تفسير سورة الحاقة [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، مستوٍ على عرشه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنواصل الحديث مع القرآن لاسيما وأننا في شهر القرآن، الشهر الذي كان ينزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فيدارسه القرآن.

وكنا قد بدأنا مع سورة الحاقة في مطلعها، وتوقفنا عند قول الله سبحانه: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:9-18].

ما المراد بـ(فرعون)، هل هو لقب أو اسم؟

فرعون لقب لحاكم مصر، كما أن النجاشي لقب لحاكم الحبشة، وقيصر لقب لحاكم الروم، وكسرى لقب لحاكم الفرس.

يقول تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ [القصص:4]، أي: طغى في الأرض، وبغى وأكثر فيها الفساد، وحتى يستتب له الأمر قسم البلاد إلى مراكز ومحافظات ونجود، وجعل على كل إقليم فرعون: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا [القصص:4]، وهذه سياسة اللامركزية في الإدارة الفرعونية، فيستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل: يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص:4].

ويقول ربنا سبحانه في سورة النازعات: وهَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات:15-17].

وتأمل! فكل نبي كان الله يرسله إلى قومه: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف:85].

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [الأعراف:73]، إلا موسى أمره الله أن يذهب إلى فرعون ؛ لأن الرعية أصبحت هملاً تسبح بحمده وتعبده من دون الله، فهو رأس الأفعى، ولا تصلح الرعية إلا بصلاح فرعون، ومن هنا أمر الله موسى أن يذهب إلى فرعون إِنَّهُ طَغَى [طه:24] أي: تجاوز الحد.

وربنا حينما أرسل موسى وهارون قال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، وهنا نتذكر رجلاً دخل على الخليفة العباسي هارون الرشيد وأغلظ له القول وعنف له النصيحة، فقال له: يا رجل! لقد أرسل الله من هو أفضل منك إلى من هو شر مني، أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون، فقال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

ومع وضوح الآيات والبراهين إلا أن فرعون ركب رأسه: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].

وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].

وقال: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:15-16].

وقال: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ [الحاقة:9].

ويا ليت الفراعنة اليوم يتعظون من إهلاك الله لفرعون ومن معه بالغرق، قال الله له: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:92] لم؟ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92].

فالله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا [إبراهيم:42]، فالله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام.

ولما أهلك الله فرعون أمر البحر أن يلقي جسده على الشاطئ؛ لأنه لو انتشر الخبر أن فرعون مات فلن يصدق ذلك أحد؛ لأنه يظن أنه سيعود ويعذبه، ولكن الله نجاه ببدنه : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92]، آية في ماذا؟ في أن لكل ظالم نهاية، والله سبحانه لا يغفل، فهو يملي لهم حتى إذا بغوا وظنوا أنهم يملكون مقادير كل شيء أخذهم بغتة: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، وكما صنع الله بـأتاتورك الذي حطم البلاد وأزاح الخلافة الإسلامية، ونهى عن الأذان في المساجد وأغلقها، وحذف اللغة العربية، ماذا صنع به؟ اسألوا التاريخ سيجيب عن ذلك، فقد أصيب بمرض حتى إنه كان ينهق كالحمار، ومن المضحك أنهم كانوا يأتون بآلات ميكانيكية لتعمل بجوار القصر حتى لا يسمع الناس صوت أتاتورك !!

وسلوا التاريخ عن شاه إيران ماذا صنع الله به؟! لكن الآيات لا تنفع إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وسلوه عمن قال للموحدين يوماً: لو نزل ربكم من سمائه لوضعته معكم في زنزانة حديدية، ماذا صنع الله به؟

مزقه الله بأسياخ الحديد إرباً إرباً، وما ربك بغافل.

قال تعالى: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ [الحاقة:9]، أي: كل الأقوام التي كذبت الرسل جاءوا بالكفر وبالمعصية والخطايا.

قال تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ [الحاقة:10]، أي: أن لكل أمة رسولاً، وكل رسول سيشهد على أمته، ولذلك من قواعد الحساب والجزاء في الآخرة خمس قواعد مهمة:

القاعدة الأولى: العدل التام، قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47].

وقال: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77].

وقال: وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، أتدري ما هو الفتيل والنقير؟ الفتيل: هو الخيط الرفيع الذي في وسط النواة، وانظر إلى حجمه، والنقير: هو الحفرة التي في ظهرها.

وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:7]، والذرة هي: الهباءة التي ترى في شعاع الشمس.

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112].

وقال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].

وقال: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17].

