة الإخلاص يقال لها أيضاً: سورة (قل هو الله أحد)، وهذه السورة المباركة يحفظها المسلمون جميعاً صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، وقد جبلوا على حبها وقراءتها.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة مع سورة: (قل يا أيها الكافرون) في الركعتين قبل صلاة الصبح، وفي الركعتين بعد صلاة المغرب، وفي ركعتي الطواف.
وهذه السورة المباركة قد اشتملت على أربع آيات فيها خمس عشرة كلمة، وستة وستين حرفاً.
روى الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: (أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك؛ فأنزل الله عز وجل هذه السورة).
وقال عكرمة رحمه الله: لما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وكل منهم قال: نحن نعبد إلهنا، فقالت اليهود: نحن نعبد عزيراً ، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح، وقال المشركون: نحن نعبد الأوثان، وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر؛ أنزل الله هذه السورة.
وقال الضحاك: بعثت قريش عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول له عنهم: يا محمد! لقد شققت عصانا، وسفهت أحلامنا، وعبت دين آبائك، فانظر ماذا تريد؟ إن كنت فقيراً أغنيناك، وإن كنت مجنوناً داويناك، وإن كنت قد هويت امرأة زوجناك، فقال عليه الصلاة السلام: (لست بفقير، ولا مجنون، ولا هويت امرأة، وإنما أنا رسول الله إليكم أدعوكم لأن تعبدوه، وأن تخلعوا عبادة الأوثان) فرجع عامر بن الطفيل لما قال له النبي عليه الصلاة والسلام هذا فأرسله المشركون ثانية، وقالوا له: قل له: يا محمد! صف لنا إلهك، أمن ذهب هو؟ أم من فضة؟ أم من حديد؟ أم من خشب؟ أم من نحاس؟ فأنزل الله عز وجل هذه السورة.
فالمشركون لخفة أحلامهم، وقلة عقولهم، ما خطر ببالهم إلا الآلهة الباطلة التي يصنعونها بأيديهم من حديد أو من نحاس أو من خشب أو من ذهب أو من فضة، هذا هو الإله في تصوراتهم الباطلة.
فأنزل الله هذه السورة المباركة؛ ليثبت أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له كفؤ، ولا شبيه ولا ند، ولا مثيل، لم يلد ولم يولد جل جلاله.
هذه السورة المباركة ورد في فضلها أحاديث كثيرة، وهي أحاديث صحاح ثابتة، منها:
الحديث الأول: روى الشيخان البخاري و مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً أميراً على سرية، فكان إذا صلى بهم يقرأ بـ(قل هو الله أحد)، فلما ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سلوه لمَ يفعل ذلك؟ فلما سألوه قال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحبها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فإن الله يحبك كما أحببتها).
الحديث الثاني: روى الإمام البخاري تعليقاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً كان يؤم الأنصار في مسجد قباء، وكان لا يصلي بهم صلاة إلا قرأ سورة وقرأ قبلها (قل هو الله أحد) -يعني: يقرأ (قل هو الله أحد)، ثم يقرأ بعدها بالسورة التي يريد- فقال له أصحابه: يا هذا! إنا نراك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترضى حتى تضم إليها أخرى، فإما أن تكتفي بها، وإما أن تقرأ سواها، فقال: والله! ما أنا بفاعل، فإن شئتم أممتكم، وإن شئتم تركتكم، فكرهوا أن يتركهم؛ لأنهم كانوا يرونه أفضلهم وأعلمهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يمنعك أن تطيع أصحابك فيما أرادوا؟! فقال: يا رسول الله! إني أحبها، فقال له صلى الله عليه وسلم: حبك إياها أدخلك الجنة).
ففي الحديث الأول: أن حبها سبب لمحبة الله.
وفي الحديث الثاني: أن حبها سبب لدخول الجنة.
الحديث الثالث: روى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ (قل هو الله أحد)، ولم يزل يرددها حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يتقالها -يعني: أن هذا الرجل استغرب أن صاحبه ما قرأ من القرآن سوى (قل هو الله أحد)، من أول الليل إلى آخره يرددها- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن).
