مآخذ على طلبة العلم


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

سنتكلم إن شاء الله عن الآفات التي قد تصيب طالب العلم، وقبل الدخول فيها أشير إلى أن الآفات التي تعترض المسلم كثيرة، وهي تعترض طالب العلم وغيره، فالحديث عن هذه الآفات والعيوب والمداخل ليس من شأن هذه الدروس، بل له ميدان آخر، وإنما سوف يقتصر الحديث إن شاء الله تعالى في هذه الدروس على ذكر الآفات والأخطاء الذي يقع فيها طالب العلم، وخاصة مما هو شائع بين طلاب العلم في هذا العصر، وربما في عصور كثيرة، لكن كل واحد يدرك ما يعايشه أكثر مما يدرك غيره.

فسيكون التركيز إن شاء الله على الآفات والمعايب الموجودة فينا إن صح أننا طلاب علم.

ثم إنه حتى هذه العيوب يصعب حصرها والحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي بأن أشير في مقدمة هذه الدروس إلى بعض الكتب المهمة التي تحدث فيها مصنفوها عن هذه المثالب والمعايب، وأتوا فيها بالعجب العجاب.

وأنصح نفسي وإخواني من الطلبة أن يحرصوا على مراجعة هذه الكتب والاتصال الدائم بها، فمن هذه الكتب كتاب العزلة للإمام الخطابي، ومنها كتب الإمام الغزالي وخاصة كتاب إحياء علوم الدين في الجزء الأول منه تحدث عن آفات طلب العلم، ومنها كتاب تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لـابن جماعة وهو يذكر الآداب ويذكر مع كل أدب جوانب من الإخلال بهذا الأدب يصح أن تعتبر من الآفات.

ومنها ما كتبه الإمام ابن القيم في عدد من كتبه من كتابات متفرقة في زاد المعاد مثلاً، وفي إغاثة اللهفان، وفي مدارج السالكين، بل وفي إعلام الموقعين وغيرها، ومنها ما كتبه الإمام الذهبي في رسالة صغيرة له نسبت إليه وبعضهم يشكك في نسبتها، لكن الظاهر أن نسبتها إليه صحيحه واسمها بيان زغل العلم، وكذلك ما كتبه الإمام ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس وهو كتاب مهم جداً ومفيد لكل مسلم ولطالب العلم خاصة. وكذلك في كتابه صيد الخاطر في مواضع متفرقة منه، وكذلك ما كتبه الإمام ابن حزم في كتاب الأخلاق والسير أومداواة النفوس، وأخيراً ما كتبه ابن السبكي في كتاب له مطبوع اسمه معيد النعم ومبيد النقم، وقد استفاد كثيراً مما كتبه من قبله كـالغزالي وغيره. وعموماً فالكتب التي ألفت في آداب العالم والمتعلم كـجامع بيان العلم وفضله وغيرها تحدثت عن هذا الموضوع، وسأقسم الحديث عن هذا الموضوع إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: الحديث في الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه.

والثاني: في علاقته مع الناس.

والثالث: في تعلمه وتعليمه.

والرابع: في أمور متفرقة.

ولنبدأ بالحديث عن الآفات التي تعترض الطالب في سيره إلى الله -جل وعلا- ولا بد من الاختصار لطول الموضوع، وضيق المجال، وقد سبق أن القصد من العلم أصلاً هو إصلاح الظاهر والباطن، وإصلاح الباطن يترتب عليه إصلاح الظاهر، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب}.

الفقيه هو العابد الخائف من الله

يجب على طالب العلم أن يحرص على صلاح قلبه، وتوجهه إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكون مقبلاً على الله والدار الآخرة معرضاً عن الدنيا وزخرفها، ولذلك كان السلف يعتبرون أن الفقيه هو العابد الزاهد المقبل على الله.

جاء فرقد السبخي إلى الحسن البصري فسأله عن مسألة فأفتاه فيها، فقال له فرقد: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء، فقال له الحسن البصري: [[ثكلتك أمك، وهل رأيت في حياتك فقيهاً قط؟ إنما الفقيه المعرض عن الدنيا المقبل على الآخرة، الخائف من الله، الكاف عن أعراض الناس، المستعد للقاء الله...]] إلى آخر الصفات التي ذكرها رحمه الله.

وهذا المعنى قد أخذه الحسن وغيره من السلف من كتاب الله تعالى فإنهم كانوا يعدون العلم الخشية، انظر إلى قول الله عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر:13] فوصفهم بقلة الخشية من الله، وكثرة الخشية من المخلوقين لقلة فقههم وعلمهم، وكلما زاد فقه المرء زادت خشيته لله، فطالب العلم يجب أن يظهر أثر العلم في سمته، وهديه، وإقباله على الله عز وجل.

من المعايب الانشغال بدقيق العلم على حساب القضايا المهمة

وكثير من طلاب العلم في هذا العصر، بل ومن قبل يلامون ويذمون بضعف عبادتهم، وانشغالهم بكثير من المسائل الفقهية الدقيقة التي قد لا يحتاجون هم إليها، وقد لا يحتاجها الناس قروناً عديدة، وربما ضيع الواحد منهم عمره، وسافر، وجمع الكتب، وقرأ الأجزاء من أجل هذه المسألة.

وفي مقابل ذلك قد يخل بقضية من القضايا المهمة في حياته، ويذكر الإمام السبكي في كتاب معيد النعم أن بعض طلبة العلم المعرضين عن القيام بالواجبات الدينية، وسلوك طريق الآخرة يحتجون بحجج، فإذا قلت للواحد منهم مثلاً: قد حانت الصلاة، قام وصلى أربعاً لا يذكر الله -تعالى- فيها إلا قليلا، فإذا قلت له: هل تنفلت بعد صلاة الظهر؟ قال لك: إن الإمام الشافعي يرى أن الاشتغال بالعلم، أولى من الاشتغال بنوافل العبادات، وبناءً على ذلك ترك الراتبة ليشتغل بالعلم، فإذا سألته عن نسيانه للقرآن قال لك: إن نسيان القرآن لم يعده أحداً من أهل العلم كبيرة من كبائر الذنوب، إلا صاحب العدة أو العمدة وهما كتابان في فروع الفقه الشافعي، أحدهما لـعبد الرحمن بن الحسين الطبري، والآخر لـأبي بكر الشاشي.

وكذلك قال: أنا لم أنس القرآن كله فأنا أحفظ الفاتحة، ولعله أيضاً يحفظ معها قصار السور، ثم ما الدليل على أن هذا الأمر محرم؟ فتخلى عن حفظه للقرآن بهذه الحجج، فإذا سألته هل خشعت في صلاتك؟ قال لك: إن الخشوع في الصلاة ليس من شرائطها ولا من أركانها، وهكذا اتخذ هذا الإنسان ما يعلمه من بعض الأحكام مطية إلى التخلي عن كثير من الأشياء التي لا بد منها لطالب العلم.

