تفسير سورة الأنعام - الآيات [77-83]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

تقدم معنا الكلام في إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأنه أوتي حجة وبياناً، وقدرة على مناظرة من جحد بالله عز وجل وكفر به، يقول سبحانه: وَإِذْ قَالَ [البقرة:30]، أي: واذكر، وعرفنا أن تقدير الفعل "واذكر" باستقراء القرآن، فدائماً إذ يأتي قبلها الفعل "واذكر" كما في قول ربنا جل جلاله: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ [الأحقاف:21]، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:26]، فيكون المعنى: واذكر، يا محمد! لقومك: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، وآزر هو أبو إبراهيم عليه السلام، وليس كما قال بعض أهل التاريخ بأنه تارح وأن آزر هو اسم الصنم، بل آزر اسم أبي إبراهيم؛ لأن آيات القرآن دلت على أن الخطاب كان للوالد مباشرة، كقول الله عز وجل: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، وقوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ [الشعراء:69-70]، وقوله تعالى في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:41-42]، فالخطاب لأبيه مباشرة، وليس لعمه، كما قال بعض أهل التفسير، ولا لجده، بل هو لأبيه، وأبوه آزر ، وآزر بدل من أبيه، أو عطف بيان، وفي قراءة شاذة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74] بضم الراء، أي: يا آزرُ ! أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً [الأنعام:74]، وهذا استفهام على سبيل الإنكار، ثم أعقب ذلك بقوله: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، أي: في بعد عن الحق، وانصراف عن الهدى، واضح بين.

رؤية إبراهيم لملكوت السموات والأرض

قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]، "ملكوت" بمعنى: ملك، والواو والتاء زائدتان؛ للمبالغة، كما قالت العرب في رهبة: رهبوت، وفي رغبة: رغبوت، وفي جبر: جبروت، وهاهنا أيضاً في الملك: ملكوت، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وقد أراه الله عز وجل آياته، في سماواته وأرضه، كما قال سبحانه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق:6-7]، فهذا هو ملكوت السموات والأرض، وليس كما قال بعضهم: بأن الله تعالى أرى إبراهيم تخوم الأرض إلى الأرض السابعة، وأنه رفعه فوق السموات العلى إلى عرشه جل جلاله، وأطلعه على أعمال بني آدم، وأنه كان كلما رأى واحداً منهم على فاحشة دعا عليه فهلك، فنهاه ربه، فهذا كله لم يقم عليه دليل.

قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]، "ملكوت" بمعنى: ملك، والواو والتاء زائدتان؛ للمبالغة، كما قالت العرب في رهبة: رهبوت، وفي رغبة: رغبوت، وفي جبر: جبروت، وهاهنا أيضاً في الملك: ملكوت، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وقد أراه الله عز وجل آياته، في سماواته وأرضه، كما قال سبحانه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق:6-7]، فهذا هو ملكوت السموات والأرض، وليس كما قال بعضهم: بأن الله تعالى أرى إبراهيم تخوم الأرض إلى الأرض السابعة، وأنه رفعه فوق السموات العلى إلى عرشه جل جلاله، وأطلعه على أعمال بني آدم، وأنه كان كلما رأى واحداً منهم على فاحشة دعا عليه فهلك، فنهاه ربه، فهذا كله لم يقم عليه دليل.

قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً [الأنعام:77] أي: طالعاً بيناً ظاهراً، قال: هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]، وكيف يقول إبراهيم عن نفسه ذلك؟ وجهان لأهل التفسير:

الوجه الأول: أنه قال ذلك تواضعاً، وعادة الأنبياء التواضع، كما قال عليه السلام هو وولده: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، وقد كانا مسلمين.

وكما قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وما عبد الأصنام قط، وكما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله فيقول: ( اللهم اجعلني لك ذكاراً )، وما عرفت الدنيا رجلاً أذكر من محمد صلى الله عليه وسلم، ( اللهم اجعلني لك ذكاراً، لك شكاراً، لك مطواعاً، لك مخبتاً، إليك أواهاً منيباً )، وهو عليه الصلاة والسلام ذكار، شكار، مطواع، مخبت، أواه، منيب، على أكمل حال عليه الصلاة والسلام، فـإبراهيم قال ذلك تواضعاً لربه.

الوجه الثاني: أنه قال ذلك تعريضاً بقومه، أي: يعرض بقومه.. أنهم قوم ضالون.

قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً [الأنعام:78]، أي: طالعة ظاهرة، قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78]، والشمس بضيائها وحرارتها ووهجها، لا مناسبة بينها وبين القمر، ولا مناسبة بينها وبين الكوكب، فقال: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام:78]، وهاهنا استبان الحق لقومه، قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78].

