تفسير سورة الأنعام - الآيات [59-69]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

ففي الآيات التي مضت بين ربنا تبارك وتعالى أن المشركين متكبرون متغطرسون، مفترون على الله الكذب، وأنهم إذا رأوا المؤمنين الطيبين يقولون: أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53]، قال الله عز وجل جواباً على فريتهم: أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53]، وختم تلك الآيات بقوله: وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [الأنعام:58]، يعني: الله جل جلاله أعلم بالشاكرين وأعلم بالظالمين. ثم عطف ربنا جل جلاله على تلك الجملة قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59]، المفاتح جمع مفتح، كمخازن جمع محزن، وقال بعضهم: بل مفاتح جمع مِفتح، بكسر الميم، والمفتح بفتح الميم مكان الفتح، والمفتح بكسرها اسم آلة الفتح كما يقال: مَشعل، مكان الاشتعال، ومِشعل آلة الإشعال، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ [الأنعام:59]، وقرأ بعضهم: (مفاتيح الغيب). ‏

مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله

مفاتح الغيب هذه قد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيح حين قال: ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: ثم قرأ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] )، وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى ينزل المطر إلا الله، ولا يعلم ما يكون في غد، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله )، وفي صحيح مسلم من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ [النمل:65] )، وهذا ظاهر.

امتناع علم الغيب عن جميع الخلق حتى الأنبياء والملائكة

أفضل المخلوقات رسل الله من البشر ومن الملائكة، قد بين ربنا جل جلاله ذلك بقوله: اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، الملائكة لا يعلمون الغيب؛ ولذلك لما قال الله عز وجل: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:31-32].

وكذلك الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله إياه، فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام لما جاءته الملائكة ما عرف حقيقتهم؛ ولذلك قرب إليهم عجلاً سميناً، قال أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91]، وكذلك نبي الله لوط عليه السلام لما جاءته الملائكة: سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود:77]؛ لأنه خشي عليهم من قومه، حتى بلغ به الحال أن يقول: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، وما عرف حقيقتهم إلى أن قالوا له: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [هود:81]، وكذلك نبي الله نوح عليه السلام، دعا ربه فقال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45]، ما كان يعلم حقيقة الأمر، حتى قال الله له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46]، كذلك نبي الله سليمان ما كان يعرف سبب غياب الهدهد، حتى جاءه فقال له: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، وما كان سليمان يجزم بصدق الهدهد حتى قال له: سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27].

وأفضل الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد خاطبه ربه جل جلاله فيما مضى من الآيات بأن يقول: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]، وكذلك في أحداث السيرة المطهرة تجدون نبينا صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك، كان يقول لأمنا رضي الله عنها: ( يا عائشة ! إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ).

حكم من ادعى علم الغيب

لا يعلم الغيب إلا الله، ومن هنا قال علماؤنا: من ادعى علم الغيب فقد كفر بالله؛ لأنه مشارك لله في صفة ليست لأحد إلا الله جل جلاله، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ [النمل:65]، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59]، قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتابه الكافي: من المكاسب المجمع على تحريمها: الربا والرشا والزنا والكهانة، الكهانة معناها أن الإنسان يتكهن، ويدعي معرفة الغيب، فيدخل في ذلك الرمال والضارب بالحصى وزاجر الطير وصاحب الطرق الذي يخط في الرمل، ويدخل في ذلك الوداع من يضرب بالودع، ومن يقرأ الكف والفنجان، ومن يستدل بالنجوم ومنازلها على ما يكون، هؤلاء جميعاً داخلون في الذم الشرعي ومكاسبهم محرمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، وثمن الكلب خبيث )، فقوله: (مهر البغي خبيث)، البغي التي تتجر بفرجها والعياذ بالله، ما تتقاضاه من أجر فهو خبيث، وقوله: (وحلوان الكاهن)، الحلوان هو المال الذي يناله من تكهنه، وسمي حلواناً؛ لأنه يناله بغير جهد يشبه الحلوى، حلوة الطعم سهلة البلع.

