العدة شرح العمدة [50]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة الكرام الأحباب! لا زلنا مع كتاب الحج والعمرة، باب ما يفعله بعد الحل، والمعنى: بعد أن يتحلل الحاج برمي جمرة العقبة، وبالذبح والحلق يكون قد تحلل تحللاً أصغر، فإن طاف للإفاضة فقد تحلل تحللاً أكبر، سواء كان تحلل تحللاً أصغر أم أكبر هناك أفعال تلزم الحاج بعد الحل، يعني: ما يفعله بعد التحلل..

حكم المبيت بمنى بعد الإفاضة يوم النحر وأيام التشريق

يقول المصنف: [ ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها ]، أي: أن الحاج بعد أن يرمي جمرة العقبة، وبعد أن يذبح ويحلق يعود إلى منى، فيبيت بها.

قال الشارح: [ وذلك أن السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى، قالت عائشة رضي الله عنها: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر) ]، يعني: صلى الظهر بالمسجد الحرام، ثم طاف للإفاضة ثم عاد إلى منى.

قال الشارح: [ (ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق)، رواه أبو داود .

وروى أحمد عن عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) ].

وهنا ننبه إلى أنه لا يلزم الحاج أن يطوف طواف الإفاضة يوم النحر؛ لأن وقت طواف الإفاضة يمتد إلى آخر ذي الحجة، فبعد تحلله الأصغر برمي جمرة العقبة، وبالذبح ثم الحلق؛ يكون قد تحلل تحللاً أصغر، فيجوز له كل شيء إلا النساء، فالنساء لا تحل له إلا بعد التحلل الأكبر، هذا يسمى التحلل الأصغر، وهو أن يفعل أمرين من ثلاثة: الرمي، والذبح، والطواف.

والحلق لا يحسب ولا يعد.

فإن فعل من هذه الثلاثة اثنين؛ فقد تحلل تحللاً أصغر، ويلزمه أن يعود فيبيت في منى ليالي التشريق، وهي: ليلة الحادي عشر من شهر ذي الحجة، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر لمن أراد أن يتأخر، يقول تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، ونفي الإثم من صيغ الإباحة في علم أصول الفقه يعني: أنه يستوي الفعل مع الترك.

قال الشارح: [ (ثم رجع فصلى الظهر بمنى)، والمبيت في منى ليالي منى واجب ]، يعني: ليالي التشريق المبيت بمنى واجب.

قال الشارح: [ وهي إحدى الروايتين عن أحمد ]، أي: أن الحاج إذا ترك المبيت بمنى يلزمه دم؛ لأنه ترك واجباً، فالمبيت في منى واجب، ورمي الجمرات في أيام التشريق واجب مع جمرة العقبة.

وقد سمعتم ما يحصل من زحام شديد عند الجمار فيسبب ضحايا، والأمر يحتاج إلى تأمل من فقهائنا، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي جمرة العقبة ثم يقف فيدعو طويلاً بمقدار ما يقرأ سورة البقرة، فهل يتيسر للحاج هذا الأمر في هذه الأيام؟ لا يمكن.

ثانياً: إن منى مساحتها ضيقة، لا يمكن أن تتسع لمليوني حاج في وقت واحد؛ فإن الواجبات تسقط بالعجز كما يقول العلماء، والمشقة تجلب التيسير: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

إن الجمود عند بعض النصوص وإن كان فيها تهلكة للأمة، لم يأمر به الله عز وجل.

قال الشارح: [ لما روى ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته)، متفق عليه ]، وكونه يرخص للعباس مفهوم المخالفة أن من سوى العباس يجب عليه المبيت.

والنبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس ليبيت بمكة من أجل السقاية، فمن عدا العباس ليس له رخصة، هذا مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة في أصول الفقه لا يُعمل به إلا بشروط؛ لأن البعض قد يستنبط من الآيات مفهوم المخالفة، والآية ليس لها مفهوم مخالفة، كما في قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور:33]، قال قائلهم: الإكراه لا يجوز، فمفهوم المخالفة أن الرضا يجوز، وكما قلنا: إن الآية ليس لها مفهوم مخالفة، وكما في قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، غالب فعلهم أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق؛ فجاءت الآية بهذا فخرجت مخرج الغالب، فليس لها مفهوم مخالفة.

فمن شروط مفهوم المخالفة:

أن لا يخرج الكلام مخرج الغالب.

قال الشارح: [ وتخصيص العباس بالرخصة من أجل السقاية دليل على أنه لا رخصة لغيره.

وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: (لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أن يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته).