ولذلك عقب السبكي رحمه الله على هذا بقوله: " وهذه كلمة حق أريد بها باطل " ثم استطرد الإمام السبكي في هذه المسألة، وذكر أن كثيراً من الطلاب قد يريد أن يقول في الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وهذه الكلمة فيها من التوكل، والإقبال على الله، وإفراده بالعبادة وبالاستعانة ما فيها، فربما يسبق إلى لسانه كلمة أخرى من كلمات الفروع الفقهية التي طالما اشتغل بها.

قال: وبلغنا أن الإمام الغزالي صلى يوماً بأخيه أحمد إماماً، وفي أثناء الصلاة انفرد أخوه عنه، وقطع الاقتداء به، وصلى لوحده، فلما سلم من الصلاة سأله الإمام الغزالي لم فعلت هذا؟ فقال: لأنك في صلاتك متلطخ بدم الحيض، ففكر الغزالي ساعة، ثم تذكر أنه في أثناء الصلاة قد عرضت له فعلاً مسألة من مسائل الحيض، وأنه فكر فيها شيئاً من الوقت وهو يصلي!!

ونقول: أولاً هذه مستبعدة من جهة أخيه، لأنه لا يعلم ما في السرائر إلا الله عز وجل، وهاهو الغزالي نفسه لم يتذكر أنه كان يفكر في هذا الأمر إلا بعد أن أدار ذهنه فما بالك بغيره، فهذا بعيد جداً من هذه الناحية، وبعيد أيضاً من الناحية الفقهية، لأنه ليس من حق المأموم أن يقطع ائتمامه بالإمام إلا لضرورة، أما أن يقطع ائتمامه به لعارض غير صحيح فهذا لا يجوز، فضلاً عن أن يكون قد سبق إلى ذهنه أنه قد يكون فكر في أمر من هذه الأمور، وإنما سقت هذه الحادثة؛ لأن من المفيد أن يتعلم ويتدرب الطالب على أن يقرأ في هذه الكتب بوعي، ولا يأخذ كل ما يقرأ مأخذ القبول والتسليم.

وما يشكوه العلماء المتقدمون هو من الأسباب التي تقلل من تأثر الطالب بشيخه، فلو نظرت في العلماء الذين أثروا في تلاميذهم لوجدت أنه كان عندهم زهد ونسك وعباده، وإقبال على الله عز وجل، وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، بعد أن تحدث عن شيوخه الذين تلقى عنهم العلم، وعدد بعضهم، وأشار إلى أن بعضهم كانوا يشتغلون ببعض ما لا يسع العالم الاشتغال به، ذكر أن من أكثرهم أثراً عليه عالم يقال له عبد الوهاب الأنماطي، وقال: كان هذا العالم زاهداً مقبلاً على الله عز وجل معرضاً عن الدنيا، قال: وكنت اقرأ عليه أحاديث في الرقائق والوعظ فيبكي طويلاً حتى لا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء، قال: وكنت وأنا طفل صغير أتأثر حين أرى شيخي وهو يبكي خوفاً من الله عز وجل فتركت هذه أثرها في نفسي، وعلمت بعد أن التأثر بالحال أكثر من التأثر بالمقال، يعني: أن التأثر بالقدوة الحسنة، أكثر من التأثر بالنصيحة.

وهكذا غيره من العلماء كان تأثرهم بأشياخهم الذين صدقوا مع الله، ولم يكن تعلمهم ولا تعليمهم من أجل الدنيا.

والمطلوب من طالب العلم أن ينتبه إلى نفسه، ويحرص على إصلاحها، وعلى الحرص على التعبد وتليين قلبه بالقرب من الله عز وجل، وليس المعنى أننا نطالب كل واحد منا، أن يكون كعباد الصحابة كـعبد الله بن عمرو بن العاص مثلاً، أو كعباد التابعين كـالحسن البصري، أو كـالفضيل بن عياض، أو كفلان وفلان ممن اشتهروا بالزهد والعبادة، وإن كان هذا المطلب نفيساً وعزيزاً، ويمكن أن يصل إليه الإنسان بالجد والاجتهاد، لكن هناك مستوى عام، ينبغي لكل طالب علم ألاَّ يرضى لنفسه أن ينـزل عنه، وإذا انحط عنه فيجب عليه أن يعيد النظر في نفسه ويحاسبها، قبل أن يبغته الأجل وهو على حال لا ترضي.

الحد الأدنى المطلوب من طالب العلم في عبادته

وألخص هذه الأشياء المطلوبة من طالب العلم في أربعة أمور:

الأمر الأول: وهو القيام بأداء ما افترضه الله عليه، من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من الفروض وكذلك صلاة الجماعة، وخاصة صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر فيصل يدل على إيمان العبد أو ضعف إيمانه، وفي حديث أنس الذي رواه ابن حبان قال: [[كنا إذا افتقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]].

الأمر الثاني: أن يقوم بقدر من النوافل وهي كالسنن الرواتب والوتر وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يكون له وردٌ من قراءة القرآن لا يتركه في جميع الظروف، وأن يكون له وردٌ من الأذكار في الصباح والمساء وفي تقلبات الأحوال وإن قل، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل.

الأمر الثالث: أن يحرص على تحقيق المعنى الذي شرعت من أجله هذه العبادات، فإن من المعلوم أن الله عز وجل لم يشرع هذه العبادات ليكلفنا أو ليعذبنا، فإن الله غني عن تعذيبنا، إنما شرعها لتهذيبنا، وإصلاح نفوسنا وسرائرنا، فيحرص العبد على أن يؤدي هذه الأشياء مع مجاهدة نفسه باستحضار ذهن، وحضور قلب، واحتساب، وصلاح نية.

الأمر الرابع: أن يجتنب المحارم ما استطاع، ويحفظ نفسه من قول الزور والغيبة والنميمة، وأكل الحرام، وما أشبه ذلك من المحرمات المعلوم تحريمها، فيحرص على تجنبها والبعد عنها.

هذه أربعة مطالب لا بد منها لطالب العلم حتى يحقق قدراً من سيره إلى الله تبارك وتعالى، وإذا أخل الطالب بهذه الأشياء فيجب عليه أن يبكي على نفسه، ويقول مع القائل:

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها     لنفسي من نفسي عن الناس شاغل

ويتذكر الكلمة التي قالها الإمام ابن الجوزي رحمه الله قال: إن طالب العلم إذا لم يرد وجه الله ويعبد الله بهذا العلم، فهو مسكين مسكين، لأنه خسر هذه الدنيا فلم يتمتع بلذاتها وزخارفها كما تمتع غيره من الفساق والمنحرفين، حيث كان مشغولاً بطلب العلم وتحصيله، ثم يقبل على الله عز وجل فيحرم من لذات الآخرة؛ لأنه لم يسع لها ولم يطلبها، ويقبل على الله عز وجل أصغر ما كان والحجة عليه أقوى ما كانت، فالحجة على العالم ليست كالحجة على الجاهل.

