شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع عشر)


الحلقة مفرغة

التحذير من الخوض والتنقيب في باب القضاء والقدر

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لعلنا تكلمنا في الدرس السابق عن بعض المذاهب المتعلقة بالقضاء والقدر، ووجدت من الأحبة كثرة أسئلة حول هذا الأصل العظيم الذي هو الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأقول للأحبة كما قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: رأيت أعلم الناس بالقضاء والقدر أجهلهم به، وأجهل الناس بالقضاء والقدر أكثرهم بحثاً فيه وتنقيباً، ولعل السبب في ذلك: ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قال: [إن القضاء والقدر هو سر الله في خلقه، فمن يكشف سر الله تعالى؟].

وتبقى العقول قاصرة أن تفقه أو تعلم دقائق هذا الأمر، ولكن أعطيت قواعد لابد من الإيمان بها، وهي المراتب الأربع: مرتبة العلم، والكتابة، والإرادة والمشيئة، والخلق، فإذا أقر الإنسان بها على ضوء النصوص اطمأنت نفسه ولم يجد في قلبه شيئاً من الاعتراض على أي شيء يحدث في هذا الكون من قضاء الله وقدره.

قدمت بهذا الأمر مبيناً التحذير من كثرة التنقيب والخوض في باب القضاء والقدر، ولعل الشيطان أكثر ما يقدح في نفس الإنسان من الشبه والشكوك ومن الأمور التي تزعزع مبدأ القضاء والقدر والإيمان به، ولهذا لما ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن البدع والشبه خطيرة على الإنسان، قالوا: وأشدها خطراً ما كان متعلقاً بالقضاء والقدر، خاصة أنها تتعلق بأمرٍ غيبي ولا يمكن للإنسان تفسيرها إلا إذا كان عند الإنسان قاعدة بالإيمان بالله وبرسوله وبما أخبر عن الله وعن الرسول صلى الله عليه وسلم واطمأنت نفسه لهذا الأمر.

أنواع تقديرات مرتبة الكتابة

أنطلق إلى أنواع التقدير، وأبدأ بمرتبة الكتابة التي يجب علينا الإيمان بها، والتقدير أنواعه متعددة:

التقدير الأول: التقدير الأزلي: وهو كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) ويشهد له قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) ومفهوم هذه المرتبة أن المسلم يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب كل شيء، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أي: أن هذا الأمر قد فرغ منه، وما كتب في اللوح المحفوظ لا تغيير فيه ولا محو، ولا زيادة فيه ولا نقصان.

التقدير الثاني: التقدير العمري، وذلك حين أخذ الميثاق على بني آدم: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] دل على أن هذا التقدير كان للإنسان منذ الأزل؛ قدر للإنسان ما سيعمله، ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لـعمر بن الخطاب قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً ومقصوداً لذلك: أن الله سبحانه وتعالى قدر جزءاً من ذرية آدم إلى النار، وجزءاً منهم إلى الجنة، والله عالم بأهل الجنة وما يعملون، وأهل النار وما سيعملون سبحانه وتعالى، ويسمي العلماء هذا التقدير: التقدير المتعلق بأخذ الميثاق، وإن كان بين العلماء فيه خلاف.

والإمام ابن القيم رحمه الله تطرق إلى هذه المسألة، ورجح أن قضية مسح ظهر آدم وإخراج الذرية منه إخراجاً حسياً أن النصوص ليست صريحة في إثباته، وإنما ما كان من التقدير الذي إنما يشهد تمييز الناس إلى جنة أو إلى نار، وأن هؤلاء من ذرية آدم إلى النار، وأن هؤلاء من ذريته إلى الجنة.

التقدير الثالث: الذي يكون للإنسان عند أول تخلقه، ويسميه العلماء: التقدير العمري الخاص بالإنسان -والأول: التقدير الذي يعتبر متعلقاً بالميثاق- فالتقدير الذي يكون خاصاً بالإنسان مثلما قال الله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلقة، ثم المضغة، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح، ثم يكتب رزقه وأجله، ثم قال: وشقي أو سعيد، ويصبح كل واحد منا كُتب، وهذه الكتابة والتي قبلها كلها مرتبطة بقضية الكتابة المتعلقة باللوح المحفوظ.