القاعدة الثانية: إقامة الشهود على العباد، ورب العالمين سبحانه يقول: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41]، أي: رسولهم يشهد عليهم، ثم قال: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، أي: جاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42].

ومن الشهود أيضاً: الجوارح، والجلود، والسمع، والبصر، قال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21].

ومن الشهود كذلك: القرين الجني، أي: الشيطان الذي أضل العباد: قَالَ قَرِينُهُ [ق:27] في حوار رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ [ق:27]، أي: لم أكن سبباً في ضلاله وطغيانه، وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [ق:27]، أي: هو الضال، قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:28-29].

وكذلك الأرض تشهد، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5]، ما أخبار الأرض؟

تأتي يوم القيامة وتقول: يا رب عبدك فلان عصاك على ظهري يوم كذا وكذا، لذلك يا مسلم كل شيء يشهد عليك يوم القيامة، فانتبه وعُدْ إلى ربك عز وجل.

القاعدة الثالثة: مضاعفة الحسنات، وعدم مضاعفة السيئات، وهذا من فضل الله علينا أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، ولذلك ربنا يحاسبنا بفضله في جانب الحسنات، ويعاملنا بعدله في جانب السيئات، قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فمن فضل الله علينا أن الحسنات تضاعف، يقول ابن القيم رحمه الله: فهلاك لعبد تغلبت آحاده على عشراته. أرأيتم إلى الآحاد تغلب العشرات؟! يستحيل ذلك، إلا إذا كان الرجل كله سيئاً.

القاعدة الرابعة: اطلاع العبد على صحيفته، قال تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14].

ويقولون عندما ينظرون في كتبهم: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

القاعدة الخامسة: أنه لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فالمسئولية شخصية، عنك وعمن ستسأل عنه بين يدي الله سبحانه وتعالى.

ولا بد أن نعلم قاعدة مهمة في العقيدة، ألا وهي أن تكذيب رسول واحد يعني: تكذيب بكل الرسل، واسمع إلى قول الله كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105]، فهل كذبوا نوحاً فقط أم كذبوا كل المرسلين؟ كذبوا نوحاً فقط، لكن الله في تكذيبهم لنبيهم أخبر أنهم كذبوا كل الرسل؛ وكذلك من آمن بكل الرسل ولم يؤمن بنبينا محمد فهو كافر، وهذا لا يختلف فيه اثنان، وأيضاً من آمن بكل الرسل ولم يؤمن بعيسى فهو كافر، وهذا لا يختلف فيه اثنان، فهي قضية بديهية.

قال تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [الحاقة:10]، أي: شديدة وأليمة.

قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، يمتن الله سبحانه على عباده بما كان في زمن نوح؛ لأن كل العباد على الأرض نسبهم يعود إلى نوح وإبراهيم عليهما السلام، قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26].

قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى [الحاقة:11]، يعني: تجاوز الحد.

وذلك عندما دعا نوح على قومه : فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، دعاء صغيراً ومختصراً، وهذا هو الهدي في الدعاء، فإذا سألت الله فأجمل في الطلب: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب)، لذلك كان الغلام صاحب الأخدود كما في حديث مسلم فقيهاً، فيوم أن ركب السفينة مع الطغاة وأراد أن يدعو عليهم قال: اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت، إنك على كل شيء قدير!

أما نحن فنمط في الدعاء مطاً، لأجل الطرب وإرضاء الجماهير، ونأتي بالسجع والتكرار، وهذا كله ليس من السنة أبداً، يعني: لو أن واحداً منا كان في السفينة لقال: اللهم اقلبها، ودمرها، ومزقها، وحطمها، وأغرقها، وكلها ألفاظ مترادفة، ولربما قال المسلم: اللهم أدخلني الجنة، واسقني من خمرها، واكسني من ثيابها، وزوجني بالحور العين فيها! وهذا أمر عجيب؛ لأنك إن دخلت الجنة فستلبس وستشرب، فلماذا هذا السجع؟! وكذلك قول بعضهم: اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، واقض عنا القرض، واحم لنا الأرض، وكله أض أض!! فلماذا هذا السجع؟! لإرضاء الجماهير الغفيرة، نسأل الله العافية.

وانظروا إلى ابن مسعود وهو يدعو: اللهم إني أسألك من كل خير سألك منه عبدك ونبيك محمد، وأعوذ بك من كل شر استعاذ منه عبدك ونبيك محمد إجمال.

