تفسير سورة الجن [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.

وأشهد أن لا إله إلا الله، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، وهو مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! لقاؤنا اليوم مع سورة الجن! إن من صفات عباد الله المتقين كما وصفهم رب العالمين، أنهم يؤمنون بالغيب، والغيب: هو كل ما غاب عن حواسنا وعن إدراكنا، لكن أخبرنا الله به، أو أخبرنا به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نؤمن بالغيب إذا ورد في كتاب ربنا أو في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فالجنة غيب، والنار غيب، وعذاب القبر غيب، والملائكة غيب، وحوض النبي محمد صلى الله عليه وسلم غيب، والجن أيضاً غيب؛ لأن الله قال في حقهم: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فالجن يروننا ونحن لا نراهم، لكن هل معنى أننا لا نراهم لا نؤمن بهم؟

هذه السورة تسمى بسورة الجن، فضلاً عن الآيات التي جاء فيها ذكر اسم الجن، وكذلك الأحاديث، يقول ربنا سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

إذاً: كما خلق الله الإنس خلق الجن، وربنا يقول: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27]، فالجن مخلوق بلا شك، وموجود بلا أدنى شك، ومنهم المسلم ومنهم الكافر: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:14-15].

يقول أستاذنا المطعني : العلمانية -بكسر العين- نسبة إلى العلم الملموس المادي، لا تؤمن إلا بما تحس؛ فإن وجد في إحساسها آمنت به، وإن غاب عن إدراكها كفرت به، فالعلمانية لها وجه قبيح، والأعداء الآن يطلبون من بلاد المسلمين أن تتعلمن، وأن تتقيد بأنظمة العلمانية، فما معنى العلمانية؟

العلمانية لها تصور في العقيدة، ولها تصور في الشريعة:

أما تصورها في الاعتقاد: الإيمان بكل محسوس، فما دام أنني لا أحس لا أؤمن، وعدم الإيمان بالغيبيات أحد ركائز العلمانية.

أما في مجال الشريعة: ففصل الدين عن الدولة، والمقصود بالدين: من مساجد، زكاة، صيام، حج، عبادات، أما أنظمة الناس فلا دخل للدين بها: من التقاضي، والخصومات، وزواج، وطلاق، ومواريث .. وغيرها، كلها تخضع لأنظمة وضعية، وهذا معنى فصل الدين عن الدولة.

هذه العلمانية في أبسط صورها، وهي بدعة أوروبية مستوردة إلى بلاد المسلمين، انفصام بين الدين والحياة في مجال الشريعة؛ لذلك لا تعجب إن قرأت لأحدهم: الجن خرافة، الجن أكذوبة، ليس هناك أمة تسمى بالجن، فإن سألته: لماذا؟ يقول: لأننا لم نر، فهو لا يؤمن إلا بما يرى، وبما أنه لا يرى فإنه لا يؤمن، لكن نحن معاشر المسلمين إيماننا عميق ثابت؛ لأن الإيمان بالجن من ركائز الإيمان بالغيب.

أقول: من أخطر القضايا في عصرنا الحاضر قضية الجن، وتحتاج إلى وقفة؛ لأن البعض باسم الجن يرتكب المحرمات، وباسم الجن يتكسب الأموال الباهظة من المغفلين والسفهاء، إذا تأخر سن زواج البنت هذا جن، وإذا أصيب بصداع هذا جن، وإذا تعثر في تجارة هذا جن، وللأسف يجد من يساعده في هذا الباب، هناك جن بدون أدنى شك، فيقول الساحر: أصبت بسحر، يقول: كيف يا شيخ؟! وكيف أعالجه؟ يقول: تحتاج إلى أعشاب، وإلى زجاجة مسك دم الغزال، هل هناك مسك يسمى دم الغزال؟! أنا أول مرة أعرف مسكاً بهذا الاسم، يقول: والزجاجة بخمسين جنيهاً، ولا توجد إلا معي أنا، الله أكبر! تفضل، ثم تدخل عليه أنثى تشكو من تأخر سن الزواج، فيقول: أنت مصابة بسحر تعطيل، وأنت تريدين العريس، فتقول: كيف يا شيخ! أواجه هذا؟ يقول: بعدد من الجلسات، لكن الجلسة ستكلفك قدراً ضئيلاً من المال، مائة جنيه فقط، فتقول: خذ مائتين لكن أنجز، وكما يقول المثل: (طول ما المغفل موجود النصاب بخير) احفظها فهي شعارنا في الحياة، وكل يوم تقع في أحيائنا المفاسد، فيدخل المعالج على رأسها وعلى صدرها بدون محرم، وهو يقول: اخرج أيها الجني! كم معك؟ يقول: معي خمسة وإن شئت فعشرة، أولهم اليهودي وآخرهم نصراني، فيقول: ستخرج أو أحرقك؟ فيقول: في الصباح أخرج، لا لن أخرج. وهكذا حوار بين الجني والمعالج، حتى ألف بعضهم كتاباً أسماه: (حوار بين الجني مصطفى كنجوري وبين المعالج) وإن شئت الآن اخرج. فإنك ستجد الكثير يقبل على كتب الجن.

