أرشيف المقالات

العقل في القرآن والعلم الحديث - عزيز محمد أبو خلف

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
 بَحَث فلاسفة اليونان في العقل، واستمر البحث في الحضارة الإسلامية، على نفس الطريقة عند الفلاسفة وعند علماء الكلام، لكن علماء الكلام خالفوا الفلاسفة في طبيعة العقل.
وكان بحث هؤلاء جميعاً تأملياً، فلا يقوم على منهج العلم التجريبي.
وكانوا إذا ما توصلوا إلى فكرة اعتبروها هي الحقيقة، فهي اليقين بعينه، وهذا ثبّط من تطور البحث العلمي في المجتمع.
فإذا كان ما توصلوا إليه يقيناً ثابتاً، فما الحاجة إلى البحث العلمي التجريبي فيه مثلاً؟ الحضارة الحديثة فكّكت العلوم السابقة، واتجهت إلى التخصص، وتخلَّت عن الأفكار الغيبية، وبحثَت في المحسوس.ماذا قالوا عن العقل؟يلخص إبن تيمية في الفتاوى رأي الفلسفة وعلم الكلام في العقل، فيقول: (اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنما هو صفة، وهو الذي يُسمى عَرَضاً قائماً بالعاقل.
وعلى هذا دل القرآن.
فالعقل مصدر عقل يعقل عقلاً، ويسمى به العلم الذي يعمل به، والعمل بالعلم.
وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم ويميز ويقصد المنافع دون المضار)
.
وقال في موضع آخر: (العقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأما من البدن فهو متعلق بقلبه.
والقلب يُراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي بالجانب الايسر من البدن.
وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقاً.
فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضاً.
ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ، كما يقوله كثير من الأطباء، ونُقل ذلك عن الإمام أحمد.
ويقول طائفة من أصحابه: أصل العقل في القلب ، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ)
.
وقال التفتازاني من علم الكلام: (العقل: ما يُعقل به حقائق الأشياء، قيل: محله الرأس، وقيل: محله القلب).
بعضهم قال: محله في القلب، ونوره في الدماغ.
إذن العقل في الفكر الإسلامي عرَض أو صفة للنفس، لكنه يعمل في الجسم من خلال القلب والدماغ معاً.
والعقل يعلم ويميز ويوجه السلوك لأنه ينبه على النافع والضار.
هذا ما توصلوا إليه في الماضي، وينبغي علينا أن نفهم أسباب عدم تطور العلوم في الماضي كما حصل في الوقت الحاضر.
إن إعادة صياغة القديم هو من صميم العمل الإبداعي وهو من صميم عمل الدماغ، لأن هذا يعني تقديمه بصورة قد تؤدي إلى كشف جوانب جديدة فيه، أو على الأقل فهم أسباب عدم التقدم.
العقل في العلم الحديثتخلى العلم الحديث عن ثنائية العقل والجسد، كما سادت في الفكر القديم وحتى في أوائل الفلسفة الحديثة.
اتجه العلم الحديث إلى دراسة النشاطات العقلية كما تحصل في الدماغ.
فعلم الأعصاب يبحث في الجهاز العصبي ولا سيما في بنية الدماغ ووظيفته، ويعتبر أن الدماغ يتحكم في مختلف وظائف الجسم ونشاطاته، وتتأثر هذه النشاطات بتعطل الدماغ أو جزء منه.
العقل بحسب علم الأعصاب هو الوظيفة التي يؤديها الدماغ فيما يتعلق بالنشاطات الذهنية.
إن فهم بنية الدماغ ووظيفته يمكننا من فهم عملية التفكير والتعلم، ومن ثم العمل على تحسين عملية التعليم وتطوير برامجه المختلفة.
يتكون الدماغ من مناطق يختص كل منها بنشاطات معينة، فالقشرة تختص بالنشاطات العقلية العليا مثلاً، وبعضها بالغرائز والنشاطات التلقائية.