وروى الأثرم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال: لا يبيتن أحد من الحجاج إلا بمنى ]، وكثير من الحجاج المصريين بعد أن يرموا جمرة العقبة لا يرجعون إلى منى، ولكنهم يجلسون عند الجمرات ثم يعودون إلى الفندق، فهم بهذا يتركون واجباً، والواجب أن يقضوا في منى أكثر من نصف الليل، فإذا دخلوا إلى منى بعد الغروب وبقوا فيها إلى الثانية بعد منتصف الليل، فيكونون قد قضوا غالب الليل وهذا جائز.

وأما ألا يبيت في منى ولا يدرك جزء من الليل فيها؛ فهذا لا يجوز، وهذا معناه أنه ترك واجباً.

قال الشارح: [ وكان عمر يبعث رجالاً لا يدعون أحداً يبيت وراء العقبة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله نسكاً، وقد قال: (خذوا عني مناسككم).

والرواية الثانية -عن أحمد - أن المبيت غير واجب، ولا شيء على تاركه ]، وهذا الكلام مرجوح بالأدلة التي سبقت الإشارة إليها.

صفة رمي الجمرات يوم النحر وأيام التشريق

ثم قال المصنف: [ فيرمي بها الجمرات بعد الزوال ]، يعني: يبيت بمنى ويرمي الجمرات، بعد الظهر، فيرمي جمرة العقبة قبل الزوال، والجمرتان يرميهما بعد الزوال، وهذا يحتاج إلى إعادة نظر، نعم قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الرمي بعد الزوال، لكن ليس معنى هذا أن الرمي لا يمتد، بل يمتد لأهل الأعذار إلى غروب الشمس، بل إلى الليل؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن يرمي الحجيج مرة واحدة بعد الزوال؛ فلا بد أيضاً من إعادة النظر في بعض مناسك الحج في ضوء الزحام الشديد:

كالرمل، فلا يمكن أن ترمل حول البيت في حال الزحام الشديد.

وكالدعاء بعد رمي الجمار، فلا يتصور أن تقف وتدعو بمقدار سورة البقرة.

فهناك بعض الأمور الفقهية تحتاج من فقهاء الأمة إلى إعادة نظر، لكن ليس كما قال الدكتور القرضاوي : أنه يجوز أن تتصدق بثمن الأضحية لأجل فلسطين.

وهذا الكلام يخالف الشرع؛ لأن الأضحية نسك، والغرض منها إسالة الدماء في يوم النحر، وهذه الفتوى توزع على النقابات المهنية ويقولون فيها: خذ الأجر مرتين، أجر الأضحية وأجر التصدق لإخوانك في فلسطين، ولم يقل بهذا الكلام أحد من أهل العلم أبداً، وليس له سلف، فإن الأضحية نسك، ونحن نجل العلماء ونقدرهم، لكن الحق أحب إلينا، فإسالة الدماء في يوم العيد مقصودة لذاتها، وأحب الأعمال إلى الله في يوم النحر: هي إسالة الدماء، لو أن الأمة جميعاً تصدقت بالمبالغ إلى فلسطين، إذاً لن تسال دماء في يوم العيد، إذاً ما فائدة يوم النحر، وما سمي بهذا الاسم إلا وفيه نحر، وقد صدروا الفتوى بحديث موضوع.. مكذوب وهو عند ابن ماجه ، (ما بال الأضحية؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم، لكم بكل شعرة حسنة)، وقد حققت هذه الأحاديث مجلة التوحيد في هذا الشهر.

فلابد أن يراجع نفسه من قال هذا الكلام.

قال الشارح: [ فيرمي الجمرات بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات، فيبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة؛ لأن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة ]:

يرمي في يوم النحر سبعاً.

وفي اليوم الأول من أيام التشريق واحداً وعشرين.

ثم في اليوم الثاني واحداً وعشرين.

وإن تأخر في اليوم الثالث فيرمي واحداً وعشرين فيكون المجموع: سبعين حصاة.

قال الشارح: [ لأن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة: سبع منها يوم النحر بعد طلوع الشمس، وسائرها في أيام التشريق بعد زوال الشمس، كل يوم إحدى وعشرين حصاة لثلاث جمرات ]، ويجوز التوكيل في الرمي لأهل الأعذار، فالمرأة بدلاً من أن ترمي الجمرة وتخالط الرجال في هذا الزحام الشديد؛ يجوز لها أن توكل غيرها في الرمي، ولا بأس بذلك، فهي معذورة.