المقصود بالقوم

وتقدم معنا في أن كلمة القوم تطلق مراداً بها خصوص الرجال، ومنه قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11]، وقول القائل:

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟!

لكن المرأة قد تدخل في كلمة القوم تبعاً، ومنه قول الله عز وجل: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24]، إلى أن قال سبحانه: إِنَّهَا [النمل:43]، بلقيس كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:43]، فهنا أدخل المرأة في القوم.

فطر الأنبياء على بغض الشرك

قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78]، أي: تبرأ إلى الله عز وجل، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة:4]؛ ولذلك بحيرى الراهب لما أراد أن يختبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، قال له: ( يا غلام! سألتك باللات والعزى إلا أخبرتني عن ما أسألك عنه )، يعني: أنا عندي أسئلة أستحلفك باللات والعزى أن تجيبني عنها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحلف باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئاً مثل ما أبغضتهما )، يقول هذا الكلام وهو غلام صغير عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله فطره على التوحيد، فـإبراهيم عليه السلام قال لقومه: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ .

وتقدم معنا في أن كلمة القوم تطلق مراداً بها خصوص الرجال، ومنه قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11]، وقول القائل:

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟!

لكن المرأة قد تدخل في كلمة القوم تبعاً، ومنه قول الله عز وجل: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24]، إلى أن قال سبحانه: إِنَّهَا [النمل:43]، بلقيس كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:43]، فهنا أدخل المرأة في القوم.

قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78]، أي: تبرأ إلى الله عز وجل، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة:4]؛ ولذلك بحيرى الراهب لما أراد أن يختبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، قال له: ( يا غلام! سألتك باللات والعزى إلا أخبرتني عن ما أسألك عنه )، يعني: أنا عندي أسئلة أستحلفك باللات والعزى أن تجيبني عنها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحلف باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئاً مثل ما أبغضتهما )، يقول هذا الكلام وهو غلام صغير عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله فطره على التوحيد، فـإبراهيم عليه السلام قال لقومه: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ .

قال تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي [الأنعام:79]، أي: أخلصت عملي، وقصدي ونيتي، لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ [الأنعام:79]، فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14]، والفاطر: هو الخالق والمبتدئ على غير مثال سابق.

ولذلك ذكر القرطبي في تفسيره: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما علمت حقيقة قوله تعالى: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14]، إلا حين جاءني أعرابيان، يختصمان في بئر، كل يقول: أنا فطرتها، " أنا فطرتها" أي: أنا ابتدأتها.

فيكون المعنى: إني وجهت وجهي للذي ابتدأ خلق السموات والأرض على غير مثال سابق، حَنِيفاً [الأنعام:79]، والحنف هو الميل، ومنه قيل لمن في قدميه ميل: الأحنف، وأم الأحنف بن قيس كانت ترقصه وهو صغير، تقول: والله لولا حنف في رجله، ما كان في الحي غلام مثله، أي: لولا هذا العيب الذي فيه، فالحنيف: هو المائل عن الشرك إلى التوحيد، وعن الكفر إلى الإيمان.

تهديد الكفار للأنبياء والصالحين بالقتل والفتك

قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80]، أي: جادلوه وخوفوه وأرهبوه. على عادة الكفار، مثلما قال قوم هود لهود: إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]، ومثلما قال فرعون لموسى: لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ومثلما قال فرعون لما قال له قومه: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]، ومثلما قال قوم صالح: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49]، ومثلما قال أبو جهل : واللات والعزى لئن رأيت محمداً ساجداً عند الكعبة، لأشدخن رأسه بحجر، وهذا دائماً دأب المشركين، يهددون.

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ، أي: بدءوا يجادلونه.

الرد على من زعم وجود اللحن في قراءة نافع (أتحاجوني) بغير تشديد

قال تعالى: قَالَ أَتُحَاجُّونِي [الأنعام:80]، أي: أتحاجونني، فأدعمت النون في النون، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ نافع رحمه الله: (أتحاجوني)، بغير تشديد، فزعم بعض أهل العربية أن هذه القراءة لحن، وليس كذلك، بل هي قراءة فصيحة، قرأ بها نافع في هذا الموضع، وفي قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي [الزمر:64]، هذه قراءة الجمهور بالتشديد، أي: تأمرونني، وقرأها نافع : (تأمروني) بغير تشديد.

وفي قول الله عز وجل: أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النحل:27]، قرأها نافع : (أين شركائي الذين كنتم تشاقوني فيهم) والقراءة صحيحة، واللغة فصيحة.

أحوال نون الرفع في الأفعال الخمسة

لأن المعلوم عند العرب أن نون الرفع في الأفعال الخمسة لها خمسة أحوال، ثلاثة أحوال تحذف فيها باطراد:

إذا سبقها ناصب، كقوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ [آل عمران:92]، أصلها: لن تنالون لكن حذفت النون؛ لأن (لن) ناصبة.

