تفسير سورة القلم [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماءٍ مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا ورسولنا وشفيعنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! مع استكمالنا لتفسير أول آية من سورة القلم، وقد بدأنا بفضل العلم والعلماء، والآداب والآفات التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها وأن يتخلى عنها، نستكمل هذه الموضوع الهام بعنوان: اختلاف العلماء أسبابه وآدابه.

المتأمل في الساحة اليوم يجد أن مرضاً خطيراً قد دب في جسدها، ألا وهو تسفيه البعض للبعض إذا ما اختلفوا في حكم شرعي، والتعريض به، بل الولاء والبراء لشخصه، وهذا ليس من دأب سلفنا الصالح.

إن من نعمة الله على هذه الأمة أنها ما اختلفت في أصول دينها، فإن أصولها ثابتة، ومصادرها ثابتة، لم يختلف فيها أحد، وإنما الخلاف وقع في الفرعيات والأحكام الفقهية لأسباب سأبينها بضرب أمثلة لكل سبب، ثم نعقب بالآداب، وهذا هو الأهم بعد معرفة أسباب الخلاف بين العلماء: أن نتعلم آدب الخلاف؛ لأننا الآن إن اختلفنا يمزق بعضنا بعضاً، وهذا ما كان من دأب السلف، كانوا يختلفون، لكن المخالف ما حمل على المخالف له أبداً، وإنما كان يوقره ويقدره، والعلم رحم بين أهله.

إن اعتقاد رأي واحد من آراء الفقهاء، ثم المقاتلة عليه وتسفيه المخالف له والطعن فيه، ليس من هدي السلف على الإطلاق.

أحبتي الكرام! العلماء اختلفوا لأسباب ستة أبسطها، ثم نستنبط من الكتاب والسنة ما يؤيد هذا المعنى:

غياب الدليل عند المخالف

السبب الأول: غياب الدليل عند المخالف:

خالفتك؛ لأن الدليل ليس عندي، وأنت عندك الدليل، ومن الأمثلة على ذلك: بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام أول خلاف دب في الأمة على موته، وقد كان الصحابة في حال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعون إليه في الخلاف، فيحسم الخلاف، ويسألونه عما أشكل فيبين، وأنتم تعلمون ما حدث بين الصديق وبين عمر وبين بعض الصحابة، حتى إن عمر أشهر سيفه وقال: من قال: إن محمداً قد مات لأضربن عنقه، ما مات محمد وإنما ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران.

اختلفت الآراء حتى ألهم الله الصديق آية نزلت قبل ذلك، فقام الصديق : فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال كلمته المأثورة: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، عند ذلك سلّم الكل لأمر الله، فالدليل مع الصديق واضح.

وفي البخاري أيضاً: بعد موت رسول الله عليه الصلاة والسلام اختلفوا في مكان الدفن أين سيدفن؟ قال قائل: يدفن في البقيع، وقال بعضهم: بل نخصه بمكان، واختلفت الآراء حتى جاء الصديق وقال: لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يدفن الأنبياء حيث ماتوا)، وحسمت المسألة بالدليل.

وفي صحيح البخاري من حديث عمر رضي الله عنه: لما قدموا أرض الشام فسمعوا أن بها طاعوناً، فقال بعضهم: ندخلها حتى لا نفر من قدر الله، وقال الآخرون: لا، لا بد أن نأخذ بالأسباب ولا ندخل؛ لأن ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان في حاجة له، ثم قال لهم: لقد سمعت من رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوا إليها، وإن كنتم بها فلا تخرجوا منها)، وهذا يدل على أنه قد يغيب الدليل عن عالم ويكون عند عالم آخر، ولكن بمجرد وصول الدليل ينبغي في الحال أن نقبله بدون تردد ولا تلكؤ.

وهذا كثير للمتتبع للخلاف بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

عدم قبول الدليل لوجود ما يعارضه أو لعدم الوثوق به

السبب الثاني: عدم قبول الدليل، بأن يكون عنده دليل لكنه يعارض بدليل أقوى منه، من ذلك: ما حدث بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع فاطمة بنت قيس.