هذا وأسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الإقبال عليه، واللهج بذكره، وأن يجعل ما نتعلمه من القرآن والسنة قربى وزلفى إليه في الدار الآخرة، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ويجعلنا للمتقين إماماً، في الأقوال والأفعال والعلم والعبادة، وكل خير وألاَّ نكون ممن علمه حجة عليه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآلة وصحبه أجمعين.

يجب على طالب العلم أن يحرص على صلاح قلبه، وتوجهه إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكون مقبلاً على الله والدار الآخرة معرضاً عن الدنيا وزخرفها، ولذلك كان السلف يعتبرون أن الفقيه هو العابد الزاهد المقبل على الله.

جاء فرقد السبخي إلى الحسن البصري فسأله عن مسألة فأفتاه فيها، فقال له فرقد: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء، فقال له الحسن البصري: [[ثكلتك أمك، وهل رأيت في حياتك فقيهاً قط؟ إنما الفقيه المعرض عن الدنيا المقبل على الآخرة، الخائف من الله، الكاف عن أعراض الناس، المستعد للقاء الله...]] إلى آخر الصفات التي ذكرها رحمه الله.

وهذا المعنى قد أخذه الحسن وغيره من السلف من كتاب الله تعالى فإنهم كانوا يعدون العلم الخشية، انظر إلى قول الله عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر:13] فوصفهم بقلة الخشية من الله، وكثرة الخشية من المخلوقين لقلة فقههم وعلمهم، وكلما زاد فقه المرء زادت خشيته لله، فطالب العلم يجب أن يظهر أثر العلم في سمته، وهديه، وإقباله على الله عز وجل.

وكثير من طلاب العلم في هذا العصر، بل ومن قبل يلامون ويذمون بضعف عبادتهم، وانشغالهم بكثير من المسائل الفقهية الدقيقة التي قد لا يحتاجون هم إليها، وقد لا يحتاجها الناس قروناً عديدة، وربما ضيع الواحد منهم عمره، وسافر، وجمع الكتب، وقرأ الأجزاء من أجل هذه المسألة.

وفي مقابل ذلك قد يخل بقضية من القضايا المهمة في حياته، ويذكر الإمام السبكي في كتاب معيد النعم أن بعض طلبة العلم المعرضين عن القيام بالواجبات الدينية، وسلوك طريق الآخرة يحتجون بحجج، فإذا قلت للواحد منهم مثلاً: قد حانت الصلاة، قام وصلى أربعاً لا يذكر الله -تعالى- فيها إلا قليلا، فإذا قلت له: هل تنفلت بعد صلاة الظهر؟ قال لك: إن الإمام الشافعي يرى أن الاشتغال بالعلم، أولى من الاشتغال بنوافل العبادات، وبناءً على ذلك ترك الراتبة ليشتغل بالعلم، فإذا سألته عن نسيانه للقرآن قال لك: إن نسيان القرآن لم يعده أحداً من أهل العلم كبيرة من كبائر الذنوب، إلا صاحب العدة أو العمدة وهما كتابان في فروع الفقه الشافعي، أحدهما لـعبد الرحمن بن الحسين الطبري، والآخر لـأبي بكر الشاشي.

وكذلك قال: أنا لم أنس القرآن كله فأنا أحفظ الفاتحة، ولعله أيضاً يحفظ معها قصار السور، ثم ما الدليل على أن هذا الأمر محرم؟ فتخلى عن حفظه للقرآن بهذه الحجج، فإذا سألته هل خشعت في صلاتك؟ قال لك: إن الخشوع في الصلاة ليس من شرائطها ولا من أركانها، وهكذا اتخذ هذا الإنسان ما يعلمه من بعض الأحكام مطية إلى التخلي عن كثير من الأشياء التي لا بد منها لطالب العلم.

ولذلك عقب السبكي رحمه الله على هذا بقوله: " وهذه كلمة حق أريد بها باطل " ثم استطرد الإمام السبكي في هذه المسألة، وذكر أن كثيراً من الطلاب قد يريد أن يقول في الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وهذه الكلمة فيها من التوكل، والإقبال على الله، وإفراده بالعبادة وبالاستعانة ما فيها، فربما يسبق إلى لسانه كلمة أخرى من كلمات الفروع الفقهية التي طالما اشتغل بها.

قال: وبلغنا أن الإمام الغزالي صلى يوماً بأخيه أحمد إماماً، وفي أثناء الصلاة انفرد أخوه عنه، وقطع الاقتداء به، وصلى لوحده، فلما سلم من الصلاة سأله الإمام الغزالي لم فعلت هذا؟ فقال: لأنك في صلاتك متلطخ بدم الحيض، ففكر الغزالي ساعة، ثم تذكر أنه في أثناء الصلاة قد عرضت له فعلاً مسألة من مسائل الحيض، وأنه فكر فيها شيئاً من الوقت وهو يصلي!!

ونقول: أولاً هذه مستبعدة من جهة أخيه، لأنه لا يعلم ما في السرائر إلا الله عز وجل، وهاهو الغزالي نفسه لم يتذكر أنه كان يفكر في هذا الأمر إلا بعد أن أدار ذهنه فما بالك بغيره، فهذا بعيد جداً من هذه الناحية، وبعيد أيضاً من الناحية الفقهية، لأنه ليس من حق المأموم أن يقطع ائتمامه بالإمام إلا لضرورة، أما أن يقطع ائتمامه به لعارض غير صحيح فهذا لا يجوز، فضلاً عن أن يكون قد سبق إلى ذهنه أنه قد يكون فكر في أمر من هذه الأمور، وإنما سقت هذه الحادثة؛ لأن من المفيد أن يتعلم ويتدرب الطالب على أن يقرأ في هذه الكتب بوعي، ولا يأخذ كل ما يقرأ مأخذ القبول والتسليم.

وما يشكوه العلماء المتقدمون هو من الأسباب التي تقلل من تأثر الطالب بشيخه، فلو نظرت في العلماء الذين أثروا في تلاميذهم لوجدت أنه كان عندهم زهد ونسك وعباده، وإقبال على الله عز وجل، وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، بعد أن تحدث عن شيوخه الذين تلقى عنهم العلم، وعدد بعضهم، وأشار إلى أن بعضهم كانوا يشتغلون ببعض ما لا يسع العالم الاشتغال به، ذكر أن من أكثرهم أثراً عليه عالم يقال له عبد الوهاب الأنماطي، وقال: كان هذا العالم زاهداً مقبلاً على الله عز وجل معرضاً عن الدنيا، قال: وكنت اقرأ عليه أحاديث في الرقائق والوعظ فيبكي طويلاً حتى لا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء، قال: وكنت وأنا طفل صغير أتأثر حين أرى شيخي وهو يبكي خوفاً من الله عز وجل فتركت هذه أثرها في نفسي، وعلمت بعد أن التأثر بالحال أكثر من التأثر بالمقال، يعني: أن التأثر بالقدوة الحسنة، أكثر من التأثر بالنصيحة.