قال الشارح: [ يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة، وتلي مسجد الخيف، فيجعلها عن يساره ويستقبل القبلة، ويرميها بسبع حصيات كما وصفنا في جمرة العقبة، ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصا، فيقف طويلاً ]، بعد رمي الجمرة الصغرى يقف طويلاً، أما الآن فهذا صعب جداً، وبعض الناس يريد أن يطبق هذه السنة فيعرقل الناس، والبعض يصر على تقبيل الحجر، ولو كان فيه إيذاء للمسلمين، وليس هذا من الفقه بحال.

ثم قال الشارح: [ يدعو الله عز وجل رافعاً يديه، ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة، ويرميها بسبع حصيات، ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ولا يقف عندها ]، أي: أنه يقف بعد الجمرة الأولى وبعد الثانية.

قال الشارح: [ قالت عائشة رضي الله عنها: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث فيها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، يقف عند الأولى والثانية، ويطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها) رواه أبو داود .

وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات، فيكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم ويُسْهِل..) ]، ومعنى ذلك: أنه يمشي بسهولة ويسر.

قال الشارح: [ (ويقوم قياماً طويلاً ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ بذات الشمال فيُسْهِل، ويقوم مستقبلاً القبلة قياماً طويلاً، ثم يرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف، قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) ]، وابن عمر كان متمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فإنه في يوم مطر شديد -وهذا الحديث في البخاري في كتاب الأذان- كان المؤذن يؤذن فوق سطح المسجد والجو شتاء، فقال ابن عمر حينما بلغ المؤذن: حي على الصلاة، قال: قل: صلوا في رحالكم، يعني: أمره أن يستبدل: حي على الصلاة بقوله: صلوا في رحالكم، ثم قال للناس: فعلها من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ففي حال المطر الشديد يجوز للمؤذن أن يستبدل: حي على الصلاة بقوله: صلوا في رحالكم؛ لأنها رخصة من رخص ترك الجماعة.

يقول الشارح: [ وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه بعرفة ويزيد: وأصلح -أو أتم- لنا مناسكنا، وقال ابن المنذر : كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند رمي الجمرات: اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً، وكان ابن عمر وابن عباس يرفعان أيديهما في الدعاء إذا رميا الجمرة، ويطيلان الوقوف.

وروى الأثرم قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة، ويكون الرمي بعد الزوال لما سبق، وقال جابر : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس، أخرجه مسلم ، وقد قال: (خذوا عني مناسككم) ].

ثم قال المصنف: [ ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك ]، هذا اليوم الأول يوم الحادي عشر، ويوم العاشر يسمى يوم النحر.

وأيام التشريق تبدأ بيوم الحادي عشر من ذي الحجة، ولا يجوز لأحد أن يصوم يوم ثلاثة عشر باعتباره أحد أيام البيض؛ لأن النهي واضح، (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق)، يقول الشيخ الألباني : وحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله) حديث متواتر؛ فلا يجوز أن تصوم الثالث عشر، إنما تصوم الرابع عشر والخامس عشر، ثم تصوم بدل الثالث عشر السادس عشر، هذا ما عليه العلماء.

يقول المصنف: [ ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك ]، أي: يرمي في يوم الحادي عشر، ثم الثاني عشر.

قال الشارح: [ يعني: في وقته وصفته وهيئته، لا نعلم في ذلك خلافاً، وإن أحب أن يتعجل في يومين ]، يعني: يخرج من منى بعد الرمي في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، ويخرج قبل الغروب، فإن غربت عليه الشمس؛ فيجب أن يبيت بها.

فينبغي للحاج بعد رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر أن يترك منى قبل غروب الشمس.

وهنا مسألة: لو أن رجلاً رمى الجمرات في اليوم الثاني من أيام التشريق وحزم الأمتعة بعد العصر، وتوجه للخروج، فأعاقه الزحام الشديد عن الخروج من منى فلم يخرج إلا بعد غروب الشمس؛ فما حكمه؟

الجواب: يخرج ولا شيء عليه؛ لأنه نوى أن يرحل، وحبسه حابس رغم إرادته.

ما يفعله من أراد التعجل في يومين من أيام التشريق

قال الشارح: [ أجمع أهل العلم أن لمن أراد الخروج من منى شاخصاً عن الحرم غير مقيم بمكة، أو ينفر بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق إذا رمى فيه، فأما إن أحب أن يقيم بمكة؛ فقد قال أحمد : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة ]، يعني: أن مذهب الإمام أحمد فيمن تعجل أن يخرج من مكة ويسافر، فطالما أنك مقيم بمكة أياماً تأخر، إذ ما الفرق بين المبيت بمكة ومنى، التعجل لمن أراد أن يسافر من مكة، أما إن كنت باقياً في مكة فالأولى لك أن تتأخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر؛ لذلك فإنك حين تنظر إلى منى في يوم الثالث عشر تجدها خاوية إلا من القليل، وعندما تذهب إلى مكة تجد الحجاج في الفنادق لا زالوا يقيمون فيها، لماذا تقيمون في الفنادق؟ أقيموا في منى، فإن أراد أن يرحل تعجل، وإن أراد أن يقيم فيتأخر.

قال الشارح: [ وكان مالك يقول: من كان له عذر من أهل مكة؛ فله أن يتعجل في يومين، وإن أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا، ويحتج من يذهب إلى هذا بقول عمر : من شاء من الناس كلهم أن ينفر في النفر الأول إلا آل خزيمة فلا ينفروا إلا في النفر الآخر، قال ابن المنذر : جعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر : إلا آل خزيمة، أي: أنهم أهل حزم، وظاهر المذهب جواز النفر في النفر الأول لكل أحد ]، يعني: يجوز أن يخرج من منى حتى وإن تأخر بمكة، لكن هذا على سبيل الاستحباب؛ لأن الآية جاءت واضحة قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، وإن أدركه الغروب ولم يخرج من منى؛ يلزمه المبيت بها حتى يرمي في اليوم الثالث عشر من أيام ذي الحجة.

الفرق بين ختام عمل الحاج في الأنساك الثلاثة

قال الشارح: [ فإن كان متمتعاً أو قارناً؛ فقد انقضى حجه وعمرته، وإن كان مفرداً خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه، ثم أتى مكة فطاف وسعى وحلق أو قصر ]، والمعنى: أن المتمتع والقارن ينتهي نسكهما في اليوم الثاني عشر من أيام ذي الحجة، والمفرد يجوز له أن يذهب إلى التنعيم ليحرم بالعمرة بعد أن أدى الحج.

قال الشارح: [ وإن كان مفرداً خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه، ثم أتى مكة فطاف وسعى وحلق أو قصر، فإن لم يكن له شعر استحب أن يمرر الموسى على رأسه، وقد تم حجه وعمرته؛ لأنه قد فعل أفعال الحج والعمرة.

وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، ولكن عليه وعلى المتمتع دم ]، وهذا مقارنة بين المتمتع وبين القارن وبين المفرد، وإذا نظرنا إلى أعمال كل منهم فسوف نجد أن على المتمتع أن يطوف: طواف العمرة، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع.

وعلى القارن أن يطوف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، لكن طواف القدوم بالنسبة للقارن سنة، إن لم يفعله فلا شيء عليه.

أما المفرد فمثل القارن إلا أمر واحد وهو:

أن القارن عليه دم، والمفرد ليس عليه دم، هذا الفرق الوحيد بين القارن وبين المفرد.

قال الشارح: [ وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، ولكن عليه وعلى المتمتع دم ]، فالقارن عليه دم، والمتمتع عليه دم.

وهنا مسألة مهمة فلو أن رجلاً دخل إلى مكة بثيابه لأن معه تأشيرة عمل، ولا يستطيع أن يحرم من الميقات، فماذا يلزمه؟

الجواب: إن كان مفرداً لزمه دم واحد، هو دم ترك الإحرام من الميقات، وإن كان متمتعاً فعليه دمان: الدم الأول دم ترك الواجب، والدم الثاني دم التمتع، لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196].

قال الشارح: [ بل فعلهما سواء ]، أي القارن والمفرد.

قال الشارح: [ ويجزيه طواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته، نص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه ]، أي: أن المفرد يلزمه طواف واحد، ويلزمه سعي واحد، والقارن كذلك، والمتمتع يلزمه طوافان وسعيان، طواف العمرة وطواف الحج، وسعي العمرة وسعي الحج، ولو قال قائل: أين طواف العمرة؟ قلنا: كحال الطهارة الصغرى حينما تدخل في الكبرى، والمعنى: أنك حينما تغتسل وتنوي بغسلك الوضوء؛ يدخل الوضوء في الغسل، تماماً كما قال الإمام أحمد ، ودليله واضح في صحيح مسلم أن المفرد والقارن ليس عليهما إلا طواف وسعي واحد.

قال الشارح: [ وعنه ]، يعني: عن أحمد في رواية أخرى.

قال الشارح: [ أن على القارن طوافين وسعيين، روي ذلك عن علي ، ولم يصح عنه، واحتج من قال ذلك بقوله سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وتمامهما أن يأتي بأفعالهما على الكمال، ولم يفرق بين القارن وغيره، قالوا: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان) ]، حديث الدارقطني ضعيف، وبهذا يستدل من قال: إن على القارن طوافين وسعيين، وهذا مذهب أحمد في الرواية الأخرى.

والراجح: أن عليه طواف واحد وسعي واحد، وسأذكر الأدلة بعد استعراض الرأي الثاني.

يقول الشارح: [ ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا لهما طوافاً واحداً، متفق عليه.

وفي مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة لما قرنت بين الحج والعمرة: يسعك طوافك لحجك وعمرتك).. الحديث، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأه طواف واحد وسعي واحد حتى يحل منهما جميعاً)، وعن جابر : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً)، رواهما الترمذي ، وقال في كل واحد منهما: حديث حسن.

وعنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه لعمرتهم وحجهم حين قدموا إلا طوافاً واحداً)، رواه الأثرم وابن ماجه ، كل ذلك يستدل به الإمام أحمد في روايته الأولى على أن القارن والمفرد لهما طواف واحد وسعي واحد، وينتصر إلى هذا الرأي الذي فيه الحديث المتفق عليه، والذي رواه جابر أيضاً، لكن القارن عليه دم.

قال الشارح: [ لكن عليه دم، أكثر أهل العلم على القول بوجوب الدم عليه ]، يعني: على القارن.

قال الشارح: [ ولا نعلم فيه اختلافاً، إلا ما حكي عن داود أنه قال: لا دم عليه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرن بين حجه وعمرته؛ فليهرق دماً)، ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين ].

فالقارن هنا يؤدي العمرة والحج معاً، فكأنه يتمتع لكنه يظل على إحرامه، يعني: اختصر على نفسه سفراً، وهو سفر العمرة، فأدخل العمرة في الحج؛ فيلزمه دم.

أما المفرد فيؤدي الحج فقط؛ فلا يلزمه دم.

قال المصنف: [وعلى المتمتع دم لقوله سبحانه: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196] ]، ما معنى أن على المتمتع دم؟

يعني: هدي يذبحه في مكة، ويأكل منه لأنه هدي يختلف عن الفدية.

قال الشارح: [ ووقت وجوبه قال القاضي: إذا وقف بعرفة، وعنه: يجب إذا أحرم بالحج؛ لأن الله قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196] ]، والفتوى المعمول بها عند المصريين: أنهم يذبحون في يوم عرفة، يذبحون دم التمتع قبل يوم النحر، وهذا يفتي به كثير من إخواننا، وهذا الرأي مرجوح، ولعله ذكره هنا.

قال الشارح: [ وعلى المتمتع دم، ووقت وجوبه قال القاضي: إذا وقف بعرفة، ورواه المروذي عن أحمد ، وعنه: يجب إذا أحرم بالحج؛ لأن الله قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196].

ووجه الأول: أن التمتع بالعمرة إلى الحج إنما يحصل بعد وجود الحج معه، ولا يحصل ذلك إلا بالوقوف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) ]، إنما الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح في يوم النحر، ولم يذبح في يوم عرفة، وفعله حجة، وقد قال: (خذوا عني مناسككم).

ومن لم يجد الهدي فيلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، يقول الله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196]؛ لأنه الآن عجز عن أداء الواجب، وأي واجب يعجز عن أدائه؛ فإنه يصوم له عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، والمقصود بقوله: (إذا رجع): أي: إذا انتهى من أعمال الحج، وليس المقصود: إذا رجع إلى بلده.

قال الشارح: [ فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع ]، يعني: لا يصوم في يوم عرفة؛ ليتقوى على الدعاء، فلا يشرع صيام عرفة للحاج، فإن أراد أن يصوم الثلاثة أيام فيصومها قبل يوم عرفة.

فإن صام يوم عرفة فإنه يسقط عنه، لكنه فعل خلاف الأولى، وارتكب مكروهاً.

قال الشارح: [ لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن المتمتع إذا لم يجد الهدي ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، وقد نص الله عليه سبحانه في كتابه بقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ [البقرة:196].. الآية.

فأما وقت الصيام فالاختيار في الثلاثة أن يصومها في ثامن الإحرام بالحج ويوم النحر؛ لقول الله سبحانه: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196].

وكان ابن عمر وعائشة وإمامنا يقولون: يصومهن ما بين إهلاله بالحج ويوم عرفة، فإن لم يحرم إلا يوم التروية؛ صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة ].

بدأ يذكر كيف يصوم الثلاثة أيام؛ فإن النهي عن صيام يوم النحر وأيام التشريق بالنسبة للمقيم.. لغير الحاج، أما الحاج فله حكم خاص، فله أن يصوم أيام التشريق إن أراد، لقوله تعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196].

[ وأما السبعة الأيام فلها وقت اختيار واستحباب وجواز، أما وقت الاختيار: فإذا رجع إلى أهله؛ لأنه عمل بالإجماع، وأقرب إلى موافقة لفظ الاختيار، قال ابن عمر : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)، متفق عليه ]، والأفضل أن يصوم السبعة بعد أن يرجع إلى أهله.

قال ا لشارح: [ وأما وقت الجواز فظاهر كلام أحمد أنه إذا رجع من مكة، ويكون معنى الآية: إذا رجعتم من الحج ]، يعني: بعد أن يؤدي النسك وينتهي منها يصوم، سواء خرج من مكة أو لم يخرج؛ لأن معنى (إذا رجعتم): انتهيتم من مناسككم، لكن الأفضل أن يبقى إلى أن يعود إلى أهله فيصوم السبعة الأيام متتالية أو متفرقة؛ لأنه لم ينص على التتابع، والله تعالى أعلم.

يقول المصنف: [ ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها ]، أي: أن الحاج بعد أن يرمي جمرة العقبة، وبعد أن يذبح ويحلق يعود إلى منى، فيبيت بها.

قال الشارح: [ وذلك أن السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى، قالت عائشة رضي الله عنها: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر) ]، يعني: صلى الظهر بالمسجد الحرام، ثم طاف للإفاضة ثم عاد إلى منى.

قال الشارح: [ (ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق)، رواه أبو داود .

وروى أحمد عن عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) ].

وهنا ننبه إلى أنه لا يلزم الحاج أن يطوف طواف الإفاضة يوم النحر؛ لأن وقت طواف الإفاضة يمتد إلى آخر ذي الحجة، فبعد تحلله الأصغر برمي جمرة العقبة، وبالذبح ثم الحلق؛ يكون قد تحلل تحللاً أصغر، فيجوز له كل شيء إلا النساء، فالنساء لا تحل له إلا بعد التحلل الأكبر، هذا يسمى التحلل الأصغر، وهو أن يفعل أمرين من ثلاثة: الرمي، والذبح، والطواف.

والحلق لا يحسب ولا يعد.

فإن فعل من هذه الثلاثة اثنين؛ فقد تحلل تحللاً أصغر، ويلزمه أن يعود فيبيت في منى ليالي التشريق، وهي: ليلة الحادي عشر من شهر ذي الحجة، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر لمن أراد أن يتأخر، يقول تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، ونفي الإثم من صيغ الإباحة في علم أصول الفقه يعني: أنه يستوي الفعل مع الترك.

قال الشارح: [ (ثم رجع فصلى الظهر بمنى)، والمبيت في منى ليالي منى واجب ]، يعني: ليالي التشريق المبيت بمنى واجب.

قال الشارح: [ وهي إحدى الروايتين عن أحمد ]، أي: أن الحاج إذا ترك المبيت بمنى يلزمه دم؛ لأنه ترك واجباً، فالمبيت في منى واجب، ورمي الجمرات في أيام التشريق واجب مع جمرة العقبة.

وقد سمعتم ما يحصل من زحام شديد عند الجمار فيسبب ضحايا، والأمر يحتاج إلى تأمل من فقهائنا، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي جمرة العقبة ثم يقف فيدعو طويلاً بمقدار ما يقرأ سورة البقرة، فهل يتيسر للحاج هذا الأمر في هذه الأيام؟ لا يمكن.

ثانياً: إن منى مساحتها ضيقة، لا يمكن أن تتسع لمليوني حاج في وقت واحد؛ فإن الواجبات تسقط بالعجز كما يقول العلماء، والمشقة تجلب التيسير: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

إن الجمود عند بعض النصوص وإن كان فيها تهلكة للأمة، لم يأمر به الله عز وجل.

قال الشارح: [ لما روى ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته)، متفق عليه ]، وكونه يرخص للعباس مفهوم المخالفة أن من سوى العباس يجب عليه المبيت.

والنبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس ليبيت بمكة من أجل السقاية، فمن عدا العباس ليس له رخصة، هذا مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة في أصول الفقه لا يُعمل به إلا بشروط؛ لأن البعض قد يستنبط من الآيات مفهوم المخالفة، والآية ليس لها مفهوم مخالفة، كما في قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور:33]، قال قائلهم: الإكراه لا يجوز، فمفهوم المخالفة أن الرضا يجوز، وكما قلنا: إن الآية ليس لها مفهوم مخالفة، وكما في قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، غالب فعلهم أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق؛ فجاءت الآية بهذا فخرجت مخرج الغالب، فليس لها مفهوم مخالفة.

فمن شروط مفهوم المخالفة:

أن لا يخرج الكلام مخرج الغالب.

قال الشارح: [ وتخصيص العباس بالرخصة من أجل السقاية دليل على أنه لا رخصة لغيره.

وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: (لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أن يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته).

وروى الأثرم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال: لا يبيتن أحد من الحجاج إلا بمنى ]، وكثير من الحجاج المصريين بعد أن يرموا جمرة العقبة لا يرجعون إلى منى، ولكنهم يجلسون عند الجمرات ثم يعودون إلى الفندق، فهم بهذا يتركون واجباً، والواجب أن يقضوا في منى أكثر من نصف الليل، فإذا دخلوا إلى منى بعد الغروب وبقوا فيها إلى الثانية بعد منتصف الليل، فيكونون قد قضوا غالب الليل وهذا جائز.

وأما ألا يبيت في منى ولا يدرك جزء من الليل فيها؛ فهذا لا يجوز، وهذا معناه أنه ترك واجباً.

قال الشارح: [ وكان عمر يبعث رجالاً لا يدعون أحداً يبيت وراء العقبة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله نسكاً، وقد قال: (خذوا عني مناسككم).

والرواية الثانية -عن أحمد - أن المبيت غير واجب، ولا شيء على تاركه ]، وهذا الكلام مرجوح بالأدلة التي سبقت الإشارة إليها.

ثم قال المصنف: [ فيرمي بها الجمرات بعد الزوال ]، يعني: يبيت بمنى ويرمي الجمرات، بعد الظهر، فيرمي جمرة العقبة قبل الزوال، والجمرتان يرميهما بعد الزوال، وهذا يحتاج إلى إعادة نظر، نعم قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الرمي بعد الزوال، لكن ليس معنى هذا أن الرمي لا يمتد، بل يمتد لأهل الأعذار إلى غروب الشمس، بل إلى الليل؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن يرمي الحجيج مرة واحدة بعد الزوال؛ فلا بد أيضاً من إعادة النظر في بعض مناسك الحج في ضوء الزحام الشديد:

كالرمل، فلا يمكن أن ترمل حول البيت في حال الزحام الشديد.

وكالدعاء بعد رمي الجمار، فلا يتصور أن تقف وتدعو بمقدار سورة البقرة.

فهناك بعض الأمور الفقهية تحتاج من فقهاء الأمة إلى إعادة نظر، لكن ليس كما قال الدكتور القرضاوي : أنه يجوز أن تتصدق بثمن الأضحية لأجل فلسطين.

وهذا الكلام يخالف الشرع؛ لأن الأضحية نسك، والغرض منها إسالة الدماء في يوم النحر، وهذه الفتوى توزع على النقابات المهنية ويقولون فيها: خذ الأجر مرتين، أجر الأضحية وأجر التصدق لإخوانك في فلسطين، ولم يقل بهذا الكلام أحد من أهل العلم أبداً، وليس له سلف، فإن الأضحية نسك، ونحن نجل العلماء ونقدرهم، لكن الحق أحب إلينا، فإسالة الدماء في يوم العيد مقصودة لذاتها، وأحب الأعمال إلى الله في يوم النحر: هي إسالة الدماء، لو أن الأمة جميعاً تصدقت بالمبالغ إلى فلسطين، إذاً لن تسال دماء في يوم العيد، إذاً ما فائدة يوم النحر، وما سمي بهذا الاسم إلا وفيه نحر، وقد صدروا الفتوى بحديث موضوع.. مكذوب وهو عند ابن ماجه ، (ما بال الأضحية؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم، لكم بكل شعرة حسنة)، وقد حققت هذه الأحاديث مجلة التوحيد في هذا الشهر.

فلابد أن يراجع نفسه من قال هذا الكلام.

قال الشارح: [ فيرمي الجمرات بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات، فيبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة؛ لأن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة ]:

يرمي في يوم النحر سبعاً.

وفي اليوم الأول من أيام التشريق واحداً وعشرين.

ثم في اليوم الثاني واحداً وعشرين.

وإن تأخر في اليوم الثالث فيرمي واحداً وعشرين فيكون المجموع: سبعين حصاة.