وما حدث مع علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما مع سبيعة الأسلمية، كان ابن عباس وعلي يريان أن عدة المرأة التي مات عنها زوجها أطول الأجلين بمعنى إذا مات الزوج والزوجة حامل فعدتها إن وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر عليها أن تنتظر إلى تمام الأربعة الأشهر وعشر، وإن وضعت الحمل بعد الأربعة أشهر وعشر عليها أن تنتظر حتى تضع الحمل، يعني: أطول الأجلين، وهذا مخالف تماماً لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث سبيعة في البخاري : أنها نفست بعد موت زوجها بأيام، فأباح لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج؛ لأن الله يقول: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وهذه الآية مع آية البقرة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، حاول ابن عباس وعلي أن يجمعا بين الآيتين بعموم وخصوص، لكن لما جاء الدليل في حديث سبيعة سلما في الحال؛ لأن الدليل حجة في القضية، والدليل واضح الدلالة، بيّن لا شبهة فيه.

وفاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاث طلقات فبانت بينونة كبرى، ثم أرسل لها شعيراً مع وكيله نفقة، فسخطت ذلك الشعير، يعني: كرهته؛ لأنها تريد أكثر من ذلك، فلما وصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ولا سكنى)، بمعنى: المطلقة ثلاث طلقات لا نفقة لها ولا سكنى، إلا إذا كانت حاملاً فينفق عليها حتى تضع الحمل، أو كانت حاضنة، يختلف الأمر، لكن عمر كان يقول: للمطلقة ثلاثاً نفقة وسكنى، ويقول: أنترك ديننا وكتاب ربنا لقول امرأة قد تنسى وقد تصيب.

إذاً عدم قبول الدليل ربما يدفع العالم لرده، والصواب كما تعلمون ما ثبت عند البخاري من حديث فاطمة: (أن المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ولا سكنى)، والإمام النووي بوّب لهذا الحديث باباً.

عدم معرفة المخالف بنسخ الدليل

السبب الثالث: عدم معرفة المخالف للنسخ. ومن أمثلة ذلك:

تحويل القبلة، حولت القبلة في صلاة الظهر أو العصر، وكان المسلمون يصلون إلى الأقصى، ثم تحولوا إلى المسجد الحرام، نزل النسخ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا إلى المسجد الحرام، وأهل قباء لم يصلهم الخبر إلا في صلاة الفجر يعني: صلوا العصر والمغرب والعشاء إلى المسجد الأقصى وقد نسخت، فهل صلاتهم باطلة؟ لا؛ لأنهم ما علموا بالنسخ، والعلم مناط التكليف.

وفي الحديث أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يصلي بجوار علقمة والأسود فكان في الركوع يطبق يديه ويضعهما بين ركبتيه، لا يضع اليد على الركبة، وهذا كان في أول الأمر، ففعل ذلك ابن مسعود أما علقمة والأسود فوضعا أيديهما على الركبتين، فأنكر عليهما، فقالا: أما سمعت يا ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نضع أيدينا على ركبنا عند الركوع؟

فـابن مسعود خالفهم؛ لأنه لم يصله النسخ، وهو معذور، فيعذر بعضنا بعضاً فيما يجوز فيه العذر، أما في أمور العقيدة، فلا يطوف رجل بقبر ونقول: يعذر بعضنا بعضاً، هناك أمور كما قال القائل:

وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف فيه حظ من النظر

ويوم أن يخرج أحد على الأمة يريد أن يشق إجماع المسلمين وأن يرد آراء الفقهاء وآراء المفسرين، وما قال أحد على الإطلاق من أهل العلم هذا، وهو لا يحسب على أهل العلم، يكتب تحت عنوان: الإزار والرداء.

إن نساءنا اليوم أكثر عفة وحشمة من نساء الصحابة! نطق كفراً والذي نفسي بيده، وكتب فجوراً افقهوا يا علماء الأزهر، افقهوا يا علماء الأمة، أليس لكم عقول؟

ثم يقول: الحجاب معناه التغطية، وليس المقصود تغطية الشعر، وإنما المقصود تغطية فتحة الصدر، النص في الآية لتغطية فتحة الصدر، وما سوى ذلك للمرأة أن تظهر من جسدها ما شاءت، أرأيتم إلى حماقة وسذاجة كهذه؟!

هذا لا يعد من أهل العلم أولاً، وليس له دليل، وإنما طفيلي على أهل العلم، أقول: مثل هذا الخلاف يوضع تحت الأحذية في الحال.