وهكذا غيره من العلماء كان تأثرهم بأشياخهم الذين صدقوا مع الله، ولم يكن تعلمهم ولا تعليمهم من أجل الدنيا.

والمطلوب من طالب العلم أن ينتبه إلى نفسه، ويحرص على إصلاحها، وعلى الحرص على التعبد وتليين قلبه بالقرب من الله عز وجل، وليس المعنى أننا نطالب كل واحد منا، أن يكون كعباد الصحابة كـعبد الله بن عمرو بن العاص مثلاً، أو كعباد التابعين كـالحسن البصري، أو كـالفضيل بن عياض، أو كفلان وفلان ممن اشتهروا بالزهد والعبادة، وإن كان هذا المطلب نفيساً وعزيزاً، ويمكن أن يصل إليه الإنسان بالجد والاجتهاد، لكن هناك مستوى عام، ينبغي لكل طالب علم ألاَّ يرضى لنفسه أن ينـزل عنه، وإذا انحط عنه فيجب عليه أن يعيد النظر في نفسه ويحاسبها، قبل أن يبغته الأجل وهو على حال لا ترضي.

وألخص هذه الأشياء المطلوبة من طالب العلم في أربعة أمور:

الأمر الأول: وهو القيام بأداء ما افترضه الله عليه، من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من الفروض وكذلك صلاة الجماعة، وخاصة صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر فيصل يدل على إيمان العبد أو ضعف إيمانه، وفي حديث أنس الذي رواه ابن حبان قال: [[كنا إذا افتقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]].

الأمر الثاني: أن يقوم بقدر من النوافل وهي كالسنن الرواتب والوتر وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يكون له وردٌ من قراءة القرآن لا يتركه في جميع الظروف، وأن يكون له وردٌ من الأذكار في الصباح والمساء وفي تقلبات الأحوال وإن قل، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل.

الأمر الثالث: أن يحرص على تحقيق المعنى الذي شرعت من أجله هذه العبادات، فإن من المعلوم أن الله عز وجل لم يشرع هذه العبادات ليكلفنا أو ليعذبنا، فإن الله غني عن تعذيبنا، إنما شرعها لتهذيبنا، وإصلاح نفوسنا وسرائرنا، فيحرص العبد على أن يؤدي هذه الأشياء مع مجاهدة نفسه باستحضار ذهن، وحضور قلب، واحتساب، وصلاح نية.

الأمر الرابع: أن يجتنب المحارم ما استطاع، ويحفظ نفسه من قول الزور والغيبة والنميمة، وأكل الحرام، وما أشبه ذلك من المحرمات المعلوم تحريمها، فيحرص على تجنبها والبعد عنها.

هذه أربعة مطالب لا بد منها لطالب العلم حتى يحقق قدراً من سيره إلى الله تبارك وتعالى، وإذا أخل الطالب بهذه الأشياء فيجب عليه أن يبكي على نفسه، ويقول مع القائل:

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها     لنفسي من نفسي عن الناس شاغل

ويتذكر الكلمة التي قالها الإمام ابن الجوزي رحمه الله قال: إن طالب العلم إذا لم يرد وجه الله ويعبد الله بهذا العلم، فهو مسكين مسكين، لأنه خسر هذه الدنيا فلم يتمتع بلذاتها وزخارفها كما تمتع غيره من الفساق والمنحرفين، حيث كان مشغولاً بطلب العلم وتحصيله، ثم يقبل على الله عز وجل فيحرم من لذات الآخرة؛ لأنه لم يسع لها ولم يطلبها، ويقبل على الله عز وجل أصغر ما كان والحجة عليه أقوى ما كانت، فالحجة على العالم ليست كالحجة على الجاهل.

هذا وأسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الإقبال عليه، واللهج بذكره، وأن يجعل ما نتعلمه من القرآن والسنة قربى وزلفى إليه في الدار الآخرة، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ويجعلنا للمتقين إماماً، في الأقوال والأفعال والعلم والعبادة، وكل خير وألاَّ نكون ممن علمه حجة عليه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآلة وصحبه أجمعين.

الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين، آمين يا رب العالمين.

أيها الإخوة: في هذا الأسبوع والأسابيع القادمة وقد تستغرق إلى نهاية شهر شعبان، يكون الحديث إن شاء الله، عن بعض مثالب ومآخذ على الطالب وعلاقته بالمجتمع من حوله، وسأذكر بعض الملاحظات بدون ترتيب.

العزلة عن الواقع

فمن الملاحظات على كثير من طلاب العلم في هذا العصر، أنهم يعيشون عزلة عن الواقع الذي من حولهم؛ وذلك لأن طلب العلم له لذة يدركها من جربها.

فطالب العلم إذا أكثر من البحث والمراجعة والقراءة؛ يصبح عنده تلذذ بالحصول على المعلومات، وإذا أشكل عليه مسألة من المسائل وبحث ولم نجدها، ازداد لهفه وشوقه إلى معرفتها، فإذا عثر عليها أصبح كأنه عثر على كنـز ثمين، وهذه اللذة عامة في العلوم الشرعية وغيرها، أي أنها قضية مغروزة عند المسلم، لكن قد يزيد طالب العلم الشرعي إذا حسنت نيته بأنه يفرح بمعرفته لحكم شرعي، يحتاج إلى أن يعرفه ويعرّفه غيره.

فهذه اللذة من جهة، والراحة التي يجدها طالب العلم في التعامل مع الكتب، كما تعرفون الشاعر الذي يتغزل بقراءة الكتب ومعايشتها يقول:

لنا جلساء لا يمل حديثهم     ألباء مأمونون غيباً ومشهداً

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ………
إلى آخر ما قال.

وأبيات كثيرة منها:

أعز مكان في الدنا سرج سابح     وخير جليس في الزمان كتاب

أبيات كثيرة يتمدح فيها العلماء بالكتب والقراءة؛ لأن الناس قد يتضايقون من معاملة بعضهم لبعض، وكون فلان أخطأ عليك، وفلان أساء، وفلان قال فيك كذا، وفلان كذا، أما الكتب فهي صماء خذ ما شئت منها ودع ما شئت، فالإنسان إذا تضايق من واقعة لجأ إلى هذه الكتب، وبدأ يتعامل معها، لسهولة وراحة التعامل معها، كما أنه ليس في ذهاب ولا إياب ولا كلفه ولا مشقة، ولذلك ينجر كثير من الطلاب وراء هذه اللذة، ووراء هذه الراحة، ويشتغلون بالطلب والقراءة، وشيئاً فشيئاً يفرضون على أنفسهم طوقاً من العزلة عن الواقع.

حتى يصح أن يوصف بعض طلاب العلم في هذا العصر، بأنهم ممن يعيشون في أبراج عاجية، كما كان الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية، فـالفلاسفة كانوا يعيشون في بروج، أي في أماكنهم في مكتباتهم والناس كانوا يعيشون في عذاب، من تسلط طغاة، ومن مشكلات قائمة فيما بينهم، وهم مشغولون بدراسة ما يسمى بالمدنية الفاضلة، فالفيلسوف مشغول يصور تصويراً خيالياً مدينة فاضلة فيها كمال مطلق من كل ناحية، والناس يعيشون في عذاب في واقعهم فليس له علاقة بهم، فقد يصل الحال ببعض الطلاب إلى هذا الحال، للأسباب السابقة.