وباسم الجن عمت هذه الفوضى، حتى وصل الأمر إلى أن امرأة كاهنة بالإسكندرية تخرج عليهم بعد الفجر أو قبل الفجر، وكم رأيت بعيني هاتين! المسجلين أكثر من خمسين ألفاً، وموقف سيارات، ونساء ورجال، وكأنهم ينتظرون المهدي المنتظر يخرج في الصباح، حتى القرآن لا تجيد قراءته، ومع ذلك يأتي إليها من كل فج عميق شرقية ومنوفية ودقهلية وقاهرة وصعيد، وللأسف الشديد ممن ينتسبون إلى طبقات المثقفين ظلماً وعدواناً، وهذا يقع على الأرض، وهذا يشق الثوب، والكرسي يؤجر بثلاثة جنيهات، وتبيع كتاباً بجنيهين، والأمر فوضى، من الذي يسر لها هذا؟ ظلت أشهراً تفعل هذا الفعل، والأمة في غيبة عن الوعي! أبسط أمور العقيدة لا تعرفها: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] ، أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، هل الذي يملك الشفاء كاهنة تذهب إليها؟ وللأسف أخوها الجاهل يقف بجوارها، يمسك عصاً وينزل على المريض ضرباً على رأسه وعلى صدره حتى يقع مصروعاً.

ما هذا يا عبد الله؟! ما عرف السلف التخصص في مثل هذا العلاج، لم يعرف في زمن الصحابة أن صحابياً يعالج ويعمل لافتة فيها: الشيخ فلان للعلاج بالقرآن، وبجواره أنف وأذن وحنجرة، بل وطب أسنان، وكون عيادة للعلاج.

فيا قوم! ضياع هذه المفاهيم ترتب عليه المفاسد العظام والعظام، أكثر من (90%) من المرضى نساء، لماذا هذا العدد؟ قف وسل، فبعض المعالجين إذا علم أن المريض رجل اعتذر، وإذا علم أن المريضة أنثى هرول هرولة، وأنا لا أقدح في أحد، إنما القضية ناقوس جرس يدق، مؤامرة اشتركنا فيها بسكوتنا، وأقول: إن لم تواجه هذه الظاهرة فإنه سيحدث العجب العجاب.

وعندنا من ينتسب إلى التصوف ظلماً وعدواناً، وهو لا يعرف معنى التصوف، إذا أعد ورقة للمرأة أخذ منها خمسمائة جنيه وتدفعها، حتى أتت إلى بعض الناس أخبرته الخبر، وهكذا خمسمائة في خمسمائة، كل يوم هذا الرجل يستغفل باسم الدين، ويرتكب هذه الجرائم، بل بعضهم انفرد بأنثى للمعالجة، فلعب الشيطان برأسه، ففض بكارتها يا قوم! أليس منكم رجل رشيد؟ كيف يليق بي أن أدفع زوجتي أو أختي أو أمي للمعالج وأتركها معه ينفرد بها باسم العلاج؟! هل يجوز أن تعالج المرأة بدون محرم؟!

أقول: لما مر أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم بحي، وجدوا سيد الحي قد لدغه ثعبان، فطلبوا له الطب فعجزوا، ماذا قال الصحابي؟ أنا أرقيه، إذاً المشروع هو الرقية، الكلام هنا للعلماء: هل هذا الصحابي متخصص؟ ليس متخصصاً، لذلك ماذا صنع؟ تفل على مكان الجرح وقرأ الفاتحة فقط، فقام الرجل كأنه نشط من عقال بعير، فلما جعلوا له جعلاً قال النبي عليه الصلاة والسلام له: (وما أدراك أنها رقية؟)، يعني: ما الذي عرفك أن الفاتحة رقية؟ معنى هذا أنه غير متخصص.

