تفسير سورة الكهف - الآيات [1-8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

بسم الله الرحمن الرحيم.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً [الكهف:1-8].

معنى الحمد وفضله

هذه السورة المباركة افتتحها ربنا جل جلاله بحمد نفسه، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الكهف:1]، و(الحمد) معناه: الثناء الجميل على الله عز وجل، بجميل صفاته، وجميل أفعاله، أي: الثناء على الجميل بالجميل. وهذه الكلمة المباركة: (الحمد لله) هي كلمة كل شاكر، قالها نوح عليه السلام حين ركب في الفلك، حيث قال الله عز وجل له: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28].

وقالها إبراهيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [إبراهيم:39].

وقالها الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111].

وقالها أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74].

وقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الكلمة، وعدها من الباقيات الصالحات، التي قال الله فيها: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].

وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: ( الحمد لله تملأ الميزان )، وأخبرنا صلوات ربي وسلامه عليه: ( أن عبداً قال: يا ربنا! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين كيف يكتبانها، فصعدا إلى الله عز وجل وهو أعلم، فقالا: يا ربنا! إن عبدك قال كلمة لم ندر كيف نكتبها، قال الله عز وجل: وما قال عبدي؟ قال الملكان: قال عبدك: يا ربنا! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، قال الله عز وجل: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ).

( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه يوماً، فلما قال: سمع الله لمن حمده، قال أحد الصحابة: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف عليه الصلاة والسلام من صلاته قال: أيكم القائل تلك المقالة؟ فقال الصحابي: أنا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها إلى الله عز وجل ). فهذه كلمة طيبة مباركة حري بكل مسلم أن يقولها في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، وفي الصحة والسقم، وفي الغنى والفقر، فقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابته نعمة قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أصابه بلاء قال: الحمد لله على كل حال ).

وأخبرنا عليه الصلاة والسلام: ( بأن الله تعالى إذا ابتلى عبداً من عباده بداء في جسده، فإنه يقول لملائكته: انظروا ما يقول عبدي لعواده، فإذا قال لعواده: الحمد لله -يعني: حمد الله وأثنى عليه- رجعت الملائكة فأخبرت ربها وهو أعلم، فيقول الله عز وجل: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد ).

وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبودية

قال تعالى: الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ [الكهف:1]، العبد هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد وصفه الله عز وجل بهذه الصفة عند ذكر نزول القرآن في قوله سبحانه: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، قال أهل التفسير: التعبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ العبد مضافاً إلى الله عز وجل إضافة تشريف فقوله: (على عبده)، تنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ أعلى المراتب في صفة العبودية، فلا أحد من الناس أعبد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه، فهو أعبد العباد صلوات ربي وسلامه عليه، وقالوا أيضاً: في الآية إن إشعاراً بأن الرسول لا بد أن يكون عبداً للمرسل جل جلاله، لا كما زعمت النصارى في المسيح عليه السلام أنه ابن الله.

خلو القرآن الكريم من الاعوجاج والانحراف

وقوله تعالى: الْكِتَابَ [الكهف:1]، هو القرآن، وسمي الكتاب كتاباً من الكَتْب، وهو الضم والجمع؛ لأن حروفه وكلماته مجموع بعضها إلى بعض.

ثم قال تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، أي: لم يجعل في هذا الكتاب اعوجاجاً، ولا ميلاً، ولا زيغاً، ولا انحرافاً، بل هو مستقيم في أحكامه، مستقيم في أخباره، كما قال الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115]، وكما قال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، وكما قال سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:27-28]، أي: لا ميل فيه ولا انحراف.

حمد الله على نعمة القرآن

ونعمة القرآن التي أمرنا ربنا جل جلاله بأن نحمده عليها قد ذكرت في آيات كثيرة، كقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء:174]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقوله: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وقوله سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وقوله أيضاً: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:76-77]، وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].. إلى غير ذلك من المواضع التي بين فيها ربنا أن أعظم نعمة أنعم بها على عباده هي إنزال هذا الكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فواجب على كل مسلم أن يحمد الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة.

هذه السورة المباركة افتتحها ربنا جل جلاله بحمد نفسه، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الكهف:1]، و(الحمد) معناه: الثناء الجميل على الله عز وجل، بجميل صفاته، وجميل أفعاله، أي: الثناء على الجميل بالجميل. وهذه الكلمة المباركة: (الحمد لله) هي كلمة كل شاكر، قالها نوح عليه السلام حين ركب في الفلك، حيث قال الله عز وجل له: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28].

وقالها إبراهيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [إبراهيم:39].

وقالها الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111].

وقالها أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74].

وقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الكلمة، وعدها من الباقيات الصالحات، التي قال الله فيها: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].

وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: ( الحمد لله تملأ الميزان )، وأخبرنا صلوات ربي وسلامه عليه: ( أن عبداً قال: يا ربنا! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين كيف يكتبانها، فصعدا إلى الله عز وجل وهو أعلم، فقالا: يا ربنا! إن عبدك قال كلمة لم ندر كيف نكتبها، قال الله عز وجل: وما قال عبدي؟ قال الملكان: قال عبدك: يا ربنا! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، قال الله عز وجل: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ).

( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه يوماً، فلما قال: سمع الله لمن حمده، قال أحد الصحابة: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف عليه الصلاة والسلام من صلاته قال: أيكم القائل تلك المقالة؟ فقال الصحابي: أنا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها إلى الله عز وجل ). فهذه كلمة طيبة مباركة حري بكل مسلم أن يقولها في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، وفي الصحة والسقم، وفي الغنى والفقر، فقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابته نعمة قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أصابه بلاء قال: الحمد لله على كل حال ).

وأخبرنا عليه الصلاة والسلام: ( بأن الله تعالى إذا ابتلى عبداً من عباده بداء في جسده، فإنه يقول لملائكته: انظروا ما يقول عبدي لعواده، فإذا قال لعواده: الحمد لله -يعني: حمد الله وأثنى عليه- رجعت الملائكة فأخبرت ربها وهو أعلم، فيقول الله عز وجل: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد ).

قال تعالى: الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ [الكهف:1]، العبد هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد وصفه الله عز وجل بهذه الصفة عند ذكر نزول القرآن في قوله سبحانه: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، قال أهل التفسير: التعبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ العبد مضافاً إلى الله عز وجل إضافة تشريف فقوله: (على عبده)، تنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ أعلى المراتب في صفة العبودية، فلا أحد من الناس أعبد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه، فهو أعبد العباد صلوات ربي وسلامه عليه، وقالوا أيضاً: في الآية إن إشعاراً بأن الرسول لا بد أن يكون عبداً للمرسل جل جلاله، لا كما زعمت النصارى في المسيح عليه السلام أنه ابن الله.

وقوله تعالى: الْكِتَابَ [الكهف:1]، هو القرآن، وسمي الكتاب كتاباً من الكَتْب، وهو الضم والجمع؛ لأن حروفه وكلماته مجموع بعضها إلى بعض.

ثم قال تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، أي: لم يجعل في هذا الكتاب اعوجاجاً، ولا ميلاً، ولا زيغاً، ولا انحرافاً، بل هو مستقيم في أحكامه، مستقيم في أخباره، كما قال الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115]، وكما قال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، وكما قال سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:27-28]، أي: لا ميل فيه ولا انحراف.

ونعمة القرآن التي أمرنا ربنا جل جلاله بأن نحمده عليها قد ذكرت في آيات كثيرة، كقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء:174]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقوله: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وقوله سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وقوله أيضاً: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:76-77]، وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].. إلى غير ذلك من المواضع التي بين فيها ربنا أن أعظم نعمة أنعم بها على عباده هي إنزال هذا الكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فواجب على كل مسلم أن يحمد الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة.

قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1] قَيِّمًا [الكهف:2] قال بعض أهل التفسير: في الكلام تقديم وتأخير، وأصله الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً.

أقوال المفسرين في معنى: (قيماً)

وقوله: (قيماً) ذكر المفسرون فيها وجوهاً ثلاثة، كلها صحيحة قد دل عليها القرآن:

الوجه الأول: (قيماً) بمعنى مستقيماً، فهو تأكيد لقوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، (قيماً) أي: مستقيماً، لا عوج فيه ولا انحراف ولا اختلاف ولا ميل، لا زيغ، لا في نظمه وأسلوبه، ولا في حقائقه ومعانيه.

الوجه الثاني: (قيماً) أي: مهيمناً على ما قبله من الكتب، وقيماً عليها، وتصديق هذا في القرآن قول ربنا الرحمن: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48].

الوجه الثالث: (قيماً) أي: يقوم بمصالح العباد في المعاش والمعاد، وقد دل على هذا قول ربنا سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] أي: في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا يعلم العبد كيف يعيش سعيداً، وكيف يعيش في كنف الله ورحمته، وكلاءته ورعايته جل جلاله، وفي الآخرة يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويهديهم إلى الجنة، كما قال سبحانه: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، أي: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، وما دلت عليه هذه الآية من أن القرآن قيم قد دلت عليه آيات أخرى، كقول ربنا سبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، وقوله سبحانه: مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]، وقوله سبحانه: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].. إلى غير ذلك من الآيات.