وربما يفتخر بعض الأحيان كثير من طلاب العلم الشرعي، بأنهم يجهلون هذا الواقع، ويجهلون ما يجري في حياة الناس، وما جد في هذه الحياة من أمور، وفي هذا العصر يصح أن نقول: إنه حصل في هذا العصر تغير تام في كثير من مجالات الحياة، لم يعهد الناس مثله، تفجر في المعلومات، وفي الحوادث الجديدة، والابتكارات، والعلوم والصناعات، وأمور لا عهد للناس بها.

ومن جهة أخرى في هذا العصر جاءت أمواج من الفتن والانحرافات الفكرية والخلقية التي غزت واقع المسلمين، فكثير من طلاب العلم قد تأتيه بمصطلح ربما يعرفه عامة الناس في هذا العصر، فيفتخر بأنه لا يعرف هذا الاصطلاح، لأن معنى عدم معرفتي بهذا الاصطلاح أنني ممن هم فوق هذا الواقع! وممن هم بعيدون عنه، ومشغولون بما هو أهم، فأنا أفتخر بأني أسأل عن هذا الأمر، وهذا واقع، وأحياناً هو من تلبيس إبليس على الإنسان، كما قد يفتخر الإنسان بأنه لا يعرف الخطأ الفلاني.

وأمثل بمثال واقعي، وهو كثيراً ما تجري -على سبيل المثال- مباريات رياضية طويلة عريضة تأخذ من أوقات الناس وأعمارهم وعقولهم ونظراتهم، ويحدث فيها ما الله به عليم، الله المستعان! فتجد كثيراً من طلاب العلم وقد يكون كثير منا منهم، قد يفتخر بأنه لا يعرف هذه الأشياء ولا يدري عنها شيئاً، والواقع أن انعزال الإنسان عن واقعه ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، بل إن طالب العلم المحقق لعلمه يحرص على أن ينـزل بعلمه في واقع الحياة.

مسألة من الشرع والدين، فتتعلمها، وتعمل بها وتعلمها غيرك وتدعو إليها، وتنكر ما خالفها، خيراً من أن تكون مليئاً بعلوم نظرية مجردة لا تفيد في واقع الناس شيئاً، لأن شرف العلم هو أن يدعو إلى العمل والمعرفة، فلماذا يشتغل طالب العلم في كثير من الأحيان بقضايا جزئية جداً في فروع العلم، وربما يتخصص فيها، ويكتب رسائل عليا في هذه القضية الجزئية التي -والله أعلم- قد لا يحتاج إليها الناس إلى قيام الساعة! ويخفى عليه ويتجاهل قضايا ملحة في واقع الناس، وفي واقع المسلمين اليوم.

فمن الملاحظات على كثير من طلاب العلم في هذا العصر، أنهم يعيشون عزلة عن الواقع الذي من حولهم؛ وذلك لأن طلب العلم له لذة يدركها من جربها.

فطالب العلم إذا أكثر من البحث والمراجعة والقراءة؛ يصبح عنده تلذذ بالحصول على المعلومات، وإذا أشكل عليه مسألة من المسائل وبحث ولم نجدها، ازداد لهفه وشوقه إلى معرفتها، فإذا عثر عليها أصبح كأنه عثر على كنـز ثمين، وهذه اللذة عامة في العلوم الشرعية وغيرها، أي أنها قضية مغروزة عند المسلم، لكن قد يزيد طالب العلم الشرعي إذا حسنت نيته بأنه يفرح بمعرفته لحكم شرعي، يحتاج إلى أن يعرفه ويعرّفه غيره.

فهذه اللذة من جهة، والراحة التي يجدها طالب العلم في التعامل مع الكتب، كما تعرفون الشاعر الذي يتغزل بقراءة الكتب ومعايشتها يقول:

لنا جلساء لا يمل حديثهم     ألباء مأمونون غيباً ومشهداً

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ………
إلى آخر ما قال.

وأبيات كثيرة منها:

أعز مكان في الدنا سرج سابح     وخير جليس في الزمان كتاب

أبيات كثيرة يتمدح فيها العلماء بالكتب والقراءة؛ لأن الناس قد يتضايقون من معاملة بعضهم لبعض، وكون فلان أخطأ عليك، وفلان أساء، وفلان قال فيك كذا، وفلان كذا، أما الكتب فهي صماء خذ ما شئت منها ودع ما شئت، فالإنسان إذا تضايق من واقعة لجأ إلى هذه الكتب، وبدأ يتعامل معها، لسهولة وراحة التعامل معها، كما أنه ليس في ذهاب ولا إياب ولا كلفه ولا مشقة، ولذلك ينجر كثير من الطلاب وراء هذه اللذة، ووراء هذه الراحة، ويشتغلون بالطلب والقراءة، وشيئاً فشيئاً يفرضون على أنفسهم طوقاً من العزلة عن الواقع.

حتى يصح أن يوصف بعض طلاب العلم في هذا العصر، بأنهم ممن يعيشون في أبراج عاجية، كما كان الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية، فـالفلاسفة كانوا يعيشون في بروج، أي في أماكنهم في مكتباتهم والناس كانوا يعيشون في عذاب، من تسلط طغاة، ومن مشكلات قائمة فيما بينهم، وهم مشغولون بدراسة ما يسمى بالمدنية الفاضلة، فالفيلسوف مشغول يصور تصويراً خيالياً مدينة فاضلة فيها كمال مطلق من كل ناحية، والناس يعيشون في عذاب في واقعهم فليس له علاقة بهم، فقد يصل الحال ببعض الطلاب إلى هذا الحال، للأسباب السابقة.

وربما يفتخر بعض الأحيان كثير من طلاب العلم الشرعي، بأنهم يجهلون هذا الواقع، ويجهلون ما يجري في حياة الناس، وما جد في هذه الحياة من أمور، وفي هذا العصر يصح أن نقول: إنه حصل في هذا العصر تغير تام في كثير من مجالات الحياة، لم يعهد الناس مثله، تفجر في المعلومات، وفي الحوادث الجديدة، والابتكارات، والعلوم والصناعات، وأمور لا عهد للناس بها.

ومن جهة أخرى في هذا العصر جاءت أمواج من الفتن والانحرافات الفكرية والخلقية التي غزت واقع المسلمين، فكثير من طلاب العلم قد تأتيه بمصطلح ربما يعرفه عامة الناس في هذا العصر، فيفتخر بأنه لا يعرف هذا الاصطلاح، لأن معنى عدم معرفتي بهذا الاصطلاح أنني ممن هم فوق هذا الواقع! وممن هم بعيدون عنه، ومشغولون بما هو أهم، فأنا أفتخر بأني أسأل عن هذا الأمر، وهذا واقع، وأحياناً هو من تلبيس إبليس على الإنسان، كما قد يفتخر الإنسان بأنه لا يعرف الخطأ الفلاني.