الحديث الرابع: روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احشدوا -يعني: اجتمعوا- فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، قال: فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: (قل هو الله أحد) ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سأقرأ عليكم ثلث القرآن؛ إني لأرى هذا خبراً جاءه من السماء- يعني: ظنوا أنه سيخرج ويواصل- ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن).
أيها الأخوة الكرام! (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، وللعلماء في ذلك تأويلات ثلاثة:
التأويل الأول: أنها تعدل ثلث القرآن في حق من كان لا يحسن غيرها، كما هو حال بعض العجائز، وبعض الشيوخ الكبار.
التأويل الثاني: أنها تعدل ثلث القرآن، لو أن إنساناً قرأ ثلث القرآن ليس فيه (قل هو الله أحد).
التأويل الثالث: أنها تعدل ثلث القرآن باعتبار أجناس المعاني، فإن القرآن فيه ثلاثة معانٍ: التوحيد، والأحكام، والقصص والأخبار.
ولما كانت (قل هو الله أحد) مشتملة على التوحيد: توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته، ونفي الشبيه والمثيل عنه جل جلاله، كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن.
قال الإمام ابن رشد رحمه الله في كتابه (البيان والتحصيل): وأجمع العلماء على أن من قرأ (قل هو الله أحد) لا يساوي أجره أجر من أحيا ليله بالقرآن كله.
يعني: فلا يظن إنسان أنه لو قرأ (قل هو الله أحد) ثلاثاً أن ثوابه كثواب من قرأ القرآن كله.
الحديث الخامس -وفيه بشارة عظيمة-: روى الإمام أحمد من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ (قل هو الله أحد) عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! إذاً نكثر قصورنا، قال: الله أكثر وأطيب).
وجاءت رواية أخرى رواها الإمام مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ (قل هو الله أحد) عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بنى الله له قصرين في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى الله له ثلاثة قصور في الجنة، فقال له عمر بن الخطاب : إذاً تكثر قصورنا يا رسول الله! قال: الله أوسع وأطيب)، قال ابن كثير : وهذا مرسل جيد.
فالموفق من عباد الله يكثر من قراءة هذه السورة ولا يبالي؛ لأنها صفة الرحمن.
الحديث السادس: في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأوي إلى فراشه ليلاً حتى ينفث في يديه بـ(قل هو الله أحد) والمعوذتين، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده).
الحديث السابع: روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال: (لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت يا رسول الله! بمَ نجاة المؤمن؟ قال: يا عقبة ! أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، قال: ثم لقيني مرة أخرى، فابتدأني فأخذ بيدي، فقال: يا عقبة بن عامر ! ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم؟ قال: قلت: بلى، جعلني الله فداك، قال: فأقرأني (قل هو الله أحد) و(قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس) ثم قال: يا عقبة ! لا تنساهن ولا تبيت ليلة حتى تقرأهن، قال: فما نسيتهن وما بت ليلة قط حتى أقرأهن، قال عقبة : ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بفواضل الأعمال، فقال: يا عقبة ! صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك).
هذه جملة أحاديث صحاح في فضل هذه السورة المباركة، والموفق من عباد الله من أكثر من قراءة هذه السورة، فمن أراد أن تكثر قصوره في الجنة، ومن أراد أن يحبه الرحمن، ومن أراد أن يدخل الجنة، ومن أراد أن يعصمه الله من الشيطان، ومن أراد أن يزداد إيماناً وهدىً؛ فليكثر من قراءة هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن.
يقول الله عز وجل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1] (قل) مر نظيرها في قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1] وذكرنا أنها تعني: الاهتمام بما بعد فعل القول، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار: عامر بن الطفيل ومن كان معه ممن سألوك أن تنسب ربك، وأن تصف ربك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أي: الله عز وجل واحد لا شريك له، قال أهل العلم: وكلمة (أحد) أبلغ من (واحد) وذلك من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الواحد يدخل في الأحد، والأحد لا يدخل في الواحد.
الوجه الثاني: أن كلمة (أحد) تعني: النفي المطلق، فمثلاً: لو قلت: إن فلاناً لا يغلبه واحد، فمعنى ذلك: أنه يمكن أن يغلبه اثنان، لكن لو قلت: إن فلاناً لا يغلبه أحد، فقد نفيت الغلبة عنه تماماً.