التقدير الرابع: التقدير الحولي: وهذا التقدير في ليلة القدر، وهي في قول الله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] أي: أن الله سبحانه وتعالى يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من سيموت ومن سيمرض ومن كذا، ويقدر ما سيعمله في ليلة القدر في السنة التي هو فيها وجزء من السنة القادمة.

التقدير الخامس: التقدير اليومي، يقول الله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] سبحانه وتعالى.

أنواع الإرادة

ذكر العلماء أن الإرادة تنقسم إلى قسمين:

1- إرادة كونية قدرية.

2- إرادة دينية شرعية.

أما الإرادة الكونية القدرية فتتعلق بكل شيء في هذا الكون، وما من حركة ولا سكنة ولا فعل ولا عمل ولا إمراض ولا حياة ولا موت ولا غيره إلا داخل تحت الإرادة الكونية القدرية التي يجب علينا أن نؤمن بها، وقد دل عليها قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13] .. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] ويشهد لها قول الله تعالى كذلك: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] دل على أنه لا يخرج من الكون شيء أبداً عن مشيئة الله تعالى.

وهذه نسميها الإرادة الكونية القدرية، ويدخل فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولا يخرج أحد منها إطلاقاً.

وأما الإرادة الدينية الشرعية فهي المتضمنة لمحبة الله ورضاه، وهذه تتعلق بشرعه ودينه، مثل: الصلاة والزكاة والعبادات والتوحيد.. وغيره، نقول: هذه الله يريدها من العباد ديناً وشرعاً، ويستدل العلماء لها بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].. وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) هذه كلها مما يكرهها الرب سبحانه وتعالى.

ما هو الفرق بين الإرادتين؟

يفرق العلماء بين الإرادتين فيقولون:إن الإرادة الكونية القدرية تتميز:

أولاً: أنها شاملة للكون كله، فلا يخرج شيء من الكون عنها.

ثانياً: لا يلزم أن يحبها الله ويرضاها، فقد يحبها الله ويرضاها وقد لا يحبها الله ولا يرضاها، وهذه الإرادة نسميها: الكونية القدرية.

ثالثاً: الإرادة الكونية القدرية تتحقق في الكافر وفي المؤمن.

أما الدينية الشرعية فهي تتميز:

أولاً: أن الله يحبها ويرضاها.

ثانياً: لا يلزم وقوعها.

ثالثاً: أنها لا تتحقق -أي: الدينية الشرعية- إلا في المؤمن المستقيم، أما الكافر فلا تتحقق فيه الإرادة الدينية الشرعية.

مثال ذلك: إذا أراد الله سبحانه وتعالى إنزال المطر كوناً وقدراً لا بد أن يقع، لكن الإرادة الكونية الشرعية لو سئلنا جميعاً: أليس الله يريد من العباد أن يصلوا؟ هذه إرادة شرعية دينية يريدها منهم، لكن هل يلزم منهم أن يصلوا؟

لا يلزم، منهم من يصلي ومنهم من لا يصلي، والله أمرنا بالاستقامة على دينة، فهل يلزم كل الناس أن يستقيموا؟ لا، منهم من استقام ومنهم بقي على انحرافه، فلا يلزم وقوعها.

الإرادة الكونية القدرية لا يلزم أن الله يحبها ويرضها، فإن الله أراد كوناً وقدراً أن يقع الكفر، وتقع المعاصي، هل يلزم أن الله يحبها؟ لا، لكن إرادته الدينية الشرعية: الصلاة، الصيام، الاستقامة.. وغيرها يحبها الله ويرضاها من عباده، ولهذا قال الله تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].

ولهذا نجد أن بعض الطوائف غلت في هذا الباب، فنجد طائفة الجبرية أخذت بالإرادة الكونية القدرية فقط، وبهذا انحرفت ونسيت الإرادة الدينية الشرعية، وطائفة المعتزلة أخذت بالإرادة الدينية الشرعية، ونسيت الإرادة الكونية القدرية، وضلت هذه الطائفة، وكلتا الطائفتين على انحراف وضلال، لكن أهل السنة والجماعة جاءوا بالإرادتين جميعاً فآمنوا بهما، ووفقوا بينهما، وكانوا أسعد الطوائف في باب القضاء والقدر، ولهذا كانوا من أصلح الناس في هذا الأمر.