وأمثل بمثال واقعي، وهو كثيراً ما تجري -على سبيل المثال- مباريات رياضية طويلة عريضة تأخذ من أوقات الناس وأعمارهم وعقولهم ونظراتهم، ويحدث فيها ما الله به عليم، الله المستعان! فتجد كثيراً من طلاب العلم وقد يكون كثير منا منهم، قد يفتخر بأنه لا يعرف هذه الأشياء ولا يدري عنها شيئاً، والواقع أن انعزال الإنسان عن واقعه ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، بل إن طالب العلم المحقق لعلمه يحرص على أن ينـزل بعلمه في واقع الحياة.

مسألة من الشرع والدين، فتتعلمها، وتعمل بها وتعلمها غيرك وتدعو إليها، وتنكر ما خالفها، خيراً من أن تكون مليئاً بعلوم نظرية مجردة لا تفيد في واقع الناس شيئاً، لأن شرف العلم هو أن يدعو إلى العمل والمعرفة، فلماذا يشتغل طالب العلم في كثير من الأحيان بقضايا جزئية جداً في فروع العلم، وربما يتخصص فيها، ويكتب رسائل عليا في هذه القضية الجزئية التي -والله أعلم- قد لا يحتاج إليها الناس إلى قيام الساعة! ويخفى عليه ويتجاهل قضايا ملحة في واقع الناس، وفي واقع المسلمين اليوم.

أشير الآن إلى جانب من علاقة علماء السلف رضي الله عنهم بالواقع -ولعلي أكمل إن شاء الله في درس قادم- فعلماء السلف رضي الله عنهم اهتداءً واقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعايشون الواقع، والعلماء المشهورون كانوا يعيشون الواقع ويصح أن نقول: إنهم كانوا أوصياء على هذا الواقع، فهم يعدلون واقع الناس على ما تقتضيه شريعة الله عز وجل وانظروا إلى هذه القصص العجيبة التي لا تعدو أن تكون في الواقع أمثلة يسيرة جداً من الواقع.

موقف المنذر بن سعيد البلوطي

على سبيل المثال: يذكر المترجمون المنذر بن سعيد البلوطي وهو من شيوخ المالكية، ويذكر مترجموه أن له ميلاً إلى علم الكلام، وكأنه متأثراً ببعض أراء أهل الكلام، ولكن الشاهد من حياته أن الرجل كان قوياً في الحق، وكان ذو علاقة بالمجتمع وبالسلاطين في عصره، ليست علاقة استجداء، وإنما هي علاقة قوامة وأمر ونهي، فأحد ولاة الأندلس وأظنه عبد الرحمن الناصر، بنى قصراً فخماً مشيداً وزينه بالذهب والفضة، وأسرف فيه أيما إسراف، ثم دعا الوزراء والحاشية والعلماء وغيرهم، فنظروا في هذا القصر والكل يثني ويمجد.

فحضر المنذر بن سعيد لصلاة الجمعة، وكان الخليفة يصلي معه، وتحت منبره، فوقف المنذر بن سعيد رحمه الله، وألقى خطبة عصماء تلا فيها قول الله عز وجل: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

ثم قال يخاطب الخليفة ويوبخه على ما فعل: ما كنت أظن أن يبلغ بك الشيطان إلى ما بلغ حيث أنـزلك منـزل الكافرين، فتشبهت بفرعون وهامان وقارون، وأسرفت في الأموال، وضيعت أموال المسلمين، وفعلت وفعلت، وخنت الأمانة التي أمنك الله عليها، وأهملت شأن الرعية، وظل يورد على السلطان من القول المتين القوي، والسلطان تحت منبره فما زاد السلطان على أن أقسم ألا يصلي معه مرةً أخرى، وذهب إلى مسجد آخر ليصلي معهم، ثم إنه كفر عن يمينه ورجع ليصلي مع هذا الخطيب، وهذا الموقف في أذهان الكثير منا أقرب ما يكون إلى الخيال والأسطورة.

موقف العز بن عبدالسلام

موقف آخر، بل مواقف لـعز الدين بن عبد السلام، المشهور بـالعز بن عبد السلام سلطان العلماء، إمام من أئمة المسلمين، اقرأ ترجمة هذا الإمام في طبقات الشافعية مثلاً أو غيرها، أو في الكتاب الذي كتبه الندوي عنه، وانظر نماذج من بطولات هذا الإمام.

كان في دمشق، وكان حاكم دمشق الملك الصالح إسماعيل، فتعاون هذا الرجل مع أعداء الإسلام، وأسلم إليهم بعض المدن، فغضب عليه الإمام العز بن عبد السلام، وعاتبه وقطع الدعاء له في الخطبة، وحرض العلماء على ذلك، ثم خرج من دمشق وتركها مهاجراً إلى غيرها، فمر ببعض المدن الصغيرة في الشام، فطلب منه بعض أمرائها أن يبقى عندهم، فقال: إن مدينتكم صغيرة على علمي، والإنسان العالم كـالعز بن عبد السلام يجب أن يعرف قدر علمه، وذهب إلى مصر وكان فيها الملك الصالح أيوب، فاستقبله وأكرم مثواه.

وكان للعز بن عبد السلام مواقف في منتهى القوة، وأقرب إلى العجب، ولعل منها الموقف المشهور له، والذي ذكره أيضاً السبكي في الطبقات، قال: إن الملك الصالح جاء في يوم عيد وكان يحف به الأعوان، والشرط، والخدم، والحشم، بل والأمراء الصغار وغيرهم يقبلون الأرض بين يديه كما جرت عادتهم بذلك.

فلم يرض العز بن عبد السلام بهذا المشهد، وخاف على السلطان أن يتعاظم ويصيبه شيء من العجب والخيلاء، إضافة إلى أنه رأى منكراً يجب تغييره، فوقف بكل ثبات وقوة ورجولة في طريق السلطان، وقال له: يا أيوب! -هكذا كلمة مجردة ليس قبلها شيء ولا بعدها شيء، لا ألفاظ تفخيم وتبجيل، ولا دعاء ولا شيء، باسمه الذي سماه به أبوه- فالتفت السلطان، وقال: نعم يا سيدي أو نحو هذه الكلمة، فقال له: ما جوابك أمام رب العالمين إذا سألك وقال لك: إنني وليتك أمر عبادي ورقابهم وأموالهم فما قمت بما ائتمنتك عليه، فقال له السلطان: ما الأمر أيها الإمام؟ فقال العز بن عبد السلام: إن في مكان كذا وكذا حانوتاً يباع فيها الخمر، فقال له السلطان: يا سيدي هذه من عهد أبي -الحاكم قبله-. فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذاً أنت من الذين يقولون: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] فقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله، وأمر بها حالاً فغيرت وأزيلت.