الوجه الثالث: أن كلمة (واحد) تستعمل في الإثبات، وكلمة (أحد) تستعمل في النفي، فتقول: رأيت رجلاً واحداً، وتقول: ما رأيت أحداً.
وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1] قال بعض أهل التفسير: تأملت الشرك فإذا هو من ثمانية وجوه: من ناحية الكثرة والعدد، ومن ناحية النقص والتقلب، ومن ناحية كونه علة أو معلولاً، ومن ناحية الشريك والضد.
قوله: اللَّهُ الصَّمَدُ[الإخلاص:2] من أسمائه جل جلاله الحسنى الصمد، وهو فعل بمعنى مفعول، أي: المصمود الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها وهو لا يحتاج إلى أحد.
فمن أراد الغنى، ومن أراد العلم، ومن أراد الفهم، ومن أراد الحكم، ومن أراد النجاة، ومن أراد الأموال والأولاد فعليه أن يلجأ إلى الله عز وجل، ومن أصابه الضر فليلجأ إلى الله، كما قال سبحانه: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ[النحل:53] أي: تلجأون إليه جل جلاله.
وقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ قال ابن عباس في معنى اسم الله الصمد: (هو السيد الذي كمل سؤدده).
والشريف الذي كمل شرفه، والعظيم الذي كملت عظمته، والحليم الذي كمل حلمه، والحكيم الذي كملت حكمته، والعليم الذي كمل علمه، وهو سبحانه كما قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11].
وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أحدية الله عز وجل دلت عليها كثير من نصوص القرآن، كقول الله عز وجل: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[البقرة:163].
وقول الله عز وجل في سورة التوبة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[التوبة:31].
وقوله في سورة إبراهيم: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[إبراهيم:52].
وقوله عز وجل في سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[الحشر:22] وتكرر ذلك إلى آخر السورة.
وقوله عز وجل في سورة ص: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ[ص:65-66].
وقوله عز وجل: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا[الأنبياء:22] وهو ما يسميه العلماء: برهان التمانع، أو دليل التمانع.
وقوله عز وجل في سورة الإسراء: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا[الإسراء:42-44].
الإله الواحد جل جلاله يصف نفسه بأنه الصمد، ثم ينفي العلة والمعلول فيقول: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[الإخلاص:3].
والسؤال: هل الإنسان يولد أولاً أم يلد؟ وهذا لا يحتاج إلى تفكير، فالإنسان يولد أولاً.
فلماذا قدم ربنا في الآية نفي كونه والداً على نفي كونه ولداً؟
قال العلماء رحمهم الله: قدمه لاعتبارين:
الاعتبار الأول: أن الآية نزلت في الرد على المشركين من اليهود والنصارى والعرب، فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والعرب قالوا: الملائكة بنات الله، فالله عز وجل قال: لَمْ يَلِدْ )) من أجل أن يرد على هؤلاء.
الاعتبار الثاني: أنه لم يوجد في الكون من نسب إلى الله عز وجل أنه مولود، لكن وجد من نسب إلى الله أنه والد، ولذلك قال سبحانه: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[الإخلاص:3]، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن مراراً، كقول ربنا سبحانه: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ[البقرة:116].
وقوله سبحانه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ[الأنبياء:26].
وقوله سبحانه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا[مريم:88-94].
وقال سبحانه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ[الصافات:158].
وأكثر من فتن به البشر وألهوه هو المسيح ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، هذا العبد الصالح الطيب المبارك الذي دعا إلى عبادة الله وحده فتن الناس به؛ لكونه من أم بلا أب، والله عز وجل نفى ألوهية عيسى عليه السلام بقوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ[المائدة:75] فالمسيح بشر، يأكل الطعام، وتعتريه نوازع البشرية، فيحتاج إلى الخلاء للبول والغائط.
والمسيح عليه السلام بشر، أوذي كما يؤذى البشر، والله عز وجل لا يستطيع أحد أن يضره.
والمسيح عليه السلام شأنه كشأن آدم عليهما السلام، كما قال عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ[آل عمران:59-60].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه الشيخان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الرحمن ولداً، وأما تكذيبه إياي فقوله: ليس بقادر على أن يعيدني).
قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذى من الله؛ ينسبون إليه الصاحبة والولد وهو يرزقهم ويعافيهم) ما أحلمه سبحانه وبحمده على عباده! كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي، فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم فيهم حيراناً).