نقول للأحبة: أفعال العباد لا تخرج عن خلق الله تعالى، وهي داخلة في إرادة الله ومشيئته، ولا يخرج شيء من الناس إطلاقاً بفعله أو عمله عن هذه الإرادة أبداً، ويدل عليها من ناحية العقل ومن ناحية الشرع:

أما ناحية الشرع: فجميع الآيات الواردة في الإرادة الكونية القدرية.

وأما ناحية العقل: فنجد أن الكون ملك لله تعالى ولا يخرج شيء عن ملكه، فهل يقع في ملكه ما لا يريده ولا يحبه؟

بالنسبة لما لا يحبه قد يقع في مسألة الكفر، لكن ما لا يريده أبداً، الله هو المالك والمتصرف بهذا الكون سبحانه، ولا يقع فيه إلا ما أراده سبحانه وتعالى، سواء كانت أفعال العباد كلها اختيارية أو كانت أفعالاً نسميها جبرية جبل الإنسان عليها.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لعلنا تكلمنا في الدرس السابق عن بعض المذاهب المتعلقة بالقضاء والقدر، ووجدت من الأحبة كثرة أسئلة حول هذا الأصل العظيم الذي هو الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأقول للأحبة كما قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: رأيت أعلم الناس بالقضاء والقدر أجهلهم به، وأجهل الناس بالقضاء والقدر أكثرهم بحثاً فيه وتنقيباً، ولعل السبب في ذلك: ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قال: [إن القضاء والقدر هو سر الله في خلقه، فمن يكشف سر الله تعالى؟].

وتبقى العقول قاصرة أن تفقه أو تعلم دقائق هذا الأمر، ولكن أعطيت قواعد لابد من الإيمان بها، وهي المراتب الأربع: مرتبة العلم، والكتابة، والإرادة والمشيئة، والخلق، فإذا أقر الإنسان بها على ضوء النصوص اطمأنت نفسه ولم يجد في قلبه شيئاً من الاعتراض على أي شيء يحدث في هذا الكون من قضاء الله وقدره.

قدمت بهذا الأمر مبيناً التحذير من كثرة التنقيب والخوض في باب القضاء والقدر، ولعل الشيطان أكثر ما يقدح في نفس الإنسان من الشبه والشكوك ومن الأمور التي تزعزع مبدأ القضاء والقدر والإيمان به، ولهذا لما ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن البدع والشبه خطيرة على الإنسان، قالوا: وأشدها خطراً ما كان متعلقاً بالقضاء والقدر، خاصة أنها تتعلق بأمرٍ غيبي ولا يمكن للإنسان تفسيرها إلا إذا كان عند الإنسان قاعدة بالإيمان بالله وبرسوله وبما أخبر عن الله وعن الرسول صلى الله عليه وسلم واطمأنت نفسه لهذا الأمر.

أنطلق إلى أنواع التقدير، وأبدأ بمرتبة الكتابة التي يجب علينا الإيمان بها، والتقدير أنواعه متعددة:

التقدير الأول: التقدير الأزلي: وهو كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) ويشهد له قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) ومفهوم هذه المرتبة أن المسلم يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب كل شيء، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أي: أن هذا الأمر قد فرغ منه، وما كتب في اللوح المحفوظ لا تغيير فيه ولا محو، ولا زيادة فيه ولا نقصان.

التقدير الثاني: التقدير العمري، وذلك حين أخذ الميثاق على بني آدم: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] دل على أن هذا التقدير كان للإنسان منذ الأزل؛ قدر للإنسان ما سيعمله، ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لـعمر بن الخطاب قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً ومقصوداً لذلك: أن الله سبحانه وتعالى قدر جزءاً من ذرية آدم إلى النار، وجزءاً منهم إلى الجنة، والله عالم بأهل الجنة وما يعملون، وأهل النار وما سيعملون سبحانه وتعالى، ويسمي العلماء هذا التقدير: التقدير المتعلق بأخذ الميثاق، وإن كان بين العلماء فيه خلاف.