وكل خير في اتباع من سلف، ولا داعي لهذا الإطناب الشديد، والساعات الطويلة في القنوت؛ لأن ذلك ليس من هدي السلف أبداً، وحالنا اليوم في الدعاء مخالف لما عليه السنة النبوية، فقد يدعو أحدنا قائلاً: اللهم دمر اليهود، خرب بيوتهم، جمد الدم في عروقهم، زلزل الأرض من تحت أقدامهم.

وكأنك تحدد لربك ماذا يصنع؟! وكان يكفي أن يقول: اللهم دمرهم. فيدمرهم بما شاء وكيف شاء.

وهذه كلها من الأمور المحدثة والبدعية، وكما يحدث في بعض البلاد بعد الركعتين الأوليين في التراويح من قول: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله. أي: سنبدأ. وفي آخر ركعتين: الصلاة والسلام عليك يا خاتم رسل الله، أي: سنختم، فإذا جاءت ركعتي الوتر والقنوت يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت.

فانظروا إلى هذا التأليف والابتداع في دين رب العالمين، ثم من قال لك: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول الخلق، وبأي دليل؟ أول خلق الله هو آدم أبو البشر خلقه الله من غير أب ولا أم، ونبينا له أب وله أم، فكيف يكون أول الخلق؟! أقسم لكم بالله أنهم يهرفون بما لا يعرفون!

ونظرية أول الخلق هذه تعود إلى فكر ابن عربي ؛ لأنه لم يميز بين الوجود العيني والوجود العلمي، وفرق كبير بين أن يوجد الشيء عيناً وبين أن يوجد في العلم، لذلك ابن عربي يقول: إن المعدوم شيء. أي: نحن لنا صورة هنا، وصورة كانت في الأزل مخلوقة قبل أن يوجدنا الله على الأرض.

ونظرية الحلول والاتحاد في فكر ابن عربي الذي الآن يثنى عليه، وأفكاره في كتبه تحمل كفراً لا شبهة فيه، فحينما يقول ابن عربي مثلاً في أحد كتبه: إن أهل النار إذا دخلوها يتلذذون بعذابها!!

وحينما يقول الحلاج : مثل الذين يطوفون ببيت الله في الحج كمثل البهائم تدور في رحاها. أليس هذا كفراً؟ هذا كفر واضح وبين، لكن القوم يقولون لنا: أنتم لم تفهموا، فهم يتحدثون بالرموز، وكل كلمة لها رمز، وأنتم عقولكم لا تدرك ذلك، وحينما يقول: ما في الجبة إلا الله. أي: أنا الله والله أنا تعالى الله عما يقولون.

وحينما يقول أبو يزيد البسطامي : ضربت خيمتي بإزاء عرش الرحمن جل وعلا.

ما هذا يا قوم؟

أقول: رب العزة تبارك وتعالى تعبدنا بشرعه، ومن استحسن فقد شرع، واتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم.

قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، يمتن الله على عبادة بأنه أنجى المؤمنين مع نوح في السفينة، وذلك لما طغى الماء على وجه الأرض، وحينما دعا نوح: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، دعاء مجملاً قال: (مغلوب فانتصر) ولم يحدد، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:11-14]، أي: أن السفينة تجري بأمر الله سبحانه وتعالى، وذلك لما طغى الماء على وجه الأرض، وأغرق من أعرض وأبى، إلا من كان مع نوح: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ [هود:42]، وتأمل بدون قبطان أو تحكم، فهي تجري بهم في موج كالجبال: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:42-43]، فلا شفاعة لكافر ولو كان ابن نوح، ولا وساطة: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].

قال الله عز وجل: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا [الحاقة:12]، أي: لتفهمها، وتحفظها، وتدركها: أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة:12]، أذن تعي ما يقال لها، وتعي العبر والدروس وتتعظ.

قال الله عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ [الحاقة:13]، من الذي ينفخ؟ وما هو الصور؟ وكم مرة ينفخ فيه؟وماذا يحدث بعد النفخ؟ ذلك هو موضوع اللقاء الثاني.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فيقول ربنا سبحانه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ [الحاقة:13]، كم مرة ينفخ في الصور؟ اختلف العلماء في ذلك: فـابن كثير يقول: ثلاث، وهي: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث.

وابن تيمية يرى أن عدد النفخات: نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث، ومع كل نفخة فزع، صعق مع فزع، وبعث مع فزع.

إذاً: الفزع ليس نفخة مستقلة، وإنما فزع عند الصعق، وفزع عند البعث، وربنا يقول: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، والقرآن جاء بالنفختين في أكثر من موضع، في سورة ياسين النفخة الأولى، وسماها صيحة، قال تعالى: مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس:49]، فتأتي عليهم وهم يشترون ويبيعون ويتعاملون، ويتخاصمون في أمورهم الدنيوية.