حالات إتيان الكاهن

وقد زجرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان هؤلاء الكهان والمنجمين، فثبت في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أتى كاهناً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً )، وفي الحديث الآخر: ( من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد )، يعني أن من يأتي الكاهن أو العراف يكون بين مصيبتين: إما أن يسأله من باب التسلية، فهذا الإنسان لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وإما أن يسأله على سبيل التصديق له، والاعتقاد بقوله فهذا والعياذ بالله كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

قال أهل العلم: ولو أن أنساناً دفع حلواناً لكاهن، ثم تمكن منه، وألقي القبض عليه، فإنه يؤخذ الحلوان من الكاهن ولا يرد إلى صاحبه، بل يجعل في بيت المال؛ لئلا نجمع له بين الثمن والمثمن، وكذلك من دفع مالاً ثمناً لخمر أو مهراً لبغي أو ثمناً لكلب أو نحو ذلك من المحرمات فإن المال يؤخذ ويجعل في بيت المال؛ عقوبة لكليهما.

حكم إتيان الكاهن

لا يجوز إتيان هؤلاء الكهان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح مسلم ، من حديث عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنه من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله! إنهم يخبروننا بالأمر أحياناً فيكون حقاً، فقال: تلك الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذني وليه من الكهان قبل أن يدركه الشهاب، فيخلط معها الكاهن مائة كذبة ).

ومنه ما يسمى الآن بحظك اليوم في بعض الجرائد وبعض شركات الاتصالات ممن لا يتقون الله، عرضوا قبل حين في بعض إعلاناتهم أن تتصل برقم معين وتخبرهم بتاريخ ميلادك؛ من أجل أن يخبروك بحظك اليوم، هذا حرام ولا يجوز، وكله من ادعاء علم الغيب.

أشياء لا تعتبر من علم الغيب

ليس من ادعاء الغيب الاستدلال بمنازل الشمس والقمر على بعض ما يكون من أحداث كونية، مثال ذلك: الاستدلال بمنازل الشمس والقمر على ما يكون من كسوف وخسوف، ومثاله أيضاً: أن يقول قائلهم: بأنه يتوقع غداً إن شاء الله أن يكون الجو صحواً مشمساً، أو أن يكون الجو غيماً ممطراً، ليس هذا من ادعاء علم الغيب، وإنما هو من باب الاستدلال بالموجود على المفقود، أو على الذي يكون حاصلاً، ومثله ما كان الأطباء قديماً في الزمان الأول يقولون: إذا اسودت حلمت الثدي الأيمن كان المولود ذكراً بإذن الله، وإذا اسودت حلمة الثدي الأيسر كان المولود أنثى، هذا من باب الخبرة والاستدلال بالظواهر المشاهدة، وليس هو من ادعاء علم الغيب، ومثله ما كانوا يقولون: إذا وجدت المرأة ثقلاً في جانبها الأيسر فإن المولود ذكر ونحو ذلك، ومثله أيضاً ما يفعله الطبيبات الآن من استعمال بعض الأجهزة؛ للاستدلال على نوع الجنين، ليس هذا من ادعاء علم الغيب والله تعالى أعلم. ‏