والإمام ابن القيم رحمه الله تطرق إلى هذه المسألة، ورجح أن قضية مسح ظهر آدم وإخراج الذرية منه إخراجاً حسياً أن النصوص ليست صريحة في إثباته، وإنما ما كان من التقدير الذي إنما يشهد تمييز الناس إلى جنة أو إلى نار، وأن هؤلاء من ذرية آدم إلى النار، وأن هؤلاء من ذريته إلى الجنة.

التقدير الثالث: الذي يكون للإنسان عند أول تخلقه، ويسميه العلماء: التقدير العمري الخاص بالإنسان -والأول: التقدير الذي يعتبر متعلقاً بالميثاق- فالتقدير الذي يكون خاصاً بالإنسان مثلما قال الله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلقة، ثم المضغة، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح، ثم يكتب رزقه وأجله، ثم قال: وشقي أو سعيد، ويصبح كل واحد منا كُتب، وهذه الكتابة والتي قبلها كلها مرتبطة بقضية الكتابة المتعلقة باللوح المحفوظ.

التقدير الرابع: التقدير الحولي: وهذا التقدير في ليلة القدر، وهي في قول الله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] أي: أن الله سبحانه وتعالى يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من سيموت ومن سيمرض ومن كذا، ويقدر ما سيعمله في ليلة القدر في السنة التي هو فيها وجزء من السنة القادمة.

التقدير الخامس: التقدير اليومي، يقول الله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] سبحانه وتعالى.

ذكر العلماء أن الإرادة تنقسم إلى قسمين:

1- إرادة كونية قدرية.

2- إرادة دينية شرعية.

أما الإرادة الكونية القدرية فتتعلق بكل شيء في هذا الكون، وما من حركة ولا سكنة ولا فعل ولا عمل ولا إمراض ولا حياة ولا موت ولا غيره إلا داخل تحت الإرادة الكونية القدرية التي يجب علينا أن نؤمن بها، وقد دل عليها قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13] .. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] ويشهد لها قول الله تعالى كذلك: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] دل على أنه لا يخرج من الكون شيء أبداً عن مشيئة الله تعالى.

وهذه نسميها الإرادة الكونية القدرية، ويدخل فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولا يخرج أحد منها إطلاقاً.

وأما الإرادة الدينية الشرعية فهي المتضمنة لمحبة الله ورضاه، وهذه تتعلق بشرعه ودينه، مثل: الصلاة والزكاة والعبادات والتوحيد.. وغيره، نقول: هذه الله يريدها من العباد ديناً وشرعاً، ويستدل العلماء لها بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].. وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) هذه كلها مما يكرهها الرب سبحانه وتعالى.

ما هو الفرق بين الإرادتين؟

يفرق العلماء بين الإرادتين فيقولون:إن الإرادة الكونية القدرية تتميز:

أولاً: أنها شاملة للكون كله، فلا يخرج شيء من الكون عنها.

ثانياً: لا يلزم أن يحبها الله ويرضاها، فقد يحبها الله ويرضاها وقد لا يحبها الله ولا يرضاها، وهذه الإرادة نسميها: الكونية القدرية.

ثالثاً: الإرادة الكونية القدرية تتحقق في الكافر وفي المؤمن.

أما الدينية الشرعية فهي تتميز:

أولاً: أن الله يحبها ويرضاها.

ثانياً: لا يلزم وقوعها.

ثالثاً: أنها لا تتحقق -أي: الدينية الشرعية- إلا في المؤمن المستقيم، أما الكافر فلا تتحقق فيه الإرادة الدينية الشرعية.

مثال ذلك: إذا أراد الله سبحانه وتعالى إنزال المطر كوناً وقدراً لا بد أن يقع، لكن الإرادة الكونية الشرعية لو سئلنا جميعاً: أليس الله يريد من العباد أن يصلوا؟ هذه إرادة شرعية دينية يريدها منهم، لكن هل يلزم منهم أن يصلوا؟

لا يلزم، منهم من يصلي ومنهم من لا يصلي، والله أمرنا بالاستقامة على دينة، فهل يلزم كل الناس أن يستقيموا؟ لا، منهم من استقام ومنهم بقي على انحرافه، فلا يلزم وقوعها.