وخلا العز بن عبد السلام بتلاميذه بعد هذه الحادثة التي لا شك أن الناس كانوا يتناقلونها، وكانت تغرس للعز بن عبد السلام مكانه طيبة في نفوسهم، وتجعلهم يشعرون بأن هؤلاء العلماء يستحقون أن يقف الناس إلى جوارهم، سأله أحد تلاميذه وهو الباجي، فقال له: بعد أن دعا له قال له: أيها الشيخ، كيف جرؤت أن تخاطب السلطان بهذا الجفاء، وبهذه القوة؟!

قال: يا بني! إني تخيلت عظمة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالقط، ورأيت ما حوله من الخدم والحشم فخشيت أن تغلبه نفسه، فأردت أن أضع من قدره، فالرجل ينظر إلى مصالح، فالمنكر الأعظم هو أن يزهو السلطان بنفسه وبمن حوله ممن يزينون له ما هو فيه، وقد عالجه العز بن عبد السلام بخطابه بهذا الأسلوب الذي يناسب الموقف، والمنكر الآخر هو وجود حانوت يباع فيه الخمر.

وللعز بن عبد السلام مواقف كثيرة جداً مع السلاطين لا يتسع المجال لذكرها فأقرءوها في ترجمته وهي فعلاً أقرب إلى الأسطورة، ولذلك استحق أن يسميه المترجمون المتقدمون بسلطان العلماء.

موقف شيخ الإسلام ابن تيمية

لا يمكن أن نتجاهل في هذا المقام مواقف عظيمة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأخص منها في هذا المجلس ما يتعلق بإنكار المنكرات الكبرى التي يقف وراءها أناس ذووا قدر ويصعب على الدهماء أن يغيروها، فقد جاء التتر إلى بلاد الشام، وغزوها وأهلكوا الحرث والنسل، وخاف الناس منهم حتى العلماء، فذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الولاة في مصر، والتقى بالسلطان هناك، وأظنه محمد بن قلاوون، فتكلم معه بكلام قوي أعجب العلماء كـابن دقيق العيد وغيره، وكان من ضمن ما قال له، كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية وغيره، أنه قال له: لو قدر أنكم لستم أنتم حكام مصر، واستنجد بكم أهلها، وقد غزاهم هؤلاء الكفرة، لوجب عليكم إغاثتهم ونصرتهم، فكيف وأنتم حكامه وولاته وقال له: إذا تخليتم عن الشام فإننا نقيم له من يحوطه ويحميه في زمن الشدة، ويستغله في زمن الأمن، أما أن تكونوا يا أمراء المماليك تستغلون بلاد الشام في زمن الأمن وتأخذون خيراتها، فإذا جاءت الشدة ابتعدتم عنه، فهذا ما لا يكون.

وحرض هذا السلطان على الغزو ووعده بالنصر حتى تحرك هذا السلطان وخرج بجنده، وانتصر المسلمون على التتار كما هو معروف، وكان لـابن تيمية مواقف كثيرة مع السلاطين غير هذه.

الفائدة من ذكر هذه النماذج

هذه نماذج تدل على المكانة التي كان يتبوؤها علماء السلف في مجتمعهم، وموقف الناس من مثل هذه الأحداث الشهيرة، التي يذكرها المؤرخون في سير العلماء، وموقف الناس وطلاب العلم يتفاوت، فمن طلاب العلم من يعتبر هذه الأشياء مجرد طرائف، وأشياء يتلذذ بذكرها وسردها وتزيين المجالس بها، وهذا حالنا وحال كثير من الناس.

يكفي أن نذكر هذه القصص ونتلذذ بها ونهز الرءوس، وقد نعجب ونطرب لها، وهذا غاية الأمر! ومن الناس من يفكر بتطبيق هذه الأحداث والقصص بحذافيرها دون أن يتصور الظروف التي وقعت فيها هذه القصص، والشخصيات التي قامت بهذه الأعمال! فيقع في خطأ غير مناسب، ويكون أمر ونهى أمراً ونهياً في غير أوانه.

ولعلكم تذكرون أن أحد الطلاب والشباب وقف في يوم من الأيام أمام رجل كبير في إحدى الدول، وتكلم أمامه بكلام قوي، سمعناه جميعاً في حينه، وقال له: كيف تدّعون العلم والإيمان، وقد طرد فلان وشرد فلان، وحصل كذا، وحصل كذا فهذا الإنسان ربما يقرأ سيرة فلان وفلان من العلماء، فيطبق ما يسمع تطبيقاً حرفياً كما يقال، والواقع أنه يجب أن ننظر إلى الظروف التي وقعت فيها هذه القصص.

فمثلاً المنذر بن سعيد، أو العز بن عبد السلام، أو ابن تيمية ليسوا أناساً جاءوا من الشارع وفعلوا هذه المواقف، هذا خطأ أن تتصوره. بل ابن تيمية، والمنذر بن سعيد، والعز بن عبد السلام، وجميع علماء الإسلام المشهورين كانوا متغلغلين في المجتمع، وكان لهم تأثير، ووقع ومكانه لدى الخاص والعام، بحيث أن مكانتهم لا يمكن أن يتجاهلها أحد.

ولذلك لما طلب العز بن عبد السلام من المماليك أن يبيعوا أنفسهم لأنه قال: أنتم أرقاء وعبيد ولا يمكن أن تحكموا المسلمين وأنتم كذلك، قالوا: فكيف نصنع؟ قال: لا بد أن تباعوا ويعلن عنكم في المزاد العلني، ثم إذا تم بيعكم فحينئذٍ لكم أن ترجعوا إلى مناصبكم، فحاولوا بكل وسيلة أن يثنوه عن هذا القرار فأصر، حتى إن منهم من حاول قتله فلما رآه سقط السيف من يده وبهت وتحير.

فطلبوا منه أن يخرج من بلاد مصر، فخرج العز بن عبد السلام في موكب ليس فيه هيلمان ولا أبهة، جاء بحمار ووضع عليه رحله، ووضع أثاثه في جانبي المزادة، وركب هو، وأركب زوجته وأطفاله ومضى، ولمارأى الناس هذا الموكب البسيط المتواضع خرجوا كلهم وراءه، حتى أتى آت للمماليك، وقال: إذا خرج هؤلاء فمن تحكمون في بلاد مصر؟! فطلبوا منه أن يرجع وأن ينفذوا له ما طلب.

والمقصود أن مما لا يختلف فيه -حتى لو فرض أن هناك مثلاً من لا يوافق على هذا الحدث والسياق- أن هؤلاء العلماء لم يكونوا نكرات مجهولين في واقعهم، بل كانوا منذ نعومة أظافرهم، منذ بداية طلبهم معروفين بالمشاركة في الحياة العامة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإصلاح، حتى بخدمة الناس في أمورهم الدنيوية.