إطلاع الله أنبياءه ورسله على ما شاء من الغيب

قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59]، لكن الله عز وجل يطلع أنبياءه ورسله على ما شاء من غيب، قال الله سبحانه: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179]، قال سبحانه: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]، فالرسول يطلعه الله على الغيب؛ ولذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الخليفة من بعده أبو بكر ، قال: ( اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر و عمر )، وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن عمر مقتول، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه شهيد وسيدخل الجنة على بلوى تصيبه، وأخبر أن علياً مقتول، وأن أشقاه الذي يخضب هذه من هذه، أي لحيته من دم رقبته، ومثله أيضاً ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه حين قال لثابت بن قيس بن شماس : ( تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة إن شاء الله )، فقتل رضي الله عنه يوم اليمامة شهيداً. ومثله لما نام نومة القيلولة في بيت أم حرام بنت ملحان عليها من الله الرضوان، فاستيقظ وهي تمسح العرق عن جبهته؛ فتبسم عليه السلام، قالت: ( يا رسول الله! أتضحك من فعلي، قال: لا، ولكني أريت أناساً من أمتي يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، غزاة في سبيل الله، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم نام عليه السلام فاستيقظ وهي تمسح العرق عن وجهه فقال: أريت أناس من أمتي يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة غزاةً في سبيل الله، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين )، وقد غزت هذه المرأة الصالحة مع زوجها في البحر على أيام بعض الخلفاء وهو عثمان رضي الله عنه، وصدقت نبوته صلى الله عليه وسلم.

ومثله ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم: أنه ستفتح الشام وتفتح العراق وتفتح مصر وقوله عليه الصلاة والسلام: ( أوتيت مفاتيح اليمن )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الشرك )، هذا كله مما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وقد صدقت نبوته؛ لأن الله عز وجل قال: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3].

المراد بالبر والبحر في قوله: (ويعلم ما في البر والبحر)

ثم قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59]، ذكر الله البر مريداً به اليابسة، وذكر البحر مريداً به الماء، فالعرب تطلق البحر على النهر، فيقولون عن دجلة والفرات بحر، ولذلك بعض الناس قد يعيبون على أهل هذه البلاد أنهم يقولون عن النيل: بحراً، يقولون: البحر، وهذه فصيحة، لا حرج علينا لو قلنا عن النيل بأنه بحر؛ لأن كلمة البحر مشتقة من التبحر وهو التوسع.. الشيء الواسع، فالماء الكثير يقال له: بحر، هذه هي حقيقة الإطلاق، وقد تطلق الكلمة مجازاً فيقال: فلان بحر في العلم، إذا كان علمه كثيراً، أو يقال: فلان ماله بحر، إذا كان كثيراً.

قال الله عز وجل: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، ذكر الله هذين من المخلوقات مع أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في البر وما في البحر، وما في الأرض وما في السماء وما تحت الثرى، ويعلم جل جلاله ما يكون في أطباق الفضاء ويعلم ما لا نعلمه وما لا يخطر على بال أحدنا، لكنه جل جلاله خص هذين بالذكر؛ لأنهما أقرب المخلوقات إلينا، نحن نرى ما في البر ونرى البحر، فالله عز وجل قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59]، جل جلاله.

المراد بالورقة في قوله تعالى: (وما تسقط من ورقة)

قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا [الأنعام:59]، الظاهر من معنى الآية: أن ورقة الشجر إذا سقطت فإن الله يعلمها، يعلم وقت سقوطها وكم تستغرق في طبقات الهواء، والواحد منا لا يعلم ورق الشجر الساقط في بيته.

لكن الله عز وجل ما من ورقة تسقط في المشارق والمغارب إلا وهو يعلمها، هذا هو التفسير الظاهر.

وهناك تفسير ثان، قالوا: المراد بالورقة الرزق، قال بعضهم: ما من روقة تسقط إلا ومكتوب عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان، كل ما يكون من نبات، من حب، من ثمر، الله عز وجل يعلم من آكله، ومن صاحبه؛ لذلك مثلاً لو وُضع عنب في صحن ونحن نجلس جماعة، ما يستطيع أحد منا أن يجزم بأن هذه سيأكلها فلان وهذه فلان، وهذه التي من الأسفل يأكلها فلان، لكن الله يعلم.

وهناك تفسير ثالث بعيد، وهو من باب التفسير الإشاري، وينسب إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، قال: المقصود بالورقة الساقطة: ما ينزل من بطن أمه سقطاً، المولود الذي يخرج من بطن أمه ميتاً.

