شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثالث)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

لعلي أتكلم عن أدبين من آداب طلب العلم، وقد تكلمت فيما سبق عن أدب وهو إخلاص النية في الطلب، وأن طالب العلم يجب أن يعلم أنه في عبادة، والعبادة لا بد فيها من إخلاص النية حتى يستفيد الإنسان منها، وتكون في ميزان حسناته.

من آداب الطلب: طهارة الباطن والظاهر

أن يشتغل طالب العلم بطهارة باطنه وظاهره من شوائب المعاصي والمخالفات لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخاصة أن النفس قد جبلت على أخلاق رديئة، وفيها من الصفات ما تحتاج إلى نزعها منها حتى يكمل الإنسان ويشرف، ويعلو ويتطهر بما جاء من شرع الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكم في النفس من الأخلاق الذميمة مثل الغضب، والشهوة المحرمة، والحقد، والحسد، والعجب، والكبر.. وغيرها من الأمراض التي تحتاج إلى علاج.

وسبحان الله! تلك الأمراض هي ظلمة في القلب، والعلم الذي يأخذه الإنسان هو نور، ولا يمكن أن تجتمع الظلمة مع النور اجتماعاً كاملاً، ولذلك قيل: القلب المظلم المشحون بالذنوب لا يستطيع استقبال النور، ولا تحدث بركة العلم فيه كاملة.

وقد ذكروا أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حفظ الموطأ عند الإمام مالك في أيام، ولعله في أسبوع أو أكثر من ذلك، فقال:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي     فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور     ونور الله لا يؤتى لعاصي

ولذلك ربما يكون الإنسان حافظاً، وذا اطلاع وفهم وإدراك ومعه معصية.. لكن العلم الذي معه لا تحدث بركته فيه، فلا يستفيد الناس منه، ولا يستفيد منه بذاته شيئاً يثمر به، ولهذا وجب على الإنسان أن يطهر نفسه من أدران المعاصي صغيرها وكبيرها.

ونبه العلماء رحمهم الله تعالى على أن من الواجب على المسلم أن يطهر نفسه من أدران البدع التي ربما توجد عند بعض الناس، سواء كانت تلك البدع صغيرة أو كبيرة، وهذا هو الواجب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا وهي القلب) والقلب هو موطن العلم، وبركته إنما تصدر من القلب إذا نفع الله به، وكان طلب العلم فيه إخلاص، وابتعاد عن المعاصي.

من آداب الطلب: تفريغ القلب للعلم

يجب أن يبتعد الإنسان عن العلائق التي تكون سبباً لصرفه عن العلم، ولذلك كم من الناس من يبحثون عن أمور تملأ فراغهم، وربما يملئونها بأمور تشغلهم عن الأفضل، وعن الاستفادة والعلو والارتفاع إلى الأكمل، ولذلك تجد كثيراً من الناس ربما يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وربما يشتغل بالمباح عن الواجب، وبالمستحب عن الأمور الواجبة، وكم من الناس من يضيعون أوقاتاً في أمورٍ لا يستفيدون منها، وإنما تحدث لهم ملء فراغٍ لا ينتقلون منها إلى الأكمل والأفضل.

ولهذا لم يكن السلف رحمهم الله تعالى يؤثرون على العلم شيئاً أبداً؛ لأن ثمرة العلم لا يوازيها جلوس مع الناس، ولا حديث، ولا زيارة، ولا اتصال ولا غيره، والعلم علو كامل وثمرة واضحة على صاحبها يستفيد منها في الدنيا والآخرة، ولهذا قالوا: ينبغي للإنسان في قضية الطلب أن يذل نفسه، وقالوا: لن يصل الإنسان إلى العلم ويستفيد منه مع عزة النفس وارتفاعها، بل لا بد من الذل، وأن يصبح الإنسان يقضي وقته كله في العلم.

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك، ولا عز النفس فيفلح، ولكن إذا طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء، فإنه يفلح في الدنيا والآخرة.

لذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يلازم النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، ما كان يشتغل بالضرب في الأسواق، ولا بجمع المال ولم يكن يشتغل فيه، ولا يتحدث بحديث الناس، ولا بحديث الركب، جل وقته للعلم، حتى كان رضي الله عنه وأرضاه ربما أغمي عليه من قلة أكله وزاده رضي الله عنه، كله لزوماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وحرصاً على ذلك، ولذلك روى الخطيب البغدادي عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن الناس يقولون: [أكثر أبو هريرة، ثم قال: إني كنت لا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني حين لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق ببطني الحصى من شدة الجوع] رضي الله عنه.

وأعظم من ذلك أحد كبار الصحابة ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، كان يأتي إلى الصحابي يريد أن يسأله عن مسألة فلا يقرع عليه الباب تأدباً معه، وربما كان في الظهيرة ويدركه النوم وينام على عتبة باب هذا الصحابي، ويخرج ويجد ابن عم رسول الله هنا، ويقول: لِمَ لم تقرع ولِمَ لم تستأذن؟ قال: هكذا أمرنا أن نتأدب مع علمائنا. صبراً وتحملاً في الطلب، وعدم إزعاجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن جماعة رحمه الله تعالى: على طالب العلم أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخداع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من حياة الإنسان ومن عمره لا يمكن أن يبدلها، ولا يمكن أن يعوض عنها، وعليه أن يقطع ما يقدر من العلائق الشاغلة.