والخلاف المعتبر خلاف العلماء أمثال: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة.

واختلف الصحابة والتابعون لكن هناك أدباً في الاختلاف، لما رأى علقمة والأسود ابن مسعود يصنع ذلك ما سفهاه وما سباه وما عرضا به، ولما وصله الدليل أخذ به، هكذا العلم رحم بين أهله.

نسيان الدليل

السبب الرابع: نسيان الدليل، وجل من لا ينسى، وربما نسيتُ دليلاً وأفتيتُ خطأً في الميكرفون فذكرتُ به فعليّ أن أعود في الحال وأصوب الخطأ، والذين في قلوبهم مرض إذا سمعوا الخطأ أذاعوا في أرجاء البلاد: أخطأ الشيخ لا تسمعوا له؛ لأنه رجل جاهل.

يا عبد الله اتق الله في نفسك! أين آداب الخلاف؟ العلماء اختلفوا في أحكام سأذكر كثيراً منها الآن، ولم يسفه بعضهم بعضاً.

وقع النسيان للدليل، من ذلك ما حصل بين عمر بن الخطاب وعمار رضي الله عنهما وهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة من الغزوات كان عمار مع عمر فأجنبا -أصابتهما جنابة- والماء غير موجود، فاجتهد عمار فظن أن رفع الجنابة بالتراب كرفعها بالماء، فتمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة يميناً ويساراً، أراد أن يعمم الجسد بالتراب، وأما عمر فكف عن الصلاة؛ لأنه جنب وليس عنده ماء، وما أراد أن يتيمم أبداً، ووصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لـعمار -والحديث في البخاري - : (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)، يعني: تضرب الأرض بيديك ضربة واحدة، وتمسح ببطن اليدين على وجهك فقط ثم تمسح ظاهر الكفين وباطنهما، هذا هو التيمم في حال الجنابة، مرت السنوات وجاءت خلافة عمر فأراد عمار أن يحدث بهذا الحديث، فحدث به فأنكر عمر هذا الحديث، وقال له: كيف تقول بجواز التيمم للجنب؟ قال: يا أمير المؤمنين أما تذكر يوم أن فعلنا كذا وكذا، فذكره بما كان من أمرهما، إن شئت يا أمير المؤمنين لا أحدث بالحديث نزولاً على أمرك فعلت، قال: عمر: بل بلغ يا عمار .

إذاً: الذاكر حجة على الناسي كما يقول علماء الأصول.

ضعف الحديث

السبب الخامس: أن يكون الحديث ضعيفاً. قد نختلف في تصحيح حديث، عالم يقول: صحيح، وآخر يقول: ضعيف، الذي يقول: صحيح، يعتمده ويعتمد ما ترتب عليه، كأحاديث صلاة التسابيح منهم من صححها، ومنهم من ضعفها، ومنهم من قال بوضعها.

أو الاختلاف في الاستنباط، كاختلاف الأحناف مع جمهور الفقهاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)، بمعنى: ذبحت مثلاً دابة ووجدت في بطنها جنيناً ميتاً، نزل ميتاً ما حكم هذا الجنين يؤكل أم أنه ميتة لا يجوز؛ لأنه لم يذك؟

فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)، يعني: إن ذكى الأم كأنه ذكى الجنين.

قال الأحناف: لا، لا بد من تذكية الجنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد ذكاة الجنين كذكاة أمه. يعني: كما تذكى الأم لا بد أن يذكى الجنين. قلنا لهم: وهل يذبح الجنين بعد موته؟ وهل ينزل منه دم؟

وقوله: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)، ليس المعنى كذكاة أمه، هذا استنباط ضعيف من الأحناف.

كما استنبطوا أيضاً أنه لا يجوز للرجل أن يغسل زوجته بعد الموت، وهذا استنباط ضعيف؛ لأن هذا حدث من كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد غسل علي زوجته فاطمة، وغسل أبا بكر زوجته أسماء بنت عميس، وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا زوجاته.

وهذه حجة في القضية ودليل واضح، فلا ينبغي للمخالف أن يركب رأسه.