وأما الحبة فالمقصود: ما يخرج من بطن أمه حياً، قال الله عز وجل: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ [الأنعام:59]، ولا حبة، انظروا حبة قمح، حبة شعير، حبة ذرة.

سعة علم الله تعالى

قال تعالى: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ [الأنعام:59]، أي: في تخومها، قال أهل التفسير: وجمعت الظلمات؛ لأن المقصود ظلمة الأرض وظلمة الغيم وظلمة الليل وظلمة البحر، فهذه الظلمات ظلمات الأرض، وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ ، ما يكون من شيء رطب ولا شيء يابس، ما يكون من متحرك ولا ساكن، ما يكون من حي ولا ميت، إلا في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ، ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )، وهذه الآية من أدلة التوحيد التي يقيمها ربنا جل جلاله على هؤلاء الذين جعلوا مع الله أنداداً.

دلالة الآية على إثبات القدر

قال تعالى: وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وهذه الآية دليل على إثبات القدر، أنه ما كان شيء ولا يكون شيء إلا وهو مكتوب عند الله جل جلاله، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا [التوبة:51]، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، كله مكتوب عند الله، وهذا الاعتقاد يسكب في قلب المؤمن طمأنينة حين يعلم أن كل شيء مكتوب عند الله، فلا يقول: لو كان كذا لكان كذا، ولكن يقول: قدر الله وما شاء فعل.

مفاتح الغيب هذه قد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيح حين قال: ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: ثم قرأ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] )، وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى ينزل المطر إلا الله، ولا يعلم ما يكون في غد، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله )، وفي صحيح مسلم من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ [النمل:65] )، وهذا ظاهر.

أفضل المخلوقات رسل الله من البشر ومن الملائكة، قد بين ربنا جل جلاله ذلك بقوله: اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، الملائكة لا يعلمون الغيب؛ ولذلك لما قال الله عز وجل: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:31-32].

وكذلك الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله إياه، فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام لما جاءته الملائكة ما عرف حقيقتهم؛ ولذلك قرب إليهم عجلاً سميناً، قال أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91]، وكذلك نبي الله لوط عليه السلام لما جاءته الملائكة: سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود:77]؛ لأنه خشي عليهم من قومه، حتى بلغ به الحال أن يقول: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، وما عرف حقيقتهم إلى أن قالوا له: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [هود:81]، وكذلك نبي الله نوح عليه السلام، دعا ربه فقال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45]، ما كان يعلم حقيقة الأمر، حتى قال الله له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46]، كذلك نبي الله سليمان ما كان يعرف سبب غياب الهدهد، حتى جاءه فقال له: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، وما كان سليمان يجزم بصدق الهدهد حتى قال له: سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27].

وأفضل الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد خاطبه ربه جل جلاله فيما مضى من الآيات بأن يقول: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]، وكذلك في أحداث السيرة المطهرة تجدون نبينا صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك، كان يقول لأمنا رضي الله عنها: ( يا عائشة ! إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ).

لا يعلم الغيب إلا الله، ومن هنا قال علماؤنا: من ادعى علم الغيب فقد كفر بالله؛ لأنه مشارك لله في صفة ليست لأحد إلا الله جل جلاله، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ [النمل:65]، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59]، قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتابه الكافي: من المكاسب المجمع على تحريمها: الربا والرشا والزنا والكهانة، الكهانة معناها أن الإنسان يتكهن، ويدعي معرفة الغيب، فيدخل في ذلك الرمال والضارب بالحصى وزاجر الطير وصاحب الطرق الذي يخط في الرمل، ويدخل في ذلك الوداع من يضرب بالودع، ومن يقرأ الكف والفنجان، ومن يستدل بالنجوم ومنازلها على ما يكون، هؤلاء جميعاً داخلون في الذم الشرعي ومكاسبهم محرمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، وثمن الكلب خبيث )، فقوله: (مهر البغي خبيث)، البغي التي تتجر بفرجها والعياذ بالله، ما تتقاضاه من أجر فهو خبيث، وقوله: (وحلوان الكاهن)، الحلوان هو المال الذي يناله من تكهنه، وسمي حلواناً؛ لأنه يناله بغير جهد يشبه الحلوى، حلوة الطعم سهلة البلع.