إنذار القرآن وبشارته

قال تعالى: لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف:2].

في هذه الآية يبين ربنا سبحانه وتعالى هدفاً من أهداف نزول القرآن، فقال: (لينذر)، والإنذار: إعلام مع تخويف، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً، فإذا أعلمت إنساناً بشيء مع تخويف فهذا يسمى إنذاراً.

وكون القرآن نذيراً وبشيراً قد دلت عليه آيات أخرى، كقول الله عز وجل: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً [مريم:97]، والَّلد جمع ألد، وهو شديد الخصومة، وكقول الله عز وجل: كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2]، وهذا الفعل (أنذر) يتعدى لمفعولين، كقول الله عز وجل: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى [الليل:14]، فتعدى إلى مفعولين، وهنا قال الله عز وجل: لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف:2]، فأتى بمفعول واحد وحذف المفعول الأول، وتقدير الكلام: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً، وهناك قال: وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الكهف:4]، أي: وينذر الذين قالوا: اتخذ الله ولداً بأساً شديداً، فحذف المفعول الأول في الآية الأولى، وحذف المفعول الثاني في الآية الثانية؛ لدلالة كل واحد من الموضعين على المحذوف.

وقوله: (بأساً شديداً أي: عقوبةً عاجلةً في الدنيا، وعقوبةً آجلةً في الآخرة، فالعقوبةً العاجلة في الدنيا تسليط المؤمنين عليهم يقتلونهم ويأسرونهم، والعقوبةً الآجلة في الآخرة نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.

وقوله: (من لدنه)، أي: من عند الله جل جلاله، الذي: لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25-26].

ثم قال تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [الكهف:2]، هذا هو الهدف الثاني من أهداف نزول القرآن: تبشير المؤمنين، أي: سوق البشارة إليهم، والبشارة هي الخبر السار، وسميت البشارة بشارة؛ لأن أثرها يظهر على البشرة، كتهلل الأسارير، وانبساط الوجه، والبشارة قد تستعمل في الخبر السيئ كنوع من التهكم، كقول الله عز وجل: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:138]، وقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، وإلا فالأصل أن البشارة هي في الخبر السار.

والمؤمنون هم الذين رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وليس هذا وحده، بل عملوا الصالحات، قال تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الكهف:2]، والصالحات جمع صالحة، وتطلقها العرب على الفعلة الحسنة الطيبة، والخصلة الجميلة، كما قال أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه يمدح زوجته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها:

بنت الأمين جزاك الله صالحةً وكل بعل سيثني بالذي علما

فقوله: (صالحةً) أي: خصلةً طيبة وفعلةً حسنة.

وكما قال الآخر:

الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن

أي: مشغلة عن كل فعلة طيبة، ويقصد بذلك الحب المحرم، لا الحب الحلال.

فالقرآن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، والأجر هو الجزاء، و(حسناً) أي: طيباً.

شروط العمل الصالح

ولا بد أن نعلم أن قول الله عز وجل: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الكهف:2]، بأن العمل لا يعد صالحاً في ميزان الإسلام إلا إذا توافرت له ثلاثة شروط:

الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل، فلا يكون رياءً ولا سمعة، ولا طلباً للدنيا، قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:11-15]، وقوله سبحانه: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، وقوله: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5].

الشرط الثاني: أن يكون مطابقاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال تعالى: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80]، وقال سبحانه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، وقال أيضاً: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

الشرط الثالث: أن يكون مبنياً على أساس من الإيمان، قال الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].

فلو أن إنساناً عمل أعمالاً كثيرة: كان أوقف أوقافاً للأيتام، وكفل الأرامل، وأطعم الفقراء والمساكين، لكنه ليس بمؤمن، لا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله -كحال بعض الكفار الآن الذين عندهم أعمال طيبة- فهذا لا يقبل الله منه قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور:39].

وقال أيضاً: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ [إبراهيم:18].

والسيدة عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ( يا رسول الله! إن ابن جدعان كان يقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويفك العاني، فهل ذلك نافعه؟ قال عليه الصلاة والسلام: ليس بنافعه؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، فلا ينفع الكافر عند الله أي عمل، وأما أعماله الطيبة فيجزيه الله بها في الدنيا؛ كأن يصح الله له بدنه، ويدر له رزقه، ويرغد له عيشه، أما في الآخرة فليس له إلا النار، قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16].

فخلاصة القول: أن العمل لا يعد صالحاً إلا بثلاثة شروط:

أولها: أن يكون خالصاً لله عز وجل، ليس لأحد من الخلق فيه نصيب.

وثانيها: أن يكون مطابقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثالثها: أن يكون مبنياً على أساس من الإيمان.