فالرقية المشروعة بدون أجر، وإن أردت أجراً فلا تشترط، قال: اجعلوا لنا جعلاً؛ لأن القوم أبوا أن يضيفوهم في البداية، لكن حين يطلب عشرة جنيهات كشفاً أولياً وخمسين جنيهاً علاجاً، وبخمسة جنيهات كتاباً، وبسبعة جنيهات شرائط، يا رجل! اتق الله في نفسك، لا تستغل حاجة المريض، فنحن نؤمن بالمس دون أدنى شك، وسنذكر الأدلة في الحلقات المتتابعة.

أيها الإخوة الكرام الأحباب! هذه الظاهرة تحتاج منا إلى وضوح رؤية وإلى تصحيح مفاهيم، وإلى استدلال صحيح من الكتاب والسنة.

قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ [الجن:1] الخطاب لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، قل للناس جميعاً: أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن:1]عن طريق الوحي جبريل عليه السلام أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، قال العلماء: رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة وهم يستمعون، وفي واقعة لم يرهم، وفي هذه السورة لم يرهم بدليل أنه علم عن طريق الوحي، لكن رآهم في واقعة أخرى، ففي حديث ابن مسعود عند مسلم (لما انطلق النبي عليه الصلاة والسلام، وقام الصحابة يلتمسونه، فما وجدوه، حتى إذا عاد أخبرهم أن داعي الجن أتاه فذهب معه إلى القوم، فتلا عليهم القرآن، ثم يقول ابن مسعود : فأخذنا وأرانا آثار نيرانهم وآثار مكانهم)، هذا الحديث دليل على أنهم استمعوا إليه وهو يعلم، لكن في هذا الموضع في سورة الجن لم يعلم أنهم يستمعون إليه، وكان ذلك في صلاة الفجر وهو يصلي بأصحابه.

وسبب النزول كما أورده المفسرون: أنه لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام حرست السماء حراسة شديدة بالشهب: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا [الجن:8] من الملائكة، وَشُهُبًا [الجن:8] ترصدهم، فلما كانت الجن تسترق السمع قبل بعثة سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وجدت تغيراً في أمر السماء، إما أن عذاباً قد اقترب على أهل الأرض، وإما أن يكون هناك نبي قد بعث حتى قالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، أي: لما رأوا السماء محصنة بهذه الطريقة قالوا: لا ندري لعل هذا عذاب لأهل الأرض، ولعل هذا نبي بعثه الله لأهل الأرض.

فلما نزلوا إلى الأرض وأخبر بعضهم بعضاً، قال بعضهم لبعض: انطلقوا في ربوع الأرض فانظروا ماذا حدث؟ فانطلقوا يميناً ويساراً، وشرقاً وغرباً، فأتوا إلى سوق عكاظ، فوجدوا النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ فعلموا أن ذلك هو السر، فوقفوا يستمعون القرآن من فم سيد البشر محمد وهو يرتل ويقرأ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ [الجن:1]، وفرق بين السماع والاستماع، فالاستماع: أن يقبل بأذنه وجوارحه إصغاء إلى كتاب ربنا سبحانه.

وقال: نَفَرٌ [الجن:1] أي: من الثلاثة إلى العشرة فَقَالُوا [الجن:1] لقومهم، كما هو واضح في سورة الأحقاف: وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ [الأحقاف:29]، فالجن يبلغون أقوامهم: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30].

وقال تعالى هنا مخبراً عنهم: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] أي: عجيباً في فصاحته، عجيباً في بلاغته، عجيباً في قصصه. هذه شهادة الجن، والله تعالى أرسل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، فهو مبعوث إلى الثقلين عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: (سَمِعْنَا قُرْآنًا): باعتبار أنه مقروء، وفي سورة الأحقاف قال: (كِتَابًا): باعتبار أنه مكتوب، يقول الدكتور دراز في كتابه القيم (النبأ العظيم): سمي القرآن قرآناً باعتبار أنه يقرأ، وسمي كتاباً باعتباره مكتوباً في المصاحف، وذلك لحكمة عظيمة.

فالذي حفظ القرآن هو الله، فكلما قرأناه حفظناه في الصدور، فإن زال من الصدور فهو ما زال في السطور، ولعلك تلاحظ هذا في قديم الزمان، فقد كان عدد الحفظة كثيراً وكانت المصاحف قليلة، أما الآن فطبعات متعددة على سيديهات وغيرها؛ لأنه خف في الصدور وصار في وسائل الحفظ الأخرى؛ لأن الذي تكفل بحفظه هو الله، حينما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، أما الكتب السابقة للقرآن تعهد بحفظها الأحبار والرهبان، فهل حفظوها؟ أبداً، حرفوا وبدلوا وغيروا، فقال الله في حقهم: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] لماذا؟ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79].