الإرادة الكونية القدرية لا يلزم أن الله يحبها ويرضها، فإن الله أراد كوناً وقدراً أن يقع الكفر، وتقع المعاصي، هل يلزم أن الله يحبها؟ لا، لكن إرادته الدينية الشرعية: الصلاة، الصيام، الاستقامة.. وغيرها يحبها الله ويرضاها من عباده، ولهذا قال الله تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].

ولهذا نجد أن بعض الطوائف غلت في هذا الباب، فنجد طائفة الجبرية أخذت بالإرادة الكونية القدرية فقط، وبهذا انحرفت ونسيت الإرادة الدينية الشرعية، وطائفة المعتزلة أخذت بالإرادة الدينية الشرعية، ونسيت الإرادة الكونية القدرية، وضلت هذه الطائفة، وكلتا الطائفتين على انحراف وضلال، لكن أهل السنة والجماعة جاءوا بالإرادتين جميعاً فآمنوا بهما، ووفقوا بينهما، وكانوا أسعد الطوائف في باب القضاء والقدر، ولهذا كانوا من أصلح الناس في هذا الأمر.

نقول للأحبة: أفعال العباد لا تخرج عن خلق الله تعالى، وهي داخلة في إرادة الله ومشيئته، ولا يخرج شيء من الناس إطلاقاً بفعله أو عمله عن هذه الإرادة أبداً، ويدل عليها من ناحية العقل ومن ناحية الشرع:

أما ناحية الشرع: فجميع الآيات الواردة في الإرادة الكونية القدرية.

وأما ناحية العقل: فنجد أن الكون ملك لله تعالى ولا يخرج شيء عن ملكه، فهل يقع في ملكه ما لا يريده ولا يحبه؟

بالنسبة لما لا يحبه قد يقع في مسألة الكفر، لكن ما لا يريده أبداً، الله هو المالك والمتصرف بهذا الكون سبحانه، ولا يقع فيه إلا ما أراده سبحانه وتعالى، سواء كانت أفعال العباد كلها اختيارية أو كانت أفعالاً نسميها جبرية جبل الإنسان عليها.

مسألة: كثيراً ما يعرض بعض العصاة وأصحاب الفسق ويحتجون إذا نوقشوا بالاستقامة على دين الله بالقضاء والقدر، وقالوا: نحن لم يرد الله هدايتنا ولا استقامتنا، وأنتم هداكم الله، فما موقفك من هذه؟

الجواب: إن هؤلاء لا يحتاجون إلى كثير من النصوص الشرعية ولا المناقشات ولا غير ذلك، ولا تصغ إليه، بل يكفي ضرب المثال ليتضح بطلان ما هو عليه، ولهذا تجد بعض الناس عندما تقول له: لماذا لا تصلي؟

قال: سبحان الله! أنا مكتوب في بطن أمي وعندنا عقيدة شقي أو سعيد، نقول له: نعم، يقول: أنا مكتوب من أهل الشقاء وانتهى الإشكال، أو بعض الناس يقول: أنت هداك الله لماذا أنا لا يهديني؟ نستدل له بالقرآن، وسبحان الله! آية عظيمة جداً في سورة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، لما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5-6]جاءت بعدها فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:7]بدئ بالعمل أولاً، فنقول لهذا المنحرف: ائت إلى المسجد وصلِّ الصلوات، وجالس الأخيار، واحضر حلقات العلم، واحرص على الأعمال الصالحة ييسرك الله لليسرى، أما أن تجلس في محلات الخنا والمعاصي والفسق والفجور، وتنتظر الهداية إلى تنزل عليك من السماء، هذا أمر لم يجعله الله؛ إذ قد جعل الله سبحانه وتعالى من سننه الكونية أن ربط الأسباب بالمسببات، وجعلها الله سبباً، ولنذكر لهذا المسكين مثالاً بسيطاً وهو من اللطائف: ذكروا أن شيخاً لقي أحد تلاميذه وقد غاب عنه زمناً، وقد كبر سنه، سأله: هل جاءك أولاد؟ قال: والله ما رزقت بأولاد، ولكن لو دعوت الله لي لكان طيباً، فأخذ الشيخ يدعو له -وقد غاب عنه- وبعد سنة، سأله: أرزقت بأولاد؟ قال: والله ما رزقت، فسأله الشيخ: هل تزوجت أم لم تتزوج؟ قال: لا. لم أتزوج، قال: كيف تجعلني أدعو لك سنة أن يرزقك الله أولاداً وأنت ما تزوجت؟