كثير من الناس قسموا أوقاتهم ليلة في الأسبوع هذه لجلسة كذا، وليلة أخرى لزيارة وغيرها، وثالثة لجلوس مجالس ربما يضيع وقتها ولا يستفيد منها.

كان السلف يقطعون علائقهم كلياً، والسبب: لانشغالهم بذات العلم، وقالوا: إن ذلك من تمام الطلب أن يقطع الإنسان العلائق، وأن يبذل الجهد، وأن يقوي نفسه بالجد والتحصيل ليستفيد، ولذلك كان السلف رحمهم الله تعالى يغتربون في طلب العلم، ويبتعدون عن الأهل والأوطان؛ تفريغاً لأنفسهم في تحصيل العلم، ولذلك قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.

وعجباً من كثير من الأحبة! يجعلون للعلم فضالات أوقاتهم، فإذا لم يجدوا شغلاً في أمورهم الذاتية وفي حاجاتهم النفسية وفي علائقهم، قالوا بعد ذلك: هذا الوقت سنجعله للعلم.

وربما يجعل أحدهم درساً في الأسبوع، وينظر لنفسه أنه قد فاق تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء زمانه، ويقول: جعلنا للعلم وطلبناه وسرنا له واستفدنا منه، وما علم أنه ما حصّل إلا جزءاً يسيراً، ولا نقول: إنه لم يستفد علماً، لكن علمه الذي حصله لم يكن له ثمرة كما يحدث لمن سافر في طلب العلم واغترب.

أذكر قصة لطيفة من اللطائف: كنت أقرأ في أحد الكتب، فذكر أن هذه هي عقيدة الإمام أحمد رحمه الله وبقي بن مخلد .. وغيره، بقي بن مخلد رحمه الله تعالى هو ممن سافر إلى الإمام أحمد وهاجر إليه، وذكروا أنه جاء من الأندلس ، ولد في رمضان سنة (201هـ) ورحل إلى الإمام أحمد من الأندلس إلى أن وصل، ولما قرب من ديار الإمام أحمد علم بأن الفتنة قد قامت بخلق القرآن، وأن الإمام أحمد لا يستطيع أن يحدث بحديث رسول الله في المسجد، ولا يستطيع أن يبين عقيدةً؛ نظراً لأن المعتزلة كان لهم الحكم والصولة والجولة، وكانت الخلافة قد أخذت برأي المعتزلة ، فحوصر رحمه الله عن التحديث.

يقول: لما قربت من بغداد اغتممت غماً شديداً، والسبب: أني قدمت من الأندلس ؛ لأطلب العلم على يد الإمام أحمد، ولما علمت بأني سأمنع حزنت لذلك أشد الحزن، قال: فلما دخلت بغداد استأجرت لي حانوتاً وأنزلت متاعي ثم ذهبت إلى المسجد، فأتيت الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخلق، وأتعلم من كبار أئمة السلف ، وأتذاكر معهم، قال: فجئت إلى حلقة نبيلة، وإذا برجل جالس في الحلقة يكشف أحوال الرجال، ويضعف هذا ويقوي هذا، فسألت: من هذا الرجل؟

قالوا: إنه يحيى بن معين رحمه الله، فرأيت فرجة قريبة من عنده فاندسست حتى وصلت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا ! رحمك الله رجل غريب نائي الدار، أردت أن أسأل فلا تستخفني في شيء، ثم سأله عن بعض أهل الحديث ، فبين له ضعفهم وغيره، قال: فسألته عن هشام بن عمار رحمه الله تعالى، وكنت قد أكثرت من الأخذ عنه؟ فقال يحيى بن معين: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة، قال: ففرحت؛ لأنه قد حكم عليه بصلاحه وبتوثيقه، ثم سألته عدة أسئلة، قال: صاح من حوله يكفيك، كمن يسأل ويلح على الشيخ، يكفيك فغيرك كثير يريدون أن يسألوا.

ثم سألته عن الإمام أحمد، وعجب يحيى بن معين رحمه الله تعالى ونظر إلي كالمتعجب وقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن الإمام أحمد، أي: هل نحن نتكلم في الإمام أحمد أو نقول فيه شيئاً؟ إن ذاك إمام المسلمين، وخيرهم وفاضلهم رحمه الله.

ثم قلت: دلوني على منزل الإمام أحمد، قال: فسرت إليه، وقرعت الباب، وكان بيته مراقب لا يستطيع أحد الدخول عليه، ثم أخبرته بخبري، وقلت له: يا أبا عبد الله، رجل غريب نائي الدار، جاء من بعيد، وإني أريد أن أدخل إليك، وإني طالب حديث ومفيد سنة، أي: أنني أرغب أن أستفيد، ولم تكن رحلتي إلا إليك، أي: ما قدمت من الأندلس إلا لأجلك، فأدخله الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

ثم سألني: من أين أنت؟

قال: جئت من المغرب الأقصى.