الله عز وجل يقول: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[الإخلاص:4] أي: مكافئاً ومماثلاً ونداً وشبيهاً ونظيراً، وهذا كما قال سبحانه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[مريم:65] فليس لله عز وجل مثيل، وليس له شبيه، وليس له نظير.
وهذه السورة المباركة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب على تلاوتها في ركعتي الفجر، وفي الركعتين بعد صلاة المغرب، وفي ركعتي الطواف، وفي صلاة السفر، وفي صلاة الوتر، وفي غير ذلك من المواضع، وهذا يدل على أن لها شأناً وقدراً، نسأل الله أن يرزقنا الإيمان والعمل بها.
نشرع الآن في تفسير سورة الفلق:
سورة الفلق نزلت هي وسورة الناس معاً، واصطلح أهل التفسير وعلماء القرآن على تسميتهما بالمعوذتين، وقد وردت أحاديث في فضلهما معاً، ومن ذلك:
ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط ؟ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس).
وروى الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي: يا عقبة ! ألا تركب؟ قال: فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه، ثم قال: يا عقيب ! ألا تركب؟ قال: فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنية، ثم ركب، ثم قال: يا عقيب ! ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: فأقرأني (قل أعوذ برب الفلق)، و(قل أعوذ برب الناس)، ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بهما، ثم مر بي، قال: كيف رأيت يا عقيب ؟! اقرأ بهما كلما نمت، وكلما قمت).
وروى الإمام البخاري عن أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ به الوجع والمرض أنه لا يستطيع أن يحرك يديه، فكانت أمنا عائشة رضي الله عنها هي التي تقرأ، وهي التي تنفث، ولكن من أدبها أنها لم تكن تمسح بيديها، وإنما كانت تأخذ يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمسح بهما؛ لأنها تعلم أنه لا أبرك ولا أفضل ولا أكرم منهما.
قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[الفلق:1]
مقول القول محذوف، قدره بعض أهل العلم: قيل لي: قل.
وقال ابن القيم رحمه الله: التقدير: قيل لي هذا اللفظ فقلت كما قيل لي، قال: والسر في ذلك: أن يعلم الناس يقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، ينقل اللفظ كما هو، ولا يتصرف فيه بزيادة ولا نقصان، قال الله له: (قل) فنقلها (قل).
والخطاب في قوله تعالى: (قل) له ثم لسائر الأمة.
وقوله: قُلْ أَعُوذُ )) أي: ألتجئ وأستجير.
وقال بعض أهل العلم: من معاني الاستعاذة: اللصوق، ولذلك تقول العرب: أطيب اللحم أعوذه، أي: ما كان ملتصقاً بالعظم.
وقوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قال أبو حيان : الفلق فعل بمعنى مفعول، فلق: بمعنى مفلوق، ومن معاني الفلق: الصبح؛ لأنه ينفلق من الليل.
ومن معاني الفلق كذلك: الجبال والصخور؛ لأنها تنفلق عن الماء، كما قال الله عز وجل: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ[البقرة:74].
ومن معاني الفلق: الرحم؛ لأنه ينفلق عن الحيوان.
قال بعض أهل التفسير: المقصود بقوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[الفلق:1] جميع الخلق، والمعنى: أستعيذ برب الفلق جل جلاله من أربعة أشياء:
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ[الفلق:2] وهذا فيه عموم، أي: من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل، من أنسي، أو جني، أو طير، أو دابة، أو سبع.
ثم بعد هذا العموم خصوص: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ[الفلق:3-5].
كلمة (من شر) تكررت أربعة مرات، قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: لأن المقام مقام ابتهال فناسب فيه التكرار، قصداً لإجابة الدعاء.
وهذا كما قال الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[إبراهيم:37]، إلى أن قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ[إبراهيم:41].
فكلمة: (ربنا) جعل يكررها؛ لأن المقام مقام ابتهال، يرجو به إجابة الدعاء.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد | 2549 استماع |
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر | 2539 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] | 2511 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] | 2379 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] | 2370 استماع |
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] | 2298 استماع |
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] | 2265 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] | 2173 استماع |
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] | 2089 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] | 2053 استماع |