وهذا الذي يريد الهداية أن تنزل عليه من السماء كحال من يريد أولاداً بدون زواج، هل يمكن؟

سنة من سنن الله الكونية وهي ربط الأسباب بالمسببات، وهؤلاء يعملون أغلوطات هم لا يعملون بها في كل جوانب حياتهم، قد يعمل بها في حال المعصية ولا يعمل بها في حال الطاعة.

عجباً لهؤلاء القوم! يحتج بالقضاء والقدر في معصيته، لكن إذا جاء إلى المسجد وذهب إلى مكة يطوف ويسعى، ما قال: والله كل هذا بقضاء الله وقدره، ما عندي عمل إطلاقاً وأنا مجبور، لا يمكن! لو قلت له: أنت مجبور أن تذهب الآن إلى المسجد، يقول: السلام عليكم وانتهى الإشكال يقول: أنا مجبور .. حر، وبهذا يستطيع التمييز، وهؤلاء مساكين يكيلون بمكيالين، ففي الطاعات يقول: هذا عملي وأنا الذي قدمت.

وتجد الشخص إذا بنى مسجداً أو أنفق أموالاً قال: بنينا، وعملنا، وتعبنا، وأسأل الله أن يتقبل هذا العمل وغيره، لكن في حال المعصية لا يقول: أسأل الله، إنما يقول: هذا بقضاء الله وقدره، ليس لي شيء، وهذا لا شك أنه احتجاج باطل لا شك في بطلانه.

ثم نقول لهؤلاء المساكين الذين يحتجون بالقضاء والقدر في حال المعاصي، ونضرب لهم بمثالين بسيطين:

أول مثال وهو من الأمثلة البديهية: أليس قد كتب رزقك أم لم يكتب؟

الجواب: مكتوب رزقك: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها) ما رأيكم أن نجلس هنا ولا نخرج، إن كان الله كتب لنا أن يأتي الفطور جاء، وإن كان لم يكتب في اللوح المحفوظ فليس هناك مجال، لا يمكن أن يأتي، هل يعمل به؟ أبداً، هل يمكن أن يقبله؟ لا يقبله أبداً، ولذلك إذا جاء أحدنا الظهر أول ما يدخل يدخل المطبخ يفتح الثلاجة ويأخذ شيئاً خفيفاً، يسحب الصماط يقدم يعمل يعمل، لا يمكن أن يأتيه أكل بدون أن يقدم شيئاً.. [إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة] كما قال عمر للذي جلس في المسجد يسأل أن ينزل عليه شيء.

إذاً.. فما نعمله في أمور الدنيا يجب أن نعمله لأمور الآخرة، فلماذا نعمل للدنيا ولا نعمل للآخرة، ونكيل بميزانين؟

الأمر الثاني: من الأمور التي غابت عن عقولنا الآن، وهي مثل مبحث القضاء والقدر، قضية موت أحدنا الآن، لو سئل كل واحد منا الآن سؤالاً: متى ستموت؟

ليس عندي خبر.

أي سبب ستموت به؟

ليس عندي خبر.

وعندك (100%) يقين؟

قال: نعم عندي (100%) يقين.

ومكتوب في اللوح المحفوظ السبب؟

نعم.

قلنا له: جزاك الله خيراً، مادمت تحتج بالقضاء والقدر على قضية الهداية، الخط السريع إذا جاء في الساعة الثانية عشرة ليلاً، افتح الفراش ونم وسط الخط السريع الدائري، وإن كان الله كتب موتك لا محالة ستموت، وإن كان لم يكتب الله موتك تجد السيارات يذهبن يميناً ويساراً ولا يقربنك أبداً.