قال: من أفريقيا؟

قال: من أبعد من ذلك، بيني وبين أفريقيا بحر، جئتك من الأندلس .

قال: إن موضعك لبعيد، أي: إن مكانك لبعيد، كيف بهذه الهمة العجيبة.

ذكروا أنه مكث سنة كاملة حتى وصل إلى الإمام أحمد، ومع ذلك قدم ووجده لا يستطيع أن يستفيد علماً، ومع ذلك طلب منه أن يعمل حيلة، والقصة بطولها ذكرت في طبقات الحنابلة ، وترجم لـبقي بن مخلد رحمه الله ترجمة في مقدمة مسنده ، وهو يعتبر من كبار أئمة أهل السنة رحمه الله تعالى.

ثم قال له رحمه الله بحيلة: إني أريد أن أطلب الحديث عليك، قال: إنك كما ترى، ثم احتال حيلة صنع له ثوباً وكماً طويلاً، ثم كان يضع الدواة والقلم في كمه ويقرع على الإمام أحمد ويقول: الأجر رحمكم الله، وأحياناً يقول: سائل يسأل من فضل الله الذي عندكم، ويدخل إلى الإمام أحمد يروي له حديثين أو ثلاثة أو يزيد على ذلك ثم يخرج، قال: فالتزمته حتى ماتت الفتنة، ومات الخليفة الذي كان يمتحن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ثم بعد ذلك طلبت العلم على يديه، وجلست عنده، وكان إذا رآني الإمام أحمد أجلسني عنده وقص لتلامذته خبري، وما قدمت من أجله، وكان يرى أنني على تميز على التلاميذ، ويذكر لهم ما كنت قدمت من أجله.

أصبت بمرض، قال: فجلست في الحانوت أياماً، وفقدني الإمام أحمد، ثم سأل عني فإذا بي مريض، قال: فكنت من شدة المرض مغطى ومسجى بما عليه من اللباس وغيره رحمه الله، قال: فما شعرت إلا وبلغط في السوق، وبصوت عظيم، والناس يقولون: هذا إمام المسلمين، أي: قدم إليه لزيارته رحمه الله ومعه التلاميذ، وكل تلميذ معه دواته وقلمه يكتب ما يقول الإمام أحمد، يستفيدون من علمه في أثناء الطريق بفتوىً أو سؤال أو غيره والناس يقيدون، قال: فدخل علي الإمام أحمد، وعجب أهل الحانوت كلهم لماذا جاء إمام المسلمين هنا؟

قال: وزارني ثم دعا لي بالشفاء وخرج، ثم قال رحمه الله: فما وجدت أعظم من أهل الفندق الذي كنت أسكنه براً بي وإحساناً، لدخول عالم الأمة لزيارة هذا الرجل الصالح.

يقول: فكانوا يمرضونني، هذا يغطيني، وهذا يلبسني، وهذا كذا.. حتى شفيت، كله ببركة هذا الرجل الصالح، وذلك يدل على منازل علماء السلف رحمهم الله تعالى وكبارهم.

وقد قلت عندما تكلمت عن أهمية الطلب والناس في حاجة إلى أمرين: دراسة آداب الطلب، ودراسة سير علماء الأمة وكبارها حتى يعلموا ثمرة العلم وفائدته، وأن هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى قد دونت حياتهم على سطر التاريخ ولن تنسى، لئن جهلنا أخبارهم فلا ينساها أئمة سلف الأمة ، وبقيت -ولله الحمد- تعتبر نوراً ونبراساً نستفيد منه في سيرنا وفي طلبنا للعلم واستفادتنا من ذلك.

هذه مقدمة يسيرة حول قضية الطلب وأهميته.

أن يشتغل طالب العلم بطهارة باطنه وظاهره من شوائب المعاصي والمخالفات لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخاصة أن النفس قد جبلت على أخلاق رديئة، وفيها من الصفات ما تحتاج إلى نزعها منها حتى يكمل الإنسان ويشرف، ويعلو ويتطهر بما جاء من شرع الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكم في النفس من الأخلاق الذميمة مثل الغضب، والشهوة المحرمة، والحقد، والحسد، والعجب، والكبر.. وغيرها من الأمراض التي تحتاج إلى علاج.

وسبحان الله! تلك الأمراض هي ظلمة في القلب، والعلم الذي يأخذه الإنسان هو نور، ولا يمكن أن تجتمع الظلمة مع النور اجتماعاً كاملاً، ولذلك قيل: القلب المظلم المشحون بالذنوب لا يستطيع استقبال النور، ولا تحدث بركة العلم فيه كاملة.

وقد ذكروا أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حفظ الموطأ عند الإمام مالك في أيام، ولعله في أسبوع أو أكثر من ذلك، فقال:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي     فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور     ونور الله لا يؤتى لعاصي

ولذلك ربما يكون الإنسان حافظاً، وذا اطلاع وفهم وإدراك ومعه معصية.. لكن العلم الذي معه لا تحدث بركته فيه، فلا يستفيد الناس منه، ولا يستفيد منه بذاته شيئاً يثمر به، ولهذا وجب على الإنسان أن يطهر نفسه من أدران المعاصي صغيرها وكبيرها.