ترتبط النشاطات العقلية بالنماذج العصبية التي تتشكل من خلال الخلايا العصبية المتاحة في الدماغ، فلا بد من نماذج متاحة للعمل عليها.
كما تتأثر النشاطات العقلية بالجهد الكهروكيميائي وبالنواقل العصبية التي تثار بفعل النشاط العصبي، ويمكن أن يؤدي نقصها إلى أمراض معينة.
لقد كشف علم الأعصاب عن حقائق هامة تتعلق بالإدراك والتعلم، ويمكن على ضوئها تحسين عملية التعلم لدى الأفراد وتطوير قدراتهم ومهاراتهم في تنمية المعرفة وتطوير التفكير.
النشاطات العقلية، بحسب علم الأعصاب، هي عمليات كهربائية وكيميائية تحصل بين الخلايا العصبية من خلال الإشارات العصبية والنواقل العصبية وانتقال الأيونات.
من أهم إنجازات العلم في مجال العقل هو الذكاء الاصطناعي، وهو جهد مشترك ما بين علماء الرياضيات والعلوم والمهندسين وعلماء الحاسوب لتطوير أجهزة ذكية تقوم بنشاطات تشبه الذكاء البشري.
الذكاء الطبيعي يتضمن قدرة الانسان على اكتساب المعرفة، والاستدلال بهذه المعرفة، واستخدامها في حل المسائل بكفاءة.
يحاكي الذكاء الصناعي هذه الخطوات وينتج لديه معرفة نتيجة هذه المحاكاة ، يبرمجها في الآلات الذكية لحل المشكلات.
الانسان يفكر من خلال المعلومات والحدس والحكم والمنطق، والآلة تفكر من خلال المعلومات المبرمجة.
كما ظهر ما يعرف بهندسة المعرفة أو الأنظمة الخبيرة.
النظام الخبير برنامج يحاكي طريقة تفكير خبير في مجال معين لحل مشكلة واتخاذ قرار بشأنها.
هذا النظام تفاعلي: يطرح الأسئلة، ويتفاعل معها، ويعرض المقترحات، ويقدم النصائح.
باختصار هو: محاكاة خبير، حيث يُستخدم في تشخيص الأمراض وفي العلاج والكشف الجيولوجي وحل المشكلات في الصناعة وغير ذلك.نظرة القرآن إلى العقلالقرآن يعتبر العقل نشاطاً ينقل الإنسان بطريقة إبداعية إلى الطريق الصحيح، ولا يهتم بطبيعته أو تعريفه، بل يهتم بتشغيله.
لهذا لم يرد اسم العقل في القرآن، وإنما جاء بصيغة الفعل: يعقلون، تعقلون، عقلوه، نعقل، يعقلها.
ورود العقل بصيغة الفعل في القرآن، يدل على أن القرآن يحث الناس على استخدام عقولهم، بشكل متواصل.
وهذا يتناسب مع مهمة استخلاف الإنسان في الأرض، وعمارته لها، ولا يكون ذلك بدون البحث والتفكير.
وردت آيات في القرآن تشير إلى ربط القلب بالنشاطات العقلية، لكن هذا لا يعني أن العقل هناك.
كما أن القلب يعني داخل الإنسان، سواء كان في النفس أو الجسد، ولا يهم ذلك، طالما أن المطلوب هو تشغيل العقل واستعماله في الوصول إلى الهدف.
العلم الحديث أيضاً ركز على النشاطات العقلية، والتي تحصل في الدماغ، ولهذا أبدع كثيراً، وظهرت أنواع من التفكير والأساليب التعليمية، مما أثمر في تحسين التعليم والتفكير عامة.
 
في حثه على استخدام العقل، يستخدم القرآن الكثير من الأساليب الإبداعية، والتي تعرف بالتفكير الجانبي.
وهو أساليب ومهارات تتعلق بالإدراك الحسي، وبجوانب لا يأخذها المنطق في الاعتبار، مثل الانتباه والدعابة والعواطف.
يقوم التفكير الجانبي على فهم كيفية تشكل النماذج العصبية في الدماغ، والتي تمثل الخبرة المتراكمة نتيجة التعلم والتفكير.
يمكن، بناء على ذلك، توقع سلوك الدماغ، ومن ثم كيفية التحكم في هذا السلوك بابتكار أدوات فكرية تحسن أداءه الإبداعي.
   
 

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