فهم الدليل فهماً خاطئاً

السبب السادس من أسباب الخلاف: فهم الدليل فهماً خاطئاً. وهذا كثير، فقد اختلف الفقهاء اختلفوا في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، فمنهم من رأى أن مجرد اللمس أن يمس الرجل امرأة سواء كانت زوجة أو غير زوجة أن ذلك ينقض الوضوء، هذا رأي.

الرأي الثاني: من مس بشهوة ينقض، ومن مس بغير شهوة لا ينقض.

الرأي الثالث: أن المس هنا هو الجماع. وهو الراجح.

اختلفوا إلى ثلاثة أقوال باختلاف الأفهام، ونحن نميل مع الرأي الراجح، لكن لا نسفّه الرأي المخالف ونعرّض به، ولذلك لما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، بعد أن عادوا من غزوة الأحزاب، فمنهم من فهم النص أنه لا بد أن يصلي في بني قريظة حتى وإن خرج وقت العصر، وبالفعل غابت الشمس وما صلى العصر إلا بعد غروب الشمس.

أما الفريق الثاني فعلموا أن النص له منطوق ومفهوم، فقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد أن نصلي في بني قريظة، وإنما أراد أن نبكر بالذهاب، ولا ينبغي أن نؤخر الصلاة عن وقتها -وهو الصواب-، فصلوا في الطريق، فوصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر الفريقين على فهمهما، مع أن الصواب مع الفريق الذي صلى في الطريق؛ لأن الصلاة في الوقت محكمة، وهذا قول متشابه، وينبغي أن نحمل المحكم على المتشابه.

مثال آخر: رجل أراد أن يتوضأ فلم يجد ماءً فتيمم وصلى، ثم وجد الماء قبل أن يخرج الوقت، كما حصل للصحابة، فمنهم من أعاد الصلاة، ومنهم من اكتفى بصلاة واحدة، فلما وصل الأمر إلى رسول الله قال للذي صلى مرةً واحدةً: (أصبت السنة، وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين) فهذا اختلاف في الأفهام.

أيها الإخوة الكرام! قد اختلف العلماء في أحكام كثيرة، لكن لا ينبغي أن نتعصب لرأي واحد، وأن ننكر على المخالف، ولكن العلم عطاء ورزق وفهم، وهذا يجرنا إلى الحديث عن آداب الخلاف، وهذا هو الموضوع الثاني إن شاء الله.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

السبب الأول: غياب الدليل عند المخالف:

خالفتك؛ لأن الدليل ليس عندي، وأنت عندك الدليل، ومن الأمثلة على ذلك: بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام أول خلاف دب في الأمة على موته، وقد كان الصحابة في حال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعون إليه في الخلاف، فيحسم الخلاف، ويسألونه عما أشكل فيبين، وأنتم تعلمون ما حدث بين الصديق وبين عمر وبين بعض الصحابة، حتى إن عمر أشهر سيفه وقال: من قال: إن محمداً قد مات لأضربن عنقه، ما مات محمد وإنما ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران.

اختلفت الآراء حتى ألهم الله الصديق آية نزلت قبل ذلك، فقام الصديق : فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال كلمته المأثورة: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، عند ذلك سلّم الكل لأمر الله، فالدليل مع الصديق واضح.

وفي البخاري أيضاً: بعد موت رسول الله عليه الصلاة والسلام اختلفوا في مكان الدفن أين سيدفن؟ قال قائل: يدفن في البقيع، وقال بعضهم: بل نخصه بمكان، واختلفت الآراء حتى جاء الصديق وقال: لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يدفن الأنبياء حيث ماتوا)، وحسمت المسألة بالدليل.

وفي صحيح البخاري من حديث عمر رضي الله عنه: لما قدموا أرض الشام فسمعوا أن بها طاعوناً، فقال بعضهم: ندخلها حتى لا نفر من قدر الله، وقال الآخرون: لا، لا بد أن نأخذ بالأسباب ولا ندخل؛ لأن ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان في حاجة له، ثم قال لهم: لقد سمعت من رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوا إليها، وإن كنتم بها فلا تخرجوا منها)، وهذا يدل على أنه قد يغيب الدليل عن عالم ويكون عند عالم آخر، ولكن بمجرد وصول الدليل ينبغي في الحال أن نقبله بدون تردد ولا تلكؤ.

وهذا كثير للمتتبع للخلاف بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.