الثانية: إذا سبقها جازم، مثالها: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، أصلها: تفعلون لكن حذفت النون لسبق الجازم.

ثالثها: إذا اتصل بالفعل نون التوكيد الثقيلة، كقول الله عز وجل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186]، حذفت نون الرفع؛ لوجود نون التوكيد الثقيلة.

الحالة الرابعة: يصح إبقاء النون وحذفها إذا اتصل الفعل بنون الوقاية، كما في هذه الأمثلة: قول الله عز وجل: أَتُحَاجُّونِي [الأنعام:80]، وفي قراءة نافع : أتحاجوني، وكما في قوله: (تأمرونِّي)، مع العلم أن المحذوف عندنا نون الوقاية لا نون الرفع.

ثم في الحالة الخامسة: قد تحذف النون دون أن يسبقها ناصب ولا جازم، ولا اتصل الفعل بنون التوكيد الثقيلة ولا بنون الوقاية، وهذا في كلام العرب قليل جداً، لكنها لغة فصيحة.

قال: وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80]، أي: أنا قد استبان لي الطريق، وعرفت السبيل، وأيقنت بأن الله واحد جل جلاله، أما أنتم ففي أي شيء تحاجون؟ وكان قومه يحاجونه مثلما حاج الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، ومثلما كانوا يحاجونه: أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5]، أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء:49]، أئذا متنا وآباؤنا أإنا لمبعوثون؟ هذه هي محاجتهم.

عدم رهبة الأنبياء من تهديدات الكفار ومن معبوداتهم

قال تعالى: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80]، أي: أنا لا أخاف أصنامكم، ولا أرهب تماثيلكم، ولا أعدها شيئاً، ولا تستحق أن يلتفت إليها، وهذا كما قال هود عليه السلام لقومه لما قالوا له: إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]، يعني: الآن ولا تؤخروني فلا داعي للتهديد والوعيد، إن كان عندكم شيء فالآن.. الآن، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، أنتم وأصنامكم وأوثانكم وآلهتكم، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:55-56]، وهكذا إبراهيم عليه السلام، وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام:80]، والاستثناء هاهنا استثناء منقطع، والمعنى: لا أخاف ما تشركون، لكن إن يشأ ربي جل جلاله أن يخوفني بشيء، فعل.

والأنبياء عليهم السلام قد يخافون، كما قال الله عن موسى عليه السلام: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، وكما قال: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67]، فهم قد يخافون الخوف الطبيعي.

إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام:80]، وهذا أيضاً من تواضعه عليه السلام، أنه يبرأ إلى الله من الحول والطول، فلم يقل للقوم: أنا الشجاع.. أنا البطل! هلموا إلي! لا، وإنما يكل الأمر إلى الله عز وجل.

وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الأنعام:80]، "علماً" تمييز محول عن الفاعل، أي: وسع علم ربي كل شيء، والله جل جلاله لا تخفى عليه خافية، في الأرض ولا في السماء، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3].

أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، أي: يا أيها الناس! ألا تعقلون؟! هذه أصنام، لا تأكل ولا تشرب، ولا تعطي ولا تمنع، ولا تضر ولا تنفع، ولا تنطق ولا تسمع، هذه الأصنام، وهذا حالها منذ عرفتموها، فكيف تتركون الرب القوي، القدير، العالم، الخبير جل جلاله، وتعكفون على هذه الحجارة الصماء، تعبدونها وتقيمون عندها؟

قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80]، أي: جادلوه وخوفوه وأرهبوه. على عادة الكفار، مثلما قال قوم هود لهود: إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]، ومثلما قال فرعون لموسى: لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ومثلما قال فرعون لما قال له قومه: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]، ومثلما قال قوم صالح: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49]، ومثلما قال أبو جهل : واللات والعزى لئن رأيت محمداً ساجداً عند الكعبة، لأشدخن رأسه بحجر، وهذا دائماً دأب المشركين، يهددون.

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ، أي: بدءوا يجادلونه.

قال تعالى: قَالَ أَتُحَاجُّونِي [الأنعام:80]، أي: أتحاجونني، فأدعمت النون في النون، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ نافع رحمه الله: (أتحاجوني)، بغير تشديد، فزعم بعض أهل العربية أن هذه القراءة لحن، وليس كذلك، بل هي قراءة فصيحة، قرأ بها نافع في هذا الموضع، وفي قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي [الزمر:64]، هذه قراءة الجمهور بالتشديد، أي: تأمرونني، وقرأها نافع : (تأمروني) بغير تشديد.

وفي قول الله عز وجل: أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النحل:27]، قرأها نافع : (أين شركائي الذين كنتم تشاقوني فيهم) والقراءة صحيحة، واللغة فصيحة.