قال الشارح: [ لأن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة: سبع منها يوم النحر بعد طلوع الشمس، وسائرها في أيام التشريق بعد زوال الشمس، كل يوم إحدى وعشرين حصاة لثلاث جمرات ]، ويجوز التوكيل في الرمي لأهل الأعذار، فالمرأة بدلاً من أن ترمي الجمرة وتخالط الرجال في هذا الزحام الشديد؛ يجوز لها أن توكل غيرها في الرمي، ولا بأس بذلك، فهي معذورة.

قال الشارح: [ يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة، وتلي مسجد الخيف، فيجعلها عن يساره ويستقبل القبلة، ويرميها بسبع حصيات كما وصفنا في جمرة العقبة، ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصا، فيقف طويلاً ]، بعد رمي الجمرة الصغرى يقف طويلاً، أما الآن فهذا صعب جداً، وبعض الناس يريد أن يطبق هذه السنة فيعرقل الناس، والبعض يصر على تقبيل الحجر، ولو كان فيه إيذاء للمسلمين، وليس هذا من الفقه بحال.

ثم قال الشارح: [ يدعو الله عز وجل رافعاً يديه، ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة، ويرميها بسبع حصيات، ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ولا يقف عندها ]، أي: أنه يقف بعد الجمرة الأولى وبعد الثانية.

قال الشارح: [ قالت عائشة رضي الله عنها: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث فيها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، يقف عند الأولى والثانية، ويطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها) رواه أبو داود .

وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات، فيكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم ويُسْهِل..) ]، ومعنى ذلك: أنه يمشي بسهولة ويسر.

قال الشارح: [ (ويقوم قياماً طويلاً ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ بذات الشمال فيُسْهِل، ويقوم مستقبلاً القبلة قياماً طويلاً، ثم يرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف، قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) ]، وابن عمر كان متمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فإنه في يوم مطر شديد -وهذا الحديث في البخاري في كتاب الأذان- كان المؤذن يؤذن فوق سطح المسجد والجو شتاء، فقال ابن عمر حينما بلغ المؤذن: حي على الصلاة، قال: قل: صلوا في رحالكم، يعني: أمره أن يستبدل: حي على الصلاة بقوله: صلوا في رحالكم، ثم قال للناس: فعلها من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ففي حال المطر الشديد يجوز للمؤذن أن يستبدل: حي على الصلاة بقوله: صلوا في رحالكم؛ لأنها رخصة من رخص ترك الجماعة.

يقول الشارح: [ وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه بعرفة ويزيد: وأصلح -أو أتم- لنا مناسكنا، وقال ابن المنذر : كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند رمي الجمرات: اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً، وكان ابن عمر وابن عباس يرفعان أيديهما في الدعاء إذا رميا الجمرة، ويطيلان الوقوف.

وروى الأثرم قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة، ويكون الرمي بعد الزوال لما سبق، وقال جابر : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس، أخرجه مسلم ، وقد قال: (خذوا عني مناسككم) ].

ثم قال المصنف: [ ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك ]، هذا اليوم الأول يوم الحادي عشر، ويوم العاشر يسمى يوم النحر.

وأيام التشريق تبدأ بيوم الحادي عشر من ذي الحجة، ولا يجوز لأحد أن يصوم يوم ثلاثة عشر باعتباره أحد أيام البيض؛ لأن النهي واضح، (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق)، يقول الشيخ الألباني : وحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله) حديث متواتر؛ فلا يجوز أن تصوم الثالث عشر، إنما تصوم الرابع عشر والخامس عشر، ثم تصوم بدل الثالث عشر السادس عشر، هذا ما عليه العلماء.

يقول المصنف: [ ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك ]، أي: يرمي في يوم الحادي عشر، ثم الثاني عشر.

قال الشارح: [ يعني: في وقته وصفته وهيئته، لا نعلم في ذلك خلافاً، وإن أحب أن يتعجل في يومين ]، يعني: يخرج من منى بعد الرمي في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، ويخرج قبل الغروب، فإن غربت عليه الشمس؛ فيجب أن يبيت بها.

فينبغي للحاج بعد رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر أن يترك منى قبل غروب الشمس.

وهنا مسألة: لو أن رجلاً رمى الجمرات في اليوم الثاني من أيام التشريق وحزم الأمتعة بعد العصر، وتوجه للخروج، فأعاقه الزحام الشديد عن الخروج من منى فلم يخرج إلا بعد غروب الشمس؛ فما حكمه؟

الجواب: يخرج ولا شيء عليه؛ لأنه نوى أن يرحل، وحبسه حابس رغم إرادته.