ثم قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ [يس:51] أي: من القبور إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51]، وهذه النفخة الثانية.

وفي سورة النازعات: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ [النازعات:6]، أي: النفخة الأولى، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النازعات:7] أي: النفخة الثانية.

إذاً: النفخة الأولى: نفخة الصعق، والنفخة الثانية: نفخة البعث.

وبين النفختين أربعون. قيل لـأبي هريرة : أربعون سنة؟ قال: أبيت، أربعون يوماً؟ قال: أبيت.

أي: لا أدري؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين النفختين أربعون) وما أبان ما المراد بالأربعين، وهذا ما بين النفخة الأولى والثانية.

وأما النفخة التي معنا في هذه الآية فهي نفخة البعث كما قال ابن كثير ؛ لأن الله يقول: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [الحاقة:13]، من الذي ينفخ فيه؟ إسرافيل الملك الموكل بالنفخ في الصور، وميكائيل الموكل بنزول الغيث من السماء، وجبريل الملك الموكل بنزول الوحي على الرسل، لذلك قال العلامة ابن القيم في فهم عميق، وبصيرة فريدة: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي بليل في التهجد، كان يفتتح الصلاة بدعاء استفتاح بخلاف الصلاة الأخرى، فيقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) ، فما السر في الجمع بين الثلاثة؟ وما وجه الشبه بين جبريل وميكائيل وإسرافيل؟ قال ابن القيم : بهم جميعاً مادة الحياة، فجبريل لحياة الأرواح بالوحي، وميكائيل لحياة الأرض بالنبات، وإسرافيل لحياة الأموات بعد الموت، فجميعاً تربطهم علاقة شبه وهي الحياة.

وقال تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10]، نقر في الناقور: نفخ في الصور، والنفخة هنا واحدة، لأن أمر الله لا يكرر، بينما العبد يكرر الفعل إذا كان في أول الأمر يفعله ببطء، لكن أمر الله مرة واحدة، فيكفي نفخة واحدة؛ لأن الذي يدمر الكون هو الله، نفخة واحدة فإذا السماء تنشق، والأرض تدك، والجبال تنسف، والبحار تشتعل نيراناً، والنجوم تتناثر، والموءودة تسأل، والوحوش تحشر، إنه انقلاب هائل: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، أي: برزوا لله ليحاسبوا عما صنعوا.

قال تعالى: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ [الحاقة:14].

وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105].

وقوله: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ:20].

وقوله: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5].

وقوله: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:21-23]، تأتي جهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23-24].

يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:27]، أين الصلاة؟ أين الحجاب؟ أين الالتزام بشرع الله؟ أين السير على سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟

ستحاسب يا مسلم غداً: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ [الحاقة:13-17]، أي: الملائكة، عَلَى أَرْجَائِهَا [الحاقة:17]، أي: على أطرافها، على جوانبها: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فحملة العرش في الآخرة ثمانية، قال صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش، المسافة بين شحمة أذنه وعاتقيه مسيرة خمسمائة عاميَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9]، فيا من تبطن خلاف ما تظهر ربك سيخرج ما في باطنك فاحذره.

اللهم إنا نسألك يا ربنا أن تجعل باطننا كسرائرنا، اللهم تقبل صيامنا، وتقبل صلاتنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، نسألك يا رب رضاك والجنة.

اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا.

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.

اللهم يسر لنا تلاوة القرآن في هذا الشهر الكريم، أعنا فيه على ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك.

اقض عنا ديوننا، فرج عنا الكرب والهم، بدلنا من بعد خوفنا أمناً، ومن بعد ضيقنا فرجاً، ومن بعد عسرنا يسراً.

اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.

أسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً.

يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

اللهم استر عورتنا وآمن روعتنا.

نسألك رضاك والجنة، نعوذ بك من سخطك والنار.

ارزقنا قبل الموت توبة وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة ونعيماً.

نسألك الخير كله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله ما علمنا منه وما لم نعلم.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

اللهم اجعلنا من العتقاء من النار في هذا الشهر، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار.

اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً، ووسع يا رب على من وسع على فقراء المسلمين وعلى يتامى المسلمين.

اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم انزع الغل والحسد من صدورنا.

اللهم أصلح ذات بيننا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اربط على قلوب المجاهدين، اللهم سدد رميهم، ووفق جمعهم، واجعل الدائرة على عدوهم.

اللهم عليك باليهود ومن والاهم، أرنا فيهم آية فإنهم لا يعجزونك، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

آمين، آمين، آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.