ونبه العلماء رحمهم الله تعالى على أن من الواجب على المسلم أن يطهر نفسه من أدران البدع التي ربما توجد عند بعض الناس، سواء كانت تلك البدع صغيرة أو كبيرة، وهذا هو الواجب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا وهي القلب) والقلب هو موطن العلم، وبركته إنما تصدر من القلب إذا نفع الله به، وكان طلب العلم فيه إخلاص، وابتعاد عن المعاصي.

يجب أن يبتعد الإنسان عن العلائق التي تكون سبباً لصرفه عن العلم، ولذلك كم من الناس من يبحثون عن أمور تملأ فراغهم، وربما يملئونها بأمور تشغلهم عن الأفضل، وعن الاستفادة والعلو والارتفاع إلى الأكمل، ولذلك تجد كثيراً من الناس ربما يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وربما يشتغل بالمباح عن الواجب، وبالمستحب عن الأمور الواجبة، وكم من الناس من يضيعون أوقاتاً في أمورٍ لا يستفيدون منها، وإنما تحدث لهم ملء فراغٍ لا ينتقلون منها إلى الأكمل والأفضل.

ولهذا لم يكن السلف رحمهم الله تعالى يؤثرون على العلم شيئاً أبداً؛ لأن ثمرة العلم لا يوازيها جلوس مع الناس، ولا حديث، ولا زيارة، ولا اتصال ولا غيره، والعلم علو كامل وثمرة واضحة على صاحبها يستفيد منها في الدنيا والآخرة، ولهذا قالوا: ينبغي للإنسان في قضية الطلب أن يذل نفسه، وقالوا: لن يصل الإنسان إلى العلم ويستفيد منه مع عزة النفس وارتفاعها، بل لا بد من الذل، وأن يصبح الإنسان يقضي وقته كله في العلم.

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك، ولا عز النفس فيفلح، ولكن إذا طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء، فإنه يفلح في الدنيا والآخرة.

لذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يلازم النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، ما كان يشتغل بالضرب في الأسواق، ولا بجمع المال ولم يكن يشتغل فيه، ولا يتحدث بحديث الناس، ولا بحديث الركب، جل وقته للعلم، حتى كان رضي الله عنه وأرضاه ربما أغمي عليه من قلة أكله وزاده رضي الله عنه، كله لزوماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وحرصاً على ذلك، ولذلك روى الخطيب البغدادي عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن الناس يقولون: [أكثر أبو هريرة، ثم قال: إني كنت لا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني حين لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق ببطني الحصى من شدة الجوع] رضي الله عنه.

وأعظم من ذلك أحد كبار الصحابة ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، كان يأتي إلى الصحابي يريد أن يسأله عن مسألة فلا يقرع عليه الباب تأدباً معه، وربما كان في الظهيرة ويدركه النوم وينام على عتبة باب هذا الصحابي، ويخرج ويجد ابن عم رسول الله هنا، ويقول: لِمَ لم تقرع ولِمَ لم تستأذن؟ قال: هكذا أمرنا أن نتأدب مع علمائنا. صبراً وتحملاً في الطلب، وعدم إزعاجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن جماعة رحمه الله تعالى: على طالب العلم أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخداع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من حياة الإنسان ومن عمره لا يمكن أن يبدلها، ولا يمكن أن يعوض عنها، وعليه أن يقطع ما يقدر من العلائق الشاغلة.

كثير من الناس قسموا أوقاتهم ليلة في الأسبوع هذه لجلسة كذا، وليلة أخرى لزيارة وغيرها، وثالثة لجلوس مجالس ربما يضيع وقتها ولا يستفيد منها.

كان السلف يقطعون علائقهم كلياً، والسبب: لانشغالهم بذات العلم، وقالوا: إن ذلك من تمام الطلب أن يقطع الإنسان العلائق، وأن يبذل الجهد، وأن يقوي نفسه بالجد والتحصيل ليستفيد، ولذلك كان السلف رحمهم الله تعالى يغتربون في طلب العلم، ويبتعدون عن الأهل والأوطان؛ تفريغاً لأنفسهم في تحصيل العلم، ولذلك قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.

وعجباً من كثير من الأحبة! يجعلون للعلم فضالات أوقاتهم، فإذا لم يجدوا شغلاً في أمورهم الذاتية وفي حاجاتهم النفسية وفي علائقهم، قالوا بعد ذلك: هذا الوقت سنجعله للعلم.

وربما يجعل أحدهم درساً في الأسبوع، وينظر لنفسه أنه قد فاق تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء زمانه، ويقول: جعلنا للعلم وطلبناه وسرنا له واستفدنا منه، وما علم أنه ما حصّل إلا جزءاً يسيراً، ولا نقول: إنه لم يستفد علماً، لكن علمه الذي حصله لم يكن له ثمرة كما يحدث لمن سافر في طلب العلم واغترب.