وقد زجرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان هؤلاء الكهان والمنجمين، فثبت في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أتى كاهناً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً )، وفي الحديث الآخر: ( من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد )، يعني أن من يأتي الكاهن أو العراف يكون بين مصيبتين: إما أن يسأله من باب التسلية، فهذا الإنسان لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وإما أن يسأله على سبيل التصديق له، والاعتقاد بقوله فهذا والعياذ بالله كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

قال أهل العلم: ولو أن أنساناً دفع حلواناً لكاهن، ثم تمكن منه، وألقي القبض عليه، فإنه يؤخذ الحلوان من الكاهن ولا يرد إلى صاحبه، بل يجعل في بيت المال؛ لئلا نجمع له بين الثمن والمثمن، وكذلك من دفع مالاً ثمناً لخمر أو مهراً لبغي أو ثمناً لكلب أو نحو ذلك من المحرمات فإن المال يؤخذ ويجعل في بيت المال؛ عقوبة لكليهما.

لا يجوز إتيان هؤلاء الكهان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح مسلم ، من حديث عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنه من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله! إنهم يخبروننا بالأمر أحياناً فيكون حقاً، فقال: تلك الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذني وليه من الكهان قبل أن يدركه الشهاب، فيخلط معها الكاهن مائة كذبة ).

ومنه ما يسمى الآن بحظك اليوم في بعض الجرائد وبعض شركات الاتصالات ممن لا يتقون الله، عرضوا قبل حين في بعض إعلاناتهم أن تتصل برقم معين وتخبرهم بتاريخ ميلادك؛ من أجل أن يخبروك بحظك اليوم، هذا حرام ولا يجوز، وكله من ادعاء علم الغيب.

ليس من ادعاء الغيب الاستدلال بمنازل الشمس والقمر على بعض ما يكون من أحداث كونية، مثال ذلك: الاستدلال بمنازل الشمس والقمر على ما يكون من كسوف وخسوف، ومثاله أيضاً: أن يقول قائلهم: بأنه يتوقع غداً إن شاء الله أن يكون الجو صحواً مشمساً، أو أن يكون الجو غيماً ممطراً، ليس هذا من ادعاء علم الغيب، وإنما هو من باب الاستدلال بالموجود على المفقود، أو على الذي يكون حاصلاً، ومثله ما كان الأطباء قديماً في الزمان الأول يقولون: إذا اسودت حلمت الثدي الأيمن كان المولود ذكراً بإذن الله، وإذا اسودت حلمة الثدي الأيسر كان المولود أنثى، هذا من باب الخبرة والاستدلال بالظواهر المشاهدة، وليس هو من ادعاء علم الغيب، ومثله ما كانوا يقولون: إذا وجدت المرأة ثقلاً في جانبها الأيسر فإن المولود ذكر ونحو ذلك، ومثله أيضاً ما يفعله الطبيبات الآن من استعمال بعض الأجهزة؛ للاستدلال على نوع الجنين، ليس هذا من ادعاء علم الغيب والله تعالى أعلم. ‏

قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59]، لكن الله عز وجل يطلع أنبياءه ورسله على ما شاء من غيب، قال الله سبحانه: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179]، قال سبحانه: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]، فالرسول يطلعه الله على الغيب؛ ولذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الخليفة من بعده أبو بكر ، قال: ( اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر و عمر )، وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن عمر مقتول، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه شهيد وسيدخل الجنة على بلوى تصيبه، وأخبر أن علياً مقتول، وأن أشقاه الذي يخضب هذه من هذه، أي لحيته من دم رقبته، ومثله أيضاً ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه حين قال لثابت بن قيس بن شماس : ( تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة إن شاء الله )، فقتل رضي الله عنه يوم اليمامة شهيداً. ومثله لما نام نومة القيلولة في بيت أم حرام بنت ملحان عليها من الله الرضوان، فاستيقظ وهي تمسح العرق عن جبهته؛ فتبسم عليه السلام، قالت: ( يا رسول الله! أتضحك من فعلي، قال: لا، ولكني أريت أناساً من أمتي يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، غزاة في سبيل الله، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم نام عليه السلام فاستيقظ وهي تمسح العرق عن وجهه فقال: أريت أناس من أمتي يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة غزاةً في سبيل الله، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين )، وقد غزت هذه المرأة الصالحة مع زوجها في البحر على أيام بعض الخلفاء وهو عثمان رضي الله عنه، وصدقت نبوته صلى الله عليه وسلم.

ومثله ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم: أنه ستفتح الشام وتفتح العراق وتفتح مصر وقوله عليه الصلاة والسلام: ( أوتيت مفاتيح اليمن )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الشرك )، هذا كله مما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وقد صدقت نبوته؛ لأن الله عز وجل قال: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3].

ثم قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59]، ذكر الله البر مريداً به اليابسة، وذكر البحر مريداً به الماء، فالعرب تطلق البحر على النهر، فيقولون عن دجلة والفرات بحر، ولذلك بعض الناس قد يعيبون على أهل هذه البلاد أنهم يقولون عن النيل: بحراً، يقولون: البحر، وهذه فصيحة، لا حرج علينا لو قلنا عن النيل بأنه بحر؛ لأن كلمة البحر مشتقة من التبحر وهو التوسع.. الشيء الواسع، فالماء الكثير يقال له: بحر، هذه هي حقيقة الإطلاق، وقد تطلق الكلمة مجازاً فيقال: فلان بحر في العلم، إذا كان علمه كثيراً، أو يقال: فلان ماله بحر، إذا كان كثيراً.

قال الله عز وجل: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، ذكر الله هذين من المخلوقات مع أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في البر وما في البحر، وما في الأرض وما في السماء وما تحت الثرى، ويعلم جل جلاله ما يكون في أطباق الفضاء ويعلم ما لا نعلمه وما لا يخطر على بال أحدنا، لكنه جل جلاله خص هذين بالذكر؛ لأنهما أقرب المخلوقات إلينا، نحن نرى ما في البر ونرى البحر، فالله عز وجل قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59]، جل جلاله.

قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا [الأنعام:59]، الظاهر من معنى الآية: أن ورقة الشجر إذا سقطت فإن الله يعلمها، يعلم وقت سقوطها وكم تستغرق في طبقات الهواء، والواحد منا لا يعلم ورق الشجر الساقط في بيته.

لكن الله عز وجل ما من ورقة تسقط في المشارق والمغارب إلا وهو يعلمها، هذا هو التفسير الظاهر.

وهناك تفسير ثان، قالوا: المراد بالورقة الرزق، قال بعضهم: ما من روقة تسقط إلا ومكتوب عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان، كل ما يكون من نبات، من حب، من ثمر، الله عز وجل يعلم من آكله، ومن صاحبه؛ لذلك مثلاً لو وُضع عنب في صحن ونحن نجلس جماعة، ما يستطيع أحد منا أن يجزم بأن هذه سيأكلها فلان وهذه فلان، وهذه التي من الأسفل يأكلها فلان، لكن الله يعلم.

وهناك تفسير ثالث بعيد، وهو من باب التفسير الإشاري، وينسب إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، قال: المقصود بالورقة الساقطة: ما ينزل من بطن أمه سقطاً، المولود الذي يخرج من بطن أمه ميتاً.

وأما الحبة فالمقصود: ما يخرج من بطن أمه حياً، قال الله عز وجل: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ [الأنعام:59]، ولا حبة، انظروا حبة قمح، حبة شعير، حبة ذرة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2549 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2539 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2511 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2379 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2370 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2298 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2265 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2173 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2089 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2053 استماع