قال تعالى: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن:2]، أي: يدل إلى طريق الخير والصواب والحق.

قال: فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:2]، فالجن حينما سمعت القرآن آمنت بربها عز وجل، وأثنت على كتاب خالقها فقالت: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، وبعضنا يسمع ويعرض كحال المشركين حينما قالوا لبعضهم: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26].

إن القرآن يعالج حالات نفسية، فإن كان عندك توتر عصبي أو مرض نفسي فعليك بالقرآن، فإنه يخاطب ملكة في النفوس لا يعلمها إلا الله، واذكر كيف أسلم عمر بن الخطاب؟ تلت عليه أخته القرآن فاستمع إلى آيات من سورة : طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:1-8].

والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، يا ليتنا نعود للقرآن ونتدبره، يقول ربنا في آخر سورة الحشر: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].

وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فالقرآن هو المخرج من الفتنة يا عباد الله!

قال تعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن:3]، تنزيه وتعظيم له سبحانه، ففي هذه الآية إشارة إلى العظمة وعلو المكانة وارتفاع الصفات والتنزيه عن النقائص، فقوله: جَدُّ أي: عظمته سبحانه.

قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3] الجن يعلمون غيرهم التوحيد، ويردون على قضية التدليس، ويقولون: إن الله الذي خلق يتنزه عن الزوجة والولد، فأنت تحتاج إلى الزوجة لتأنس بها ولتفضي إليها، ولتكون لك سكناً، فهل ربنا سبحانه يحتاج إلى ذلك؟ تعالى الله عن الزوجة وتعالى عن الصاحبة، وأنت تحتاج إلى الولد ليكون لك قوة، فهل ربنا يحتاج إلى الولد؟ حاشاه سبحانه.

قال ربنا سبحانه: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا [الجن:4] أي: جاهلنا إشارة إلى الشيطان، فالجن يقولون عن الشيطان: إنه سفيه، ويقول الله في وصف اليهود: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142].

فالجن تسمي الشيطان سفيهاً، وسمى الله اليهود سفهاء، فلا فرق بين اليهود والشيطان، يقول ربنا: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14]، والمقصود بقوله: (شياطينهم) اليهود، ولفظ الشيطان لا يطلق إلى على الجني الكافر، ولفظ الجني عام، فكلمة (الشطن) مأخوذة من البعد عن الحق، شطنت الدار أي: بعدت، فالشيطان من الجن؛ لأن الله قال: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، إذاً: هو من الجن بدون أدنى شك، لكنه فسق عن أمر خالقه سبحانه.

فإن قال قائل: كيف ذلك والله يقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة:34]، الأمر هنا للملائكة فما دخل إبليس؟ قال ابن عباس : كان معهم في صحبتهم ولم يكن معهم بمادتهم، عند صدور الأمر كان في الصحبة، فلابد أن يطيع أمر الخالق الله عز وجل، والسجود لآدم والطاعة لله سبحانه. هذا قول ابن عباس .

وقوله: عَلَى اللَّهِ شَطَطاً الشطط: هو القول الذي ينافي الحقيقة، وافتراء الكذب على الله عز وجل، يقول ربنا عن أصحاب الكهف في قوله تعالى: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14] أي: أن هذا القول يبعد عن الحقيقة ويحمل الكذب.

قال تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الجن:5]، أي: أن الجن كانوا يعتقدون أنه لن يكذب على الله من الإنس أحد، ولن يكذب من الجن أحد، لكن ما أكثر هؤلاء الذين يصدرون الفتوى وهم يعلمون أنهم كاذبون، والذي نفسي بيده يكذبون على ربهم عز وجل.

الذي أحل البنوك الربوية يكذب على الله، أم لا؟

الذي حرم النقاب يكذب على الله، أم لا؟

الذي حرم ختان الإناث يكذب على الله، أم لا؟

والله إنه يكذب على الله، والله إنه يكذب على خالقه؛ لأنه يعلم ويقرأ في كتب الفقه في المذاهب الأربعة أن ذلك مشروع، فكيف يفتري الكذب على الله، وهناك من يبيح للأمة أن تجلس على طاولة المفاوضات، والطاولة طويلة، فمنذ عام (1948م) لازلنا على الطاولة، ولا أدري متى ستنتهي الطاولة؟! وانتقلوا من الطاولة إلى خارطة الطريق، يا قوم! أتكذبون على ربكم؟ أما تعلمون أن هؤلاء لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً؟ أما تعلمون أن هؤلاء يفسدون في الأرض؟ أما تعلمون أن هؤلاء يشتاقون عطشاً إلى دماء الموحدين.