أذكر قصة لطيفة من اللطائف: كنت أقرأ في أحد الكتب، فذكر أن هذه هي عقيدة الإمام أحمد رحمه الله وبقي بن مخلد .. وغيره، بقي بن مخلد رحمه الله تعالى هو ممن سافر إلى الإمام أحمد وهاجر إليه، وذكروا أنه جاء من الأندلس ، ولد في رمضان سنة (201هـ) ورحل إلى الإمام أحمد من الأندلس إلى أن وصل، ولما قرب من ديار الإمام أحمد علم بأن الفتنة قد قامت بخلق القرآن، وأن الإمام أحمد لا يستطيع أن يحدث بحديث رسول الله في المسجد، ولا يستطيع أن يبين عقيدةً؛ نظراً لأن المعتزلة كان لهم الحكم والصولة والجولة، وكانت الخلافة قد أخذت برأي المعتزلة ، فحوصر رحمه الله عن التحديث.

يقول: لما قربت من بغداد اغتممت غماً شديداً، والسبب: أني قدمت من الأندلس ؛ لأطلب العلم على يد الإمام أحمد، ولما علمت بأني سأمنع حزنت لذلك أشد الحزن، قال: فلما دخلت بغداد استأجرت لي حانوتاً وأنزلت متاعي ثم ذهبت إلى المسجد، فأتيت الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخلق، وأتعلم من كبار أئمة السلف ، وأتذاكر معهم، قال: فجئت إلى حلقة نبيلة، وإذا برجل جالس في الحلقة يكشف أحوال الرجال، ويضعف هذا ويقوي هذا، فسألت: من هذا الرجل؟

قالوا: إنه يحيى بن معين رحمه الله، فرأيت فرجة قريبة من عنده فاندسست حتى وصلت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا ! رحمك الله رجل غريب نائي الدار، أردت أن أسأل فلا تستخفني في شيء، ثم سأله عن بعض أهل الحديث ، فبين له ضعفهم وغيره، قال: فسألته عن هشام بن عمار رحمه الله تعالى، وكنت قد أكثرت من الأخذ عنه؟ فقال يحيى بن معين: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة، قال: ففرحت؛ لأنه قد حكم عليه بصلاحه وبتوثيقه، ثم سألته عدة أسئلة، قال: صاح من حوله يكفيك، كمن يسأل ويلح على الشيخ، يكفيك فغيرك كثير يريدون أن يسألوا.

ثم سألته عن الإمام أحمد، وعجب يحيى بن معين رحمه الله تعالى ونظر إلي كالمتعجب وقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن الإمام أحمد، أي: هل نحن نتكلم في الإمام أحمد أو نقول فيه شيئاً؟ إن ذاك إمام المسلمين، وخيرهم وفاضلهم رحمه الله.

ثم قلت: دلوني على منزل الإمام أحمد، قال: فسرت إليه، وقرعت الباب، وكان بيته مراقب لا يستطيع أحد الدخول عليه، ثم أخبرته بخبري، وقلت له: يا أبا عبد الله، رجل غريب نائي الدار، جاء من بعيد، وإني أريد أن أدخل إليك، وإني طالب حديث ومفيد سنة، أي: أنني أرغب أن أستفيد، ولم تكن رحلتي إلا إليك، أي: ما قدمت من الأندلس إلا لأجلك، فأدخله الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

ثم سألني: من أين أنت؟

قال: جئت من المغرب الأقصى.

قال: من أفريقيا؟

قال: من أبعد من ذلك، بيني وبين أفريقيا بحر، جئتك من الأندلس .

قال: إن موضعك لبعيد، أي: إن مكانك لبعيد، كيف بهذه الهمة العجيبة.

ذكروا أنه مكث سنة كاملة حتى وصل إلى الإمام أحمد، ومع ذلك قدم ووجده لا يستطيع أن يستفيد علماً، ومع ذلك طلب منه أن يعمل حيلة، والقصة بطولها ذكرت في طبقات الحنابلة ، وترجم لـبقي بن مخلد رحمه الله ترجمة في مقدمة مسنده ، وهو يعتبر من كبار أئمة أهل السنة رحمه الله تعالى.

ثم قال له رحمه الله بحيلة: إني أريد أن أطلب الحديث عليك، قال: إنك كما ترى، ثم احتال حيلة صنع له ثوباً وكماً طويلاً، ثم كان يضع الدواة والقلم في كمه ويقرع على الإمام أحمد ويقول: الأجر رحمكم الله، وأحياناً يقول: سائل يسأل من فضل الله الذي عندكم، ويدخل إلى الإمام أحمد يروي له حديثين أو ثلاثة أو يزيد على ذلك ثم يخرج، قال: فالتزمته حتى ماتت الفتنة، ومات الخليفة الذي كان يمتحن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ثم بعد ذلك طلبت العلم على يديه، وجلست عنده، وكان إذا رآني الإمام أحمد أجلسني عنده وقص لتلامذته خبري، وما قدمت من أجله، وكان يرى أنني على تميز على التلاميذ، ويذكر لهم ما كنت قدمت من أجله.

أصبت بمرض، قال: فجلست في الحانوت أياماً، وفقدني الإمام أحمد، ثم سأل عني فإذا بي مريض، قال: فكنت من شدة المرض مغطى ومسجى بما عليه من اللباس وغيره رحمه الله، قال: فما شعرت إلا وبلغط في السوق، وبصوت عظيم، والناس يقولون: هذا إمام المسلمين، أي: قدم إليه لزيارته رحمه الله ومعه التلاميذ، وكل تلميذ معه دواته وقلمه يكتب ما يقول الإمام أحمد، يستفيدون من علمه في أثناء الطريق بفتوىً أو سؤال أو غيره والناس يقيدون، قال: فدخل علي الإمام أحمد، وعجب أهل الحانوت كلهم لماذا جاء إمام المسلمين هنا؟

قال: وزارني ثم دعا لي بالشفاء وخرج، ثم قال رحمه الله: فما وجدت أعظم من أهل الفندق الذي كنت أسكنه براً بي وإحساناً، لدخول عالم الأمة لزيارة هذا الرجل الصالح.

يقول: فكانوا يمرضونني، هذا يغطيني، وهذا يلبسني، وهذا كذا.. حتى شفيت، كله ببركة هذا الرجل الصالح، وذلك يدل على منازل علماء السلف رحمهم الله تعالى وكبارهم.

وقد قلت عندما تكلمت عن أهمية الطلب والناس في حاجة إلى أمرين: دراسة آداب الطلب، ودراسة سير علماء الأمة وكبارها حتى يعلموا ثمرة العلم وفائدته، وأن هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى قد دونت حياتهم على سطر التاريخ ولن تنسى، لئن جهلنا أخبارهم فلا ينساها أئمة سلف الأمة ، وبقيت -ولله الحمد- تعتبر نوراً ونبراساً نستفيد منه في سيرنا وفي طلبنا للعلم واستفادتنا من ذلك.

هذه مقدمة يسيرة حول قضية الطلب وأهميته.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :

يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي     رزق الهدى من للهداية يسأل

سبق أن تكلمنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدث بينهم اختلاف في مسائل العقيدة، كباب الأسماء والصفات، أو مسائل الألوهية رحمهم الله ورضي عنهم، وأسسنا هذه القاعدة لنعلم أن كل اختلاف حدث بعدهم ليس إلا البدع والانحراف عن صراط الله المستقيم.

لقد كان سلف الأمة رحمهم الله تعالى إذا أتاهم نص في مسائل الاعتقاد يتلقونه بالتسليم والقبول، ويقابلونه بالإيمان العظيم والتسليم لله ولرسوله.

لم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع من عرض هذه النصوص على عقولهم فما قبلته أخذوه وما لم تقبله عقولهم ردوه، ولم يجعلوا القرآن عضين، بل أقروا بآيات الأسماء والصفات، وعملوا بآيات الأحكام، وساروا على صراط الله المستقيم، حالهم ومنهجهم رضي الله عنهم في حال التنازع والاختلاف الرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].

ولم يكن رده إلى العقول، ولا لأقوال أهل البدع، ولا لمناهج المبتدعة، وإنما كان لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] فما حدث بينهم من نزاع أو اختلاف عندهم الكتاب والسنة، ثم ما أسرع ما يرجعون إليه، ويتمسكون به، ولم يكونوا يحكمون الرأي في مسائل الدين والاعتقاد؛ لأن الكتاب والسنة أصل عظيم في مسألة التنازع.

لقد نهى السلف رحمهم الله تعالى عن قضية الرأي في الدين.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [اتهموا الرأي في الدين] ثم ذكر قصته في صلح الحديبية رضي الله عنه: [لقد رأيتني وإني لأرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي، وأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل] رضي الله عنه وأرضاه ثم يقول رضي الله عنه محذراً: [إن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها].

فكان بعد ذلك أن تفلتت عليهم السنة، فلم يحفظوا منها شيئاً، فعند ذلك أجالوا عقولهم في دين الله تعالى، وأفسدوا الرأي، وأخطره ما كان متعلقاً بباب الأسماء والصفات، وبمسائل القضاء والقدر، وهو الذي حدث فيه الانحراف من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية .. وغيرهم؛ لأنهم حكموا عقولهم في باب الأسماء والصفات، وفي مسائل القضاء والقدر.

طرق أهل البدع في رد نصوص الكتاب والسنة

إن المبتدعة على وجه العموم لما لم يقبلوا الكتاب والسنة وقفوا منهما موقفاً عجيباً!

الأول: رد تكذيب رواة الحديث والطعن فيهم، وعدم قبول ما رووه، ولا شك بأنه إذا قُدِحَ في الراوي قدح فيما رواه، وتلك طريقة الروافض ، فإنهم قدحوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدها لم تقبل روايتهم ولن يقبل حديثهم.

الثاني: تحريف ما دل عليه النص، يقبلون الحديث ولكنهم يقولون: إن هذا الحديث لا يدل على ما تذهبون إليه، وإنما يدل على معانٍ أخرى، مثلاً: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] يقولون: اليد هنا النعمة.. مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] يقولون: إنها القدرة أو النعمة، وكذلك تجد الرضا والغضب والمحبة يؤولونها تأويلاً لا يدل النص عليه، ولا شك بأن هذا تغيير للنص ولما دل عليه الكتاب والسنة.

تقديم أهل البدع العقل على النقل

سبب فساد العالم لا شك أنه تقديم الرأي على الوحي، وكذلك الهوى على النقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب أحد إلا لم يستفد من نور الكتاب والسنة أبداً، ولهذا روى لنا ابن عبد البر بسنده عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه رضي الله عنه، أنه كان يقول وهو الإمام أحمد:

دين النبي محمد آثار     نعم المطية للفتى الأخبار

ولربما جهل الفتى طرق الهدى     والشمس طالعة لها أنوار

وكذلك ما أحسن ما قال بعضهم:

العلم قال الله قال رسوله     قال الصحابة ليس خلف فيه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة     بين الرسول وبين رأي فقيه

إن كثيراً ممن كان عندهم انحراف في مسائل العقيدة دائماً ينسبون معتقدهم إلى الإمام أحمد، وهنيئاً لهذا الرجل الصالح ورضي الله عنه لموقفه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان معتقد أهل السنة، ولموقفه في مسألة القول بخلق القرآن وصموده، وما حصل له رضي الله عنه من الجلد والسجن وغير ذلك، ولكن الله أبقى ذكره وجعله خالداً، وعند أهل السنة والجماعة لا ينسى الإمام أحمد، بل كل إنسان يتشرف بأن كان على عقيدة الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه، ولعل السبب في ذلك: أن الإمام أحمد لم يكن رأيه من عند نفسه، وإنما سار على الآثار التي أتته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن الصحابة الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم.

ولهذا قال رحمه الله: هذا مذهب أئمة أهل العلم، وأصحاب الأثر المعروفين بالسنة المقتدى بهم، فيها أدركت من أدركت من علماء العراق والحجاز والشام ، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائغ عما كان عليه سلف الأمة ، وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ومذهب بقي بن مخلد، والحميدي ، وسعيد بن منصور .. وغيرهم من كبار سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

عندنا مسألة وهي: كيف يمكن أن نجمع بين العقل والنقل، وهل يمكن أن يتعارض النقل والعقل؟

نقول قاعدة: لا يمكن التعارض أبداً بين العقل والنقل، والسبب في ذلك: أن الذي جاء بالنقل والشرع هو الذي خلق العقل، فما جاء إلا بشيء يصدق ما كان عليه العقل، ولا يمكن أن يُوجد شيء لا تقبله العقول، ولهذا قلنا: إن الشريعة تأتي بما تحار به العقول، لا بما تستحيله العقول، ولئن وجد شيء من التعارض فإننا نقول: لا يخلو من أحد أمرين:

الأمر الأول: أن يكون العقل غير صريح، بمعنى: أن العقل فيه شبه وشكوك، وفيه انحرافات وضلال، فعند ذلك لا مانع أن يعارض النقل، فالعقل هو الذي فيه الخلل، والشرع لم يكن فيه شيء.

الأمر الثاني: أن يكون النقل غير صحيح، ولا شك أن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة يمكن أن تعارض العقل، وأما إذا كان العقل صريحاً والنقل صحيحاً فلا تعارض بينهما ولله الحمد، ولئن ضلت المعتزلة في هذا الباب، وانحرفت عنه انحرافاً قوياً، حيث قالت: إن العقل هو الحاكم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هذا القول باطل، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى برد مطول في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، وبين انحرافهم، وأنهم لم يصلوا إلى الحق، ولن يصلوا إليه بقولهم حيث حكموا العقل، فلا ندري أنأخذ بعقل المعتزلة ، أم بعقل الجهمية ، أم بعقل الأشاعرة ، أم بعقل الماتريدية .. أو غيرهم؟ وإنما نقول: نأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي الحاكمة على ذلك والموضحة له.

سند أهل البدع

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مفهوم كلامه: إن للمبتدعة سنداً، ويسلسله فيقول: عندهم الجهم بن صفوان ، عن الجعد بن درهم ، عن بيان بن سمعان ، عن طالوت ، عن لبيد بن الأعصم ، وربما بعضهم يقول: واصل بن عطاء ، عن جهم، ثم بعد ذلك واصل ، عن جهم، عن الجعد ، عن بيان بن سمعان ، عن طالوت، عن لبيد بن الأعصم ، كأنه سند سداسي للمبتدعة، وهؤلاء نعتبرهم أئمة ضلال وانحراف، لم يهتدوا إلى صراط، وإنما كان كل واحد منهم قائداً لفرقة ضالة عن صراط الله المستقيم.

ولعلنا نذكر بعضاً من تراجمهم على عجل، فمثلاً: بيان بن سمعان : كان يرأس فرقة تسمى البيانية ، وهي من غلاة الرافضة، يقال: بيان بن سمعان التميمي مولاهم، أصله من سواد الكوفة ، قالوا: كان تباناً، ويبدو أن التبن خير من عقله وما عنده، قالوا: وهو يعتبر من الغلاة، وهو من الباطنية ، قبض عليه خالد بن عبد الله القسري رحمه الله، وسبحان الله! خالد بن عبد الله القسري لما ترجم له الإمام الذهبي في سير أعلامه ذكر أنه عنده حدة وظلم، ولكن لعلنا نقول ظلمه كما قال الله: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [الأنعام:129] فسلط الله الرجل على قيادات وعلى أئمة من أئمة الضلال، قتل بيان بن سمعان ، وقتل الجعد بن درهم ، وقتل المغيرة بن سعيد العجلي وهو من الباطنية ، فسلطه الله عليهم، قبض عليه خالد بن عبد الله القسري هو والمغيرة بن سعيد مع خمسة عشر من رجالهم، جيئ بهم إلى مسجد الكوفة، وعلقهم بأوتاد من قصب، ثم صب عليهم النفط وأحرقهم.