واقرأ ما قاله ابن رجب الحنبلي في الطبقات، أو ما قاله الذهبي في ترجمة الإمام ابن تيمية، إنه كان منتصباً لخدمة الناس ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه، وحتى الظلم الدنيوي يحاول أن يدفعه عن الناس، كإنسان يحتاج إلى عمل، أو إلى مال، أو زواج، أو وظيفة، أو إنسان ظلم، فيحاول أن يدفع عنهم حتى المظالم الدنيوية.

واقرءوا كتب الشيخ تجدون كثيراً من الكتب كتبت في دفع المظالم عن الناس، لأنه كان مختلطاً بالناس مؤثراً فيهم، ولذلك كان يملك هو وأمثاله أن تكون له مواقف مؤثرة وشجاعة، فطالب العلم يسعى إلى أن يحقق من الاختلاط بالناس اختلاطاً واعياً مؤثراً؛ ما يجعله أهلاً لأن يكون قوياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت المناسب إن أعانه الله تبارك وتعالى على ذلك.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

على سبيل المثال: يذكر المترجمون المنذر بن سعيد البلوطي وهو من شيوخ المالكية، ويذكر مترجموه أن له ميلاً إلى علم الكلام، وكأنه متأثراً ببعض أراء أهل الكلام، ولكن الشاهد من حياته أن الرجل كان قوياً في الحق، وكان ذو علاقة بالمجتمع وبالسلاطين في عصره، ليست علاقة استجداء، وإنما هي علاقة قوامة وأمر ونهي، فأحد ولاة الأندلس وأظنه عبد الرحمن الناصر، بنى قصراً فخماً مشيداً وزينه بالذهب والفضة، وأسرف فيه أيما إسراف، ثم دعا الوزراء والحاشية والعلماء وغيرهم، فنظروا في هذا القصر والكل يثني ويمجد.

فحضر المنذر بن سعيد لصلاة الجمعة، وكان الخليفة يصلي معه، وتحت منبره، فوقف المنذر بن سعيد رحمه الله، وألقى خطبة عصماء تلا فيها قول الله عز وجل: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

ثم قال يخاطب الخليفة ويوبخه على ما فعل: ما كنت أظن أن يبلغ بك الشيطان إلى ما بلغ حيث أنـزلك منـزل الكافرين، فتشبهت بفرعون وهامان وقارون، وأسرفت في الأموال، وضيعت أموال المسلمين، وفعلت وفعلت، وخنت الأمانة التي أمنك الله عليها، وأهملت شأن الرعية، وظل يورد على السلطان من القول المتين القوي، والسلطان تحت منبره فما زاد السلطان على أن أقسم ألا يصلي معه مرةً أخرى، وذهب إلى مسجد آخر ليصلي معهم، ثم إنه كفر عن يمينه ورجع ليصلي مع هذا الخطيب، وهذا الموقف في أذهان الكثير منا أقرب ما يكون إلى الخيال والأسطورة.

موقف آخر، بل مواقف لـعز الدين بن عبد السلام، المشهور بـالعز بن عبد السلام سلطان العلماء، إمام من أئمة المسلمين، اقرأ ترجمة هذا الإمام في طبقات الشافعية مثلاً أو غيرها، أو في الكتاب الذي كتبه الندوي عنه، وانظر نماذج من بطولات هذا الإمام.

كان في دمشق، وكان حاكم دمشق الملك الصالح إسماعيل، فتعاون هذا الرجل مع أعداء الإسلام، وأسلم إليهم بعض المدن، فغضب عليه الإمام العز بن عبد السلام، وعاتبه وقطع الدعاء له في الخطبة، وحرض العلماء على ذلك، ثم خرج من دمشق وتركها مهاجراً إلى غيرها، فمر ببعض المدن الصغيرة في الشام، فطلب منه بعض أمرائها أن يبقى عندهم، فقال: إن مدينتكم صغيرة على علمي، والإنسان العالم كـالعز بن عبد السلام يجب أن يعرف قدر علمه، وذهب إلى مصر وكان فيها الملك الصالح أيوب، فاستقبله وأكرم مثواه.

وكان للعز بن عبد السلام مواقف في منتهى القوة، وأقرب إلى العجب، ولعل منها الموقف المشهور له، والذي ذكره أيضاً السبكي في الطبقات، قال: إن الملك الصالح جاء في يوم عيد وكان يحف به الأعوان، والشرط، والخدم، والحشم، بل والأمراء الصغار وغيرهم يقبلون الأرض بين يديه كما جرت عادتهم بذلك.

فلم يرض العز بن عبد السلام بهذا المشهد، وخاف على السلطان أن يتعاظم ويصيبه شيء من العجب والخيلاء، إضافة إلى أنه رأى منكراً يجب تغييره، فوقف بكل ثبات وقوة ورجولة في طريق السلطان، وقال له: يا أيوب! -هكذا كلمة مجردة ليس قبلها شيء ولا بعدها شيء، لا ألفاظ تفخيم وتبجيل، ولا دعاء ولا شيء، باسمه الذي سماه به أبوه- فالتفت السلطان، وقال: نعم يا سيدي أو نحو هذه الكلمة، فقال له: ما جوابك أمام رب العالمين إذا سألك وقال لك: إنني وليتك أمر عبادي ورقابهم وأموالهم فما قمت بما ائتمنتك عليه، فقال له السلطان: ما الأمر أيها الإمام؟ فقال العز بن عبد السلام: إن في مكان كذا وكذا حانوتاً يباع فيها الخمر، فقال له السلطان: يا سيدي هذه من عهد أبي -الحاكم قبله-. فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذاً أنت من الذين يقولون: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] فقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله، وأمر بها حالاً فغيرت وأزيلت.

وخلا العز بن عبد السلام بتلاميذه بعد هذه الحادثة التي لا شك أن الناس كانوا يتناقلونها، وكانت تغرس للعز بن عبد السلام مكانه طيبة في نفوسهم، وتجعلهم يشعرون بأن هؤلاء العلماء يستحقون أن يقف الناس إلى جوارهم، سأله أحد تلاميذه وهو الباجي، فقال له: بعد أن دعا له قال له: أيها الشيخ، كيف جرؤت أن تخاطب السلطان بهذا الجفاء، وبهذه القوة؟!

قال: يا بني! إني تخيلت عظمة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالقط، ورأيت ما حوله من الخدم والحشم فخشيت أن تغلبه نفسه، فأردت أن أضع من قدره، فالرجل ينظر إلى مصالح، فالمنكر الأعظم هو أن يزهو السلطان بنفسه وبمن حوله ممن يزينون له ما هو فيه، وقد عالجه العز بن عبد السلام بخطابه بهذا الأسلوب الذي يناسب الموقف، والمنكر الآخر هو وجود حانوت يباع فيه الخمر.

وللعز بن عبد السلام مواقف كثيرة جداً مع السلاطين لا يتسع المجال لذكرها فأقرءوها في ترجمته وهي فعلاً أقرب إلى الأسطورة، ولذلك استحق أن يسميه المترجمون المتقدمون بسلطان العلماء.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5007 استماع
حديث الهجرة 4966 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4078 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3922 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع