العدة شرح العمدة [36]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

لا زالت الحملة المسعورة الجاهلية السفيهة تواصل كتاباتها ضد الحجامة، فكتب جاهلهم يقول: الحجامة عملية نصب ليس إلا. وكتب سفيه آخر يقول: إن شرائط فلان من المشايخ في الحجامة تنافس فلاناً وفلانة، ونسأل مفتي مصر: لماذا يسكت عن هذه الفتاوى التي تخلط الدين بالطب، وتصدر عما يسمى بدار الفتوى بوزارة العدل؟

الحقيقة إن هؤلاء يروجون لأنفسهم، والأخ الفاضل الذي دفع لي هذه المقالة كان من الممكن أن يطويها وأن يضعها في الحقيبة؛ لأن هؤلاء لا يعرفون من الدين شيئاً، لا يعرفون البخاري ولا مسلماً ، فقد جاء في كتاب الطب عند البخاري : (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم)، (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم)، وأمر بالتداوي بالحجامة، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والبغوي .. كل ذلك لا يعرفونه، بل ربما لا يسمعون عن هذه الأسماء أصلاً، فلا تشغل نفسك بهؤلاء الصراصير حفظك الله، ولا تضيع أوقاتنا بهؤلاء.

فنحن عندنا الكتاب والسنة نلتزم بهما، فإن الإمام البخاري في كتاب الطب بوب على الحجامة خمسة أبواب، وأخرج لها الأحاديث، وصاحب الأرياف أفقه من هذا الجاهل، فأصحاب الأرياف يعرفون أن صحيح البخاري كتاب تلقته الأمة بالقبول، حتى الفلاح الذي يحرث في الأرض يعلم أن البخاري له قبول عند علماء الأمة، وهذا الجاهل يقع في البخاري ولا يعرفه.

الحجامة ثبتت في الشرع ولا ينكرها إلا جاهل أو سفيه، فهو يريد أن يروج لصحيفته فلا تقع فريسة له، فهو يطعن في ثوابت الدين ويكون مسروراً حين نشغل أنفسنا به.

أذكر أن أخاً فاضلاً دفع لي مقالاً في الأهرام للدكتور مصطفى محمود وهو مقال طيب بعنوان: عاصمة الكراهية إسرائيل، نقل فيه خطاب الرئيس الأميركي من على شبكة الإنترنت وخطاب المترجم. قال: لن نستريح حتى نحقق الهدف من سياستنا، وهو عدم وجود مسلم يحمل اللحية في وجهه، أو امرأة تلبس البرقع أو النقاب على وجهها، إذاً: هي حملة مسعورة واضحة المعاني، وهذا هو هدفهم، ولكن: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، والحمد لله تزداد الأعداد يوماً بعد يوم والذين كانوا في جحيم المعصية سرعان ما تحولوا إلى الطاعة، فهؤلاء إذا رأوا مسلماً ملتزماً بلحية أو منتقبة بنقاب أخذت قلوبهم تغلي؛ لأن في قلوبهم مرضاً فزادهم الله مرضاً، ونسأل الله سبحانه أن ينصر دينه بنا أو بغيرنا.

[ باب: ما يفسد الصوم ].

يقولون: الفساد والبطلان، فهل هناك فرق بين الفاسد والباطل عند العلماء؟

الجواب: نعم. عند جمهورهم: الفاسد هو الباطل، فنقول: الصيام فاسد والصيام باطل ولا فرق، لكن الأحناف فرقوا بين الفاسد والباطل، والفرق بين الفاسد والباطل عند الأحناف: أن الفاسد ما لم يشرع بأصله، بمعنى: هو المحرم لذاته، فبيع لحم الخنزير فاسد؛ لأنه حرام بذاته، فعندهم إذا ثبت تحريم شيء بأصله فهو فاسد، والباطل: ما ثبتت حرمته لوصفه كالبيع عند نداء الجمعة، فإن أصل البيع مشروع، لكن ظهر عليه وصف وهو البيع عند نداء الجمعة، وهو وصف حوله من الحل إلى الحرام، فلو عقد رجل عقداً عند نداء الجمعة، كأن يكون باع سيارة منك عند نداء الجمعة، فعقد البيع باطل عند الأحناف؛ لأن البيع عندهم أصله مشروع.

وعموماً فلا فرق بين الفاسد والباطل عند جمهور العلماء.

الأكل والشرب عمداً في نهار رمضان

قال المصنف رحمه الله تعالى: [من أكل أو شرب أو استعط أو أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس أو أمذى أو حجم أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه فسد ].