ذكروا أن بيان بن سمعان لما وصلته النار فر، ثم لما نظر إلى أصحابه يحترقون وهو لم يحترق دخل معهم، فموته معهم يرى أنه خير، فجمع الله له هذه النار ونار جهنم نعوذ بالله منها.

له آراء عجيبة غريبة، كان يفسر القرآن تفسيراً باطنياً، ويقول: أنا الوارد في قوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138] ويقول: إنه هدى وموعظة للمتقين، من أراد الهداية والتقوى فليتبعنِ، ولا شك أن هذا كلام باطل لا شك فيه، كان يقول: إن علياً إله.

ويفسر قول الله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210] قال: إن هذا هو علي بن أبي طالب ، قبحه الله أنى يؤفك.

ومنها كذلك: أنه كان يعتقد أن في السماء إله وفي الأرض إله غير إله السماء، وقيل: إنه أول من قال بخلق القرآن، وهو شيخ الجعد بن درهم.

الجعد بن درهم هو مولى بني مروان، قال ابن كثير رحمه الله: أصله من خراسان ، والإمام الذهبي يقول: من حران ، وقيل: كانت حران موطن للصابئة، وذكر الموطن يدل على أن الإنسان يتأثر بالموطن الذي يعيش فيه، وبالفكر الذي يقول به.

قالوا: إن الجعد بن درهم هو أول من نشر نفي الصفات، وتعلم على يديه الجهم بن صفوان ، قتله كذلك خالد بن عبد الله القسري سنة (120هـ)، وقيل: إن سبب قتله أنه كان يقول: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً.

ولما قبض عليه جاء به خالد بن عبد الله القسري، ثم ربطه في أصل المنبر، وقام خطيباً -وكان الأمراء هم الذين يخطبون- فبدأ خالد بن عبد الله القسري خطبته بحمد الله، قال: الحمد لله الذي اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، وكان الجعد بن درهم في أصل المنبر قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، ولما انتهى من خطبته ووعظ الناس وذكرهم، قال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم ، فنزل فذبحه كما تذبح الشاه، وأثنى عليه الإمام ابن القيم ، قال:

شكر الضحية كل صاحب سنة     لله درك من أخي قربان

أثنى عليه، فدل على أن هذه من القرابين التي يتقرب إلى الله تعالى بها، له أراء عجيبة في مسائل القدر وغيرها.

ومن الأعلام: الجهم بن صفوان، وهذا الرجل أسس مذهب الجهمية، وكان للجعد طائفة اسمها الجعدية، لكن من رحمة الله تعالى أن هذه الطائفة لم تستمر، بل انقرضت، ومن أفراخاها: الجهمية، ومن أصول رجالها: الجهم بن صفوان وهو أبو محرز أصله من بلخ، ذهب إلى الكوفة واتصل بـالجعد، وأخذ عنه القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله تعالى، حصلت بينه وبين أبي حنيفة رحمه الله تعالى مناظرات في مسمى الإيمان، فهو يرى أن الإيمان ليس المعرفة، ولذلك قالوا: إن الجهم بن صفوان من أجهل الناس بالله تعالى، يرى أنه يكفي مجرد المعرفة بالله تعالى، قالوا: الجهم لا يعرف ربه، والسبب: لأنه يقول: إن الله ليس له أسماء ولا صفات، ويرى الجبر كذلك.

قالوا: هو سمى الإيمان: المعرفة، وسمى الكفر: الجهل، قالوا: فهو أجهل الناس، فكفر نفسه بمعتقده وبمذهبه، قتله سلم بن أحوز حين خرج على الخلافة في عهد بني أمية، وكان خرج مع رجل اسمه: الحارث بن سريج وعلى خلافة بني أمية، وقبض عليه، وكان ذا منزلة عند الحارث، وكان يفاوض الخلافة في مسألة الرجوع، ولم يقبل منه، وغزته الخلافة الإسلامية وقبض عليه، وقيل: إنه قتل لمعتقده، وبعضهم يقول: إنه قتل لأجل خروجه على الخلافة، ولا شك أنه قتل للسببين جميعاً: لخروجه على الخلافة ولمعتقده الضال المنحرف. هؤلاء بعض رجالات أهل البدع، ولعلنا نكمل بعضاً من هؤلاء في تراجم بعض حياتهم، خاصة وأن بعضهم دائماً يمرون علينا، الجهم .. والجعد .. وبشر .. وواصل .. وغيرهم من أعلام المبتدعة، نجدهم دائماً أثناء قراءتنا لكتب سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.