عندما ينام لا يمكن أن تقر له عين، لا تأتي سيارة إلا وهو ينتظر متى تصل إليه!

إذاً.. ليس عندك يقين بهذا الشيء؟ عندي معتقد، فلماذا؟ ونحن نقول: نحن نعلم بأن الله قد كتب هذا الأمر، لكن لم يخبرنا الله أأنت شقي أم سعيد.

ثم كل واحد منا يفرق بين الأمر الاختياري والأمر الإجباري، هذا أمر يقيني عندنا، أحدنا إذ يأتي إلى المسجد لحلقة علم لا يشعر أنه يجر برقبته حتى يدخل المسجد، بل يشعر بطمأنينة يمشي مختاراً، ويستطيع الإنسان أن يمشي، ولا يقول أحد: أنا مجبور أبداً.

أضرب مثالاً بسيطاً: لو قتل أحد إنساناً، قلنا له: لماذا؟ قال: هذا أمر مكتوب، ثم جاء شخص آخر حامل السلاح قلنا له: إلى أين؟ قال: أنا سأقتل. هذا مكتوب عليه وأنا مثله مكتوب علي وهذا لا يمكن أبداً، لا يعلم أبداً بهذا الشيء، يستطيع الرجوع مباشرة، ولو قلت الآن لأي شخص: أنت الآن جئت إلى الدورة مجبوراً؟ قال: لا مجبور ولا أي شيء، السلام عليكم ولا درس ولا شيء.. أنا حر، ولهذا يشعر الإنسان بأفعاله في الطاعات، وفي المعاصي أنه ليس مجبوراً أبداً، لا يشعر بجبر، يستطيع الترك ويستطيع العمل.

فمثلاً: بعض الفساق تمر المرأة مثلاً وقد تجملت، يقول: الحمد لله! هذا رزق جاء به الله، ما جئت به أنا؛ أنا جالس أنظر وينتهي الإشكال، هل يمكن؟

لا يمكن أبداً وهو يشعر بالاختيار، والدليل على ذلك أنه يمشي من هنا، ويمشي من الجهة الثانية، وينظر ويعمل إلى أن يقحم نفسه في المعصية، ليس هناك جبر أبداً، مع علمنا أن كل شيء قد كتب في اللوح المحفوظ.

أردت أن أضرب هذه الأمثلة لنقطع دابر هؤلاء الذين يحتجون بالقضاء والقدر في معاصيهم.

الاحتجاج بالقضاء والقدر إنما يكون على المصائب والآلام لا المعايب والآثام

يذكر أهل السنة والجماعة قاعدة عظيمة جداً، وهي في مبحث القضاء والقدر: إن القضاء والقدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعايب، ومن الأمثلة على ذلك: نحن نسير في طريق وانقلبت السيارة أو صدمت، نأتي للشخص ونقول: الحمد لله على قضاء الله وقدره، لله ما أخذ، الحمد لله أنه ما جعلها أعظم، نحتج بالقضاء والقدر.

شخص الآن مشى وضرب شخصاً وقتله، لا نأتي إلى القاتل ونقول: الحمد لله على قضاء الله وقدره، هذا أمر مكتوب عليك! بل نعاتب عليه ونعنف عليه، ونسبه ونشتمه: أما تخشى الله.. أما تتقيه.. أما تعلم مغبة قتل المسلم وأثره؟ لا نحتج له بالقضاء والقدر، مع أن هذا الأمر واقع بقضاء الله وقدره، ولذلك قال العلماء: يحتج بالقضاء والقدر في باب المصائب لا في باب المعايب.

ولعلي أذكر مثالاً وأنطلق للرد على أهل المعاصي، يمثل العلماء له بقضية القتل: فمثلاً: صديق لك قتله شخص، حين نذهب إلى أهل المقتول أول ما ندخل عليهم نقول: الحمد الله على قضاء الله وقدره، هذا أمر مكتوب عليه، ونسليهم، وحين نذهب إلى القاتل لا نأخذ هذا القاتل؛ بل نسبه ونشتمه، أما تعلم أنك ستقتل، أما تعلم بالآيات الواردة في تحريم القتل، أما تعلم أن هذا من كبائر الذنوب، أما تخشى الله؟ نعنف عليه، أما أولئك فنسليهم، ونسريهم، ونسحب من نفوسهم الحزن، وهذا هو مصداق: يحتج بالقضاء والقدر في باب المصائب دون باب المعايب، فإنه لا يحتج به في باب قضاء الله وقدره.