فمفطرات الصائم أولاً: الأكل والشرب عمداً؛ لأن الله يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فمن أكل أو شرب متعمداً فقد بطل صومه، أو فسد صومه. كلاهما صحيح، والمرجع هنا إلى الإرادة، فقد يقول قائل: أنا أسير في الطريق، فدخلت في فمي بعوضة رغم إرادتي فابتلعتها فما حكم الصيام؟

الجواب: صيامك صحيح؛ لأنك لم تتعمد، وقد يقول قائل: تمضمضت لصلاة الظهر، فدخلت إلى جوفي قطرة ماء رغم إرادتي، فما حكم الصيام؟ الجواب: المرجع إلى الإرادة، فإن أخطأت فلا شيء عليك، ومعنى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ : بيان النهار من سواد الليل.

قال: [ فإذا أكل أو شرب مختاراً ذاكراً لصومه أبطله؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم بغير عذر، سواء كان غذاء أو غير غذاء كالحصاة والنواة؛ لأنه أكل] فأي طعام أو شراب يدخل إلى جوفه تعمداً يفسد به الصوم.

المبالغة في المضمضة والاستنشاق

قال المؤلف رحمه الله: [إن استعط فسد صومه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة : (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ فيه بحيث يصل إلى خياشيمه].

فالمفروض أن يبالغ في المضمضمة والاستنشاق إلا أن يكون صائماً، والمبالغة معناها: أن يمج الماء في فمه، وأن يغرغره في حلقه، أما في رمضان فإنه يتمضمض دون أن يبالغ.

ثالثاً: قال: [ وإن أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان، مثل إن احتقن أو داوى جائفاً أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه، أو وصل إلى دماغه شيئاً مثل إن قطر في أذنيه].

يعني: من المنافذ المعتادة، فما يصل إلى الجوف يفطر الصائم، وهذا القول عليه ملاحظات عند بعض العلماء؛ لأنه لا يريده غذاءً، والقطرة المعتادة لا تفطر الصائم، سواء كانت في العين أو في الأنف أو في الأذن، لكن الأحوط: أن تترك القطرة في صيام رمضان إلا قطرة العين، فإنها لا تصل إلى الجوف.

يطرأ سؤال في كل سنة: بخاخة الوزير هل تفطر الصائم أم لا؟ وبخاخة الوزير: هي التي توسع الشعب الهوائية، فلا هي طعام ولا في معنى الغذاء؛ لذلك يجوز أن تستخدم، وعلى الراجح من أقوال العلماء: أنها لا تبطل الصيام.

الاستقاء عمداً

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن استقاء عمداً فعليه القضاء]. يعني: أدخل يده في فمه واستقاء عمداً.

قال: [ قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامداً؛ لما روى أبو هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض) حديث حسن].

إذاً: الاستقاء يبطل الصيام، والقيء رغم الإرادة ليس عليه شيء، وقوله: (من ذرعه)، يعني: غلبه القيء، ومن استقاء عليه القضاء؛ لأنه إذا استقاء متعمداً بطل الصوم.

الاستمناء والتقبيل واللمس والإمذاء والجماع

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن استمنى بيده فأنزل أفطر ]، يعني: نكح يده فأمنى بطل الصوم؛ [ لأنه أنزل عن مباشرة أشبه القبلة ].

وعليه توبة واستغفار وندم وإقلاع وعدم العودة إلى هذه المعصية لارتكابه حرمة مغلظة كبيرة في نهار رمضان، وعليه أن يمسك بقية اليوم لحرمة رمضان، ويقضي يوماً بدلاً عن هذا اليوم.

قال: [ ولو قبل أو لمس أو أمذى فسد صومه لذلك، أما إذا أمنى]

المني معروف ينزل من الرجل لإثارة الجنس، قال تعالى: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6]، والمني يصاحبه شهوة الفرج وقشعريرة في الجسد، أما المذي فليس منه إلا أن يغسل المذاكير؛ لحديث علي بن أبي طالب والحديث عند البخاري في كتاب العلم: باب: لا يتعلم العلم مستكبر ولا مستح، قال علي رضي الله عنه: (كنت رجلاً مذاء)، يعني: كثير المذي، والمذي: هو السائل الذي ينزل من الرجل نتيجة التكثير في الجماع أو أي إثارة، لكن لا يصاحبه شهوة لا في الفرج ولا في الجسد.

قال: (فأمرت المقداد بن الأسود يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمنزلة فاطمة)؛ يعني: لأنه زوج ابنته، فلا أسأله عن هذا الأمر المحرج، فكلف المقداد ، ولذلك بوب البخاري باباً يقول: من استحيا أن يسأل يكلف غيره وهو يسمع، لا يمنعه الحياء من التعلم بنفسه أو بغيره. قال: (فقال المقداد : يا رسول الله! ما حكم المذي؟ قال: يكفيك منه الوضوء وأن تغسل مذاكيرك)، إذاً: تغسل المذاكير وليس منه الغسل.

فإن قيل: هل المذي يفسد الصوم؟

الجواب: هذه مسألة خلافية. قال الحنابلة: يفسد الصوم.

يقول: [ ولو قبل ] يقبل الزوجة لا أنه يقبل الصديقة؛ لأن هناك تقبيلاً لصديقة، وتبادل الزوجات في زمن الحضارة، هذا يعطي زوجته لهذا وهذا يعطي زوجته لهذا كتبادل النعاج.

أقول: لا ينبغي للرجل أن يقبل الزوجة في نهار رمضان إلا أن يكون مالكاً لإربه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل عائشة ، والنبي صلى الله عليه وسلم أملكنا لإربه، فهل أنت مثل النبي عليه الصلاة والسلام؟ إذاً: من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فكن بعيداً واحترم نفسك في نهار رمضان، والعجيب أن الرجل في غير رمضان لا يقبل زوجته أبداً، أما في رمضان فالشيطان يزين له تقبيلها.

قال: [ ولو قبل أو لمس ]، الملامسة غير الجماع.

[ أو أمذى ]، الحنابلة يرون أن الإمذاء يفسد الصوم.

قال: [ فسد صومه لذلك، أما إذا أمنى فإنه يفطر بغير خلاف علمناه ]. المني يفطر لكن في اليقظة وليس في النوم، كأن نام في ظهيرة رمضان فاحتلم، يعني: رأى في نومه ما يدعو لنزول المني فاستيقظ في نهار رمضان فوجد المني، فصيامه صحيح ولا شيء عليه؛ لأنه في حال النوم وليس في حال اليقظة.

رأي الحنابلة: أنه إذا قبل فاشتهى فأنزل بطل صومه، فالحنابلة رأيهم أن المني وحده لا يفسد الصوم، وإنما مع التقبيل، ودليلهم: (يترك طعامه وشرابه وشهوته لأجلي)، فإذا قبل اشتهى، وإذا اشتهى أمذى، فعندهم وعند ابن تيمية أيضاً هذا الرأي، لكن قول الجمهور بأنه لا يفسد الصوم إلا المني، وما دون ذلك لا يفسد، فالحنابلة ومعهم ابن باز وابن تيمية من قبله رحمهم الله يرون أن المذي يفسد الصيام؛ لأنه يتنافى مع خلق الصائم، ويترتب عليه شهوة، لكن الراجح: أن المني يبطل الصوم. لا شك في هذا.

قال: [ وإن أمذى أفطر عند إمامنا ]. يقصد الإمام أحمد .

الشيخ: قال: [ لأنه خارج تخلله الشهوة، فإذا انضم إلى المباشرة أفطر كالمني ]. يعني: عند الحنابلة وعند الإمام أحمد : أن المذي إذا خرج يتخلله شهوة فإن الشهوة تنافي الصوم، لذلك يفطر.

قال: [ وإن لم ينزل لم يفسد الصوم ] يعني: قبل أو لامس أو نظر دون إنزال لمني أو مذي فلا شيء عليه.

قال: [ لما روى ابن عمر : (قلت: يا رسول الله! صنعت أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم. قال: أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم. قلت: لا بأس. قال: فمه) رواه أبو داود ]. يعني: قبلتك كمضمضتك، فالمضمضمة مقدمة الشرب، والقبلة مقدمة الجماع، فطالما تتمضمض دون مبالغة فلا شيء عليك، والتقبيل دون شهوة لا شيء فيه، وكأنه يقبل صديقه، فإذا مس أو إذا قبل أو لمس أو نظر دون أن ينزل فليس عليه شيء، كذلك النظر إلى الحرام في رمضان لا يبطل الصوم، لكنه ينقص الأجر.

الحجامة عمداً

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن حجم أو احتجم عامداً ]. كل هذا مع العمد، أما النسيان فلا شيء عليه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).

قال: [ إن حجم أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه فسد صومه ].