ولذلك لو أن إنساناً جاء إلى المسجد مخلصاً يرجو وجه الله، لكنه قال: أنا نشيط ولذلك سأصلي المغرب أربعاً، فهذا نقول له: عملك مردود عليك؛ لأن الشرط الأول قد حصل وهو الإخلاص، لكن الشرط الثاني لم يحصل؛ وهو أن عملك ليس مطابقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (قيماً) ذكر المفسرون فيها وجوهاً ثلاثة، كلها صحيحة قد دل عليها القرآن:

الوجه الأول: (قيماً) بمعنى مستقيماً، فهو تأكيد لقوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، (قيماً) أي: مستقيماً، لا عوج فيه ولا انحراف ولا اختلاف ولا ميل، لا زيغ، لا في نظمه وأسلوبه، ولا في حقائقه ومعانيه.

الوجه الثاني: (قيماً) أي: مهيمناً على ما قبله من الكتب، وقيماً عليها، وتصديق هذا في القرآن قول ربنا الرحمن: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48].

الوجه الثالث: (قيماً) أي: يقوم بمصالح العباد في المعاش والمعاد، وقد دل على هذا قول ربنا سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] أي: في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا يعلم العبد كيف يعيش سعيداً، وكيف يعيش في كنف الله ورحمته، وكلاءته ورعايته جل جلاله، وفي الآخرة يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويهديهم إلى الجنة، كما قال سبحانه: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، أي: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، وما دلت عليه هذه الآية من أن القرآن قيم قد دلت عليه آيات أخرى، كقول ربنا سبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، وقوله سبحانه: مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]، وقوله سبحانه: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].. إلى غير ذلك من الآيات.

قال تعالى: لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف:2].

في هذه الآية يبين ربنا سبحانه وتعالى هدفاً من أهداف نزول القرآن، فقال: (لينذر)، والإنذار: إعلام مع تخويف، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً، فإذا أعلمت إنساناً بشيء مع تخويف فهذا يسمى إنذاراً.

وكون القرآن نذيراً وبشيراً قد دلت عليه آيات أخرى، كقول الله عز وجل: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً [مريم:97]، والَّلد جمع ألد، وهو شديد الخصومة، وكقول الله عز وجل: كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2]، وهذا الفعل (أنذر) يتعدى لمفعولين، كقول الله عز وجل: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى [الليل:14]، فتعدى إلى مفعولين، وهنا قال الله عز وجل: لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف:2]، فأتى بمفعول واحد وحذف المفعول الأول، وتقدير الكلام: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً، وهناك قال: وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الكهف:4]، أي: وينذر الذين قالوا: اتخذ الله ولداً بأساً شديداً، فحذف المفعول الأول في الآية الأولى، وحذف المفعول الثاني في الآية الثانية؛ لدلالة كل واحد من الموضعين على المحذوف.

وقوله: (بأساً شديداً أي: عقوبةً عاجلةً في الدنيا، وعقوبةً آجلةً في الآخرة، فالعقوبةً العاجلة في الدنيا تسليط المؤمنين عليهم يقتلونهم ويأسرونهم، والعقوبةً الآجلة في الآخرة نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.

وقوله: (من لدنه)، أي: من عند الله جل جلاله، الذي: لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25-26].

ثم قال تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [الكهف:2]، هذا هو الهدف الثاني من أهداف نزول القرآن: تبشير المؤمنين، أي: سوق البشارة إليهم، والبشارة هي الخبر السار، وسميت البشارة بشارة؛ لأن أثرها يظهر على البشرة، كتهلل الأسارير، وانبساط الوجه، والبشارة قد تستعمل في الخبر السيئ كنوع من التهكم، كقول الله عز وجل: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:138]، وقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، وإلا فالأصل أن البشارة هي في الخبر السار.

والمؤمنون هم الذين رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وليس هذا وحده، بل عملوا الصالحات، قال تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الكهف:2]، والصالحات جمع صالحة، وتطلقها العرب على الفعلة الحسنة الطيبة، والخصلة الجميلة، كما قال أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه يمدح زوجته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها:

بنت الأمين جزاك الله صالحةً وكل بعل سيثني بالذي علما

فقوله: (صالحةً) أي: خصلةً طيبة وفعلةً حسنة.

وكما قال الآخر:

الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن

أي: مشغلة عن كل فعلة طيبة، ويقصد بذلك الحب المحرم، لا الحب الحلال.

فالقرآن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، والأجر هو الجزاء، و(حسناً) أي: طيباً.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2548 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2538 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2510 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2379 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2369 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2297 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2264 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2172 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2089 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2051 استماع