الرد على الجبرية في الاحتجاج بالمعاصي

ننتقل إلى من يحتجون بالمعاصي، أول رد عليهم: أن الله سبحانه وتعالى أضاف العمل للعبد، وإضافة العمل للعبد وجعْلُه كسباً له يدل على أنه هو المعاقب عليه، ولهذا قال: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [غافر:17].. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32].. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61].. فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] حثك بأن تعمل وتجتهد في هذا الأمر.

الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه الله فوق طاقته، الصلاة فوق الطاقة، الصيام فوق الطاقة، الزكاة فوق الطاقة؟ أبداً، كلها في قدرة الإنسان، ولذلك إذا كلفك الله ما تطيق تستحق أن تحاسب على الخير وتحاسب على الشر، ولهذا قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ونقصد أن الإنسان مكلف على قدر طاقته، أي أنه ليس مجبوراً على أي عمل يعمله، لا صلاة ولا صيام ولا غيره، والدليل على ذلك: أيام الإجازات أناس ينطلقون لطاعة الله، وأناس ينطلقون إلى المعاصي، وكل واحد منهم مختار لهذا الأمر، ولكن شتان بين مشرق ومغرب!

الأمر الثالث: أن كل واحد منا يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الجبري، فالفعل الاختياري يستطيع الإنسان أن يتخلص منه، وأما الفعلي الجبري فلا يستطيع الإنسان التخلص منه، هل يستطيع واحد منا أن يوقف كبده أو تنفسه؟ لا يستطيع، لكن الفعل الاختياري: تمشي إلى حلقة مسجد، أو حلقة علم، أو إلى زيارة إخوانك في الله .. إلى غير ذلك، أما الأمر المجبور عليه الإنسان فلا تستطيع.

ولذلك فالأمر الجبري لا مجال للحساب ولا للعقاب عليه أبداً، وحق الإثابة ليس عليه شيء كأن يكون طويلاً جداً، فيعطى أجوراً أكثر والقصير لا يعطى، ليس له علاقة، لون الإنسان .. موطنه .. سكنه ليس لها ارتباط.

الأمر الرابع: أن العاصي قبل أن يقدم على المعصية لا يدري ما قدر الله له، إنسان انطلق ليزني، قلنا له: إلى أين؟ قال: أنا أريد أن أنظر القضاء والقدر إلى ماذا ينتهي بي، إلى أين؟ بدأ بنظرة، ثم انطلق إلى مكان المعصية، ينتظر القضاء والقدر! من أعلمك بما قضاه الله وقدره عليك؟ لكن الله أمرك أن تبتعد عن المعصية، ولذلك نقول له: اتق الله فلا تفعل هذا الأمر، حتى يكون رادعاً له به، ولهذا حري بالمسلم أن يسلك الطريق الصحيح، ويقول بعد ذلك: هذا ما قُدِّر لي.

الأمر الخامس: أن الله أرسل الرسل لقطع الحجة على العباد: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]ولو كان القدر حجة للعاصي ما انقطعت الحجة بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولهذا فإننا نقول لمن يحتج بالقضاء والقدر على عدم الحاجة للعمل: إنه لا ينبغي أبداً أن نحتج بالقضاء والقدر فنكسل عن العمل سواء في طاعة الله أو في الأعمال الدنيوية، بل الواجب علينا أن نعمل، قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] كله أمر بالعمل والاجتهاد فيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) كل هذا أمر لنا بأن نسير بالتسليم لقضاء الله وقدره والعمل بطاعة الله.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عمر سعود العيد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الأول) 2466 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن) 2413 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس) 2367 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس عشر) 2224 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السادس عشر) 2208 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني عشر) 2102 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع) 2086 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع) 2070 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن عشر) 2007 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الحادي عشر) 1941 استماع