فإن قيل: هناك حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وهناك حديث آخر يقول: (أفطر الحاجم والمحجوم)، فكيف يمكن الجمع بينهما؟

الجواب: المسألة خلافية، من العلماء من قال: إن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) ناسخ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم: (احتجم وهو صائم)؛ لأنه احتجم أول الأمر ثم أوحي إليه أن الحجامة تفطر، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم)، فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) ناسخ لفعله قبل ذلك، وهذا رأي الحنابلة، فهم يرون أن الحجامة تفطر الصائم، ومنهم من جمع بين النصين فقال: إذا ترتب على الحجامة دخول الدم إلى فم الحجام الذي يمص مباشرة لا عن طريق أداة يفطر الحجام، وكذلك المحجوم يترتب على خروج الدم من جسده إرهاق وتعب فيفطر أيضاً.

وعند الحنابلة أن الحاجم والمحجوم يفطران، إذ إن الدليل القولي يقدم على الدليل الفعلي، هذا كلام الأصوليين، فحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) قول، وحديث: (احتجم وهو صائم)، فعل، فالقول يقدم على الفعل عند الأصوليين؛ لأنه ربما فعل ذلك لمرض، والمرض يجوز له أن يفطر، ففعله جاء لأمر.

ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس وقد بدا جزء من فخذه، فدخل عمر ودخل الصديق وهو على حاله، ولما دخل عثمان جذب القميص على فخذه، فهذا فعل، وحديث: (غط فخذك فإن الفخذ عورة) قول.

إذاً: القول يقدم على الفعل؛ لأنه ربما جلس لعلة كانت في قدمه أو لأمر طارئ.

ومن العلماء من يقول: إن الحجامة العملية متأخرة عن قوله، والمسألة فيها خلاف.

قال: [ (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفساً، قال أحمد : حديث ثوبان وشداد صحيحان ]. وحد التواتر عند العلماء مختلف فيه، فمنهم من قال: ما زاد عن أربعة رواة اعتبروه متواتراً.

النسيان والإكراه وعدم الاختيار لا يفسد الصوم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن فعل شيئاً من هذا ناسياً لم يفسد صومه؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)، وفي لفظ: (فلا يفطر، فإنما هو رزق رزقه الله) فنص على الأكل والشرب وقسنا عليه سائر ما ذكرنا ]. والمعنى: أن يكون ذاكراً، وأن يكون مريداً، وألا يكون مخطئاً في التقدير، هذه الأمور لابد أن يفعلها المكلف بقصد؛ لأن العبرة بالقصد والإرادة.

قال: [ وإن فعله مكرهاً ]. يعني: رجل فتح فمه وصب فيه الماء وهو مكره، ما حكم صيامه؟

صحيح؛ لأنه أكره على الفعل، والمكره لا يؤاخذ بفعله، وهذا الإكراه هو الذي عرض الإمام مالك للجلد، وذلك لما جلس يدرس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قام شخص يسأله، فقال: يا إمام! ما تقول في طلاق المكره؟ فقال: طلاق المكره لا يقع، فأرسل إليه ولي الأمر وقال: يا مالك ! أنت تعرف أن الناس بايعوني بالإكراه، إذاً: بيعة المكره لا تقع، وكأن السائل يقصد البيعة، لكنه عرض بالطلاق، فيا مالك ! عد إلى مجلسك وقل: طلاق المكره يقع، فقال مالك لولي الأمر: إن زلة العالِم زلة عالَم، فأمر به ولي الأمر فجلد حتى شلت يداه.

فانظر إلى العلماء الربانيين! انظر إلى الحال، نسأل الله أن يثبتنا على الحق.

وفتنة الإمام أحمد كانت في قضية خلق القرآن، حتى إنهم جلدوه جلداً، وسن له المأمون سيفاً حاداً أعده لقتله، فقابله أحد الناس في الطريق. قال: يا أحمد ! احذر أن تقولها فالناس تنظر إليك، فزلتك يا أحمد ! اليوم يزل بها الكثير، وأخبرك أن المأمون قد حد لك سيفاً، وقد استعد لضرب عنقك به، فرفع أحمد يده إلى السماء قائلاً: اللهم لا تجمع بيني وبين المأمون في الدنيا بعد اليوم، فجاء الصارخ يقول: أبشر فإن المأمون قد مات. الله أكبر! هؤلاء هم العلماء الربانيون الذين لا يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، لكن هناك من يبيع دينه بدنيا غيره.

فإن قيل: وإن أكره على الزنا أو قتل النفس؟

الجواب: عند الأصوليين أن الإكراه في القول وليس في الفعل؛ لأن عماراً أكره في القول، فلو أكرهت على أن تسجد لغير الله فلا تسجد ومت شهيداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخل رجل النار في ذبابة ودخل رجل الجنة في ذبابة، مرا على صنم فقال الذين يعبدون الصنم: قربا إليه شيئاً، فقرب أحدهما ذبابة وأبى الآخر أن يقرب شيئاً، فقتل الأول فدخل النار، وقتل الثاني فكان شهيداً)، فهذا يبين أن الإكراه في الفعل لا يجوز.

قال: [ وإن فعله مكرهاً لم يفطر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء).

وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار لم يفسد صومه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه ] ما لا يمكن التحرز منه كالريق الذي يبلغه وكالتراب في الطريق العام.. إلى غير ذلك، فهذا كله لا يمكن التحرز منه فلا يفطر.

قال: [ وإن تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء لم يبطل صومه؛ لأنه وصل بغير اختياره ].

وهذا شخص سأل: كنت قاصراً وأمي وضعت المال في الحسب، وبعد أن مات أبي كان لي نصيب في الميراث بأمر النيابة الحسبية، فوضع المال في البنك، وربحت منه فوائد، فهل آخذ هذه الفوائد؟

الجواب: خذها وانتفع بها؛ لأنه لا اختيار له، إذا كان قاصراً لم يضع المال بإرادته.

قال: [ وإن فكر فأنزل لم يفسد صومه؛ لأنه يخرج من غير اختياره وإن قطر في إحليله شيئاً لم يفسد صومه؛ لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف ولا منفذ بينهما ]. أي: أن المثانة لا ترتبط بالجوف.

قال: [ وإن احتلم لم يفسد صومه؛ لأنه يخرج من غير اختياره، وإن ذرعه القيء لم يفسد؛ لحديث أبي هريرة السابق، ومن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً فعليه القضاء؛ لما روي عن حنظلة قال: كنا بالمدينة في رمضان، فأفطر بعض الناس، ثم طلعت الشمس، فقال عمر : من أفطر فليقض يوماً مكانه ].

والمعنى: أنه لو أفطر قبل غروب الشمس خاطئاً فعليه القضاء، ولو أكل بعد طلوع الفجر خاطئاً فليس عليه قضاء؛ لأن الأصل في الليل الفطر، والأصل في النهار الصيام، فينسحب الأصل هنا، وينسحب الأصل هنا، رغم أن هناك اختلافاً.

قال: [ ولأنه أكل ذاكراً مختاراً فأفطر، كما لو أكل يظنه من شعبان فبان من رمضان ].

حكم من أكل شاكاً في طلوع الفجر ومن أكل شاكاً في غروب الشمس

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر لم يفسد صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل، وإن أكل شاكاً في غروب الشمس فعليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار ]. والمسألة الثانية فيها خلاف، وقول ابن تيمية في الحالتين: أنه لا قضاء عليه.

عموماً هذا ما يفسد الصوم، ذكرناه كما ذكره المصنف رحمه الله، وهناك مفسدات للصوم أخرى، كالحيض والنفاس، وكمن أخرج بلغماً من فمه ثم بلعه بإرادته، هذا أيضاً يدخل إلى الجوف على سبيل التغذية فلا يجوز.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [من أكل أو شرب أو استعط أو أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس أو أمذى أو حجم أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه فسد ].

فمفطرات الصائم أولاً: الأكل والشرب عمداً؛ لأن الله يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فمن أكل أو شرب متعمداً فقد بطل صومه، أو فسد صومه. كلاهما صحيح، والمرجع هنا إلى الإرادة، فقد يقول قائل: أنا أسير في الطريق، فدخلت في فمي بعوضة رغم إرادتي فابتلعتها فما حكم الصيام؟

الجواب: صيامك صحيح؛ لأنك لم تتعمد، وقد يقول قائل: تمضمضت لصلاة الظهر، فدخلت إلى جوفي قطرة ماء رغم إرادتي، فما حكم الصيام؟ الجواب: المرجع إلى الإرادة، فإن أخطأت فلا شيء عليك، ومعنى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ : بيان النهار من سواد الليل.

قال: [ فإذا أكل أو شرب مختاراً ذاكراً لصومه أبطله؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم بغير عذر، سواء كان غذاء أو غير غذاء كالحصاة والنواة؛ لأنه أكل] فأي طعام أو شراب يدخل إلى جوفه تعمداً يفسد به الصوم.




استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
العدة شرح العمدة [13] 2676 استماع
العدة شرح العمدة [68] 2615 استماع
العدة شرح العمدة [26] 2592 استماع
العدة شرح العمدة [3] 2514 استماع
العدة شرح العمدة [1] 2472 استماع
العدة شرح العمدة [62] 2372 استماع
العدة شرح العمدة [19] 2334 استماع
العدة شرح العمدة [11] 2330 استماع
العدة شرح العمدة [56] 2297 استماع
العدة شرح العمدة [15] 2233 استماع