طفل عمره عامان يسمى عليان من أبناء فلسطين المسلمة، يقتل منذ أسبوع، سلوهم بأي ذنب قتلوه؟ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، أمعه مدفع؟ أيحمل رشاشاً؟ لماذا يقتل رضيع لا يزال يرضع من ثدي أمه، لماذا تقتله يا هولاكو العصر؟! لكن لا غرو في ذلك، فالأمة تستجيب لك، وتجلس معك على الطاولة، وتنطلق معك إلى خارطة الطريق، أقول كما قال الله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].

وأقول كما قال الله سبحانه في سورة المجادلة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المجادلة:14-17].

ثم قال سبحانه: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].

قال الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، والمعنى: أنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال من الجن، فإذا نزلوا وادياً استجاروا بسيد هذا الوادي من الجن، مع أن الجن تخاف من الإنس وتفرق منهم، فلما علمت الجن أن الإنس يستجيرون بهم أرهقوهم إثماً وذعراً؛ ولذلك لا يتعامل مع الجن إلا مذعور خائف، فالله يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، أما نحن الآن فقد جعلنا كيد الشيطان عظيماً، قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] يا عبد الله! تحضر الجن في بيتك ولا تحضر الملائكة؛ لأن الملائكة لا تكون إلا في بيت فيه قرآن، وليس فيه تصاوير وليس فيه مفسدون وليس فيه غناء، بل فيه ذكر وطاعة.

يقول أسيد بن حضير : اشتقت إلى قراءة القرآن وأنا على راحلتي. ما هذا الحب؟ يشتاق للقرآن وهو يركب الدابة، فربط الدابة وعليها ولده الصغير، ونزل يقرأ القرآن. يقول: فأخذت أقرأ في سورة البقرة، فكلما قرأ تحركت الدابة، وكلما سكت سكنت الدابة، فخاف على ولده أن يقع، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما رأى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ أسيد ! فإنها الملائكة تنزل لسماع القرآن)، فعمر البيت بالقرآن، قد يقول قائل: يا شيخ! البنت مسحورة، أقول: انظر إلى البنت تلبس بنطلوناً وتسمع الغناء ولا تصلي، وهي متبرجة، ولا تعرف من دينها شيئاً، ولا تقرأ القرآن أبداً، لا تحفظ حتى سورة الإخلاص.

إذاً: هي بنفسها جنية، ونعوذ بالله من حالها، فكيف تذهب لتعالج مثل هذا الصنف؟ يا رجل! اتق الله في نفسك، إن بيوتنا تحتاج إلى أن تكون فيها الملائكة، لا أن يكون الجن فيها.

الملائكة تشهد قراءة الإمام في الفجر وتستمع للقرآن، قال تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وفي الحديث الصحيح: (تجلس الملائكة على باب المسجد بعد أن يصعد الإمام إلى المنبر، فتطوي الصحف تستمع الذكر) فهي تستمع الخطبة الآن، وأنا أعلم أن العلماني يقول: انظروا إلى هذا الشيخ! إنه يقول: الملائكة على الأبواب! فأقول: يا علماني يا خبيث! إن الذي أخبرنا بذلك هو المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم، فهل نصدقه أم نصدقك؟ أنا أعرف أنك ستجلس غداً وتقول: عجيب! يتصورون أن الملائكة على الأبواب! ألم أقل لكم: إن هؤلاء رجعيون، متزمتون، متحجرون، يريدون لنا أن نعيش في عصور الظلام، لكني أقول: ماذا صنعت أنت بحضارتك العفنة؟ ضيعت الأمة، وأوديت بحياتها وخلفتها خلف الأمم، وانظر كيف كانت الأمة في عهد سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة؟ كانت الريادة والسيادة لهذه الأمة، فجئت أنت وألصقتها بالوحل والتراب بحضارتك المزعومة.

فقوله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ [الجن:6] يبين لنا أن نحذر من التعامل مع الجن، قد يقول قائل: هل يجوز أن أسخر الجني المسلم؟ الجواب: لا، هذا الراجح من أقوال العلماء؛ لأن سليمان عليه السلام قال: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]، فتسخير الجن كان لسليمان، أما غير سليمان لا يجوز له أن يسخر الجن؛ لأن الله قال: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35].

فإن كنت تقول: أنا أستخدم الجن في دفع المفاسد، فابعث يا أخي! الجن إلى القدس بارك الله فيك، وابعثهم إلى بغداد، أصلح الله حالك، ابعثهم إلى الشيشان. سلط الجن على أعدائنا! أسألك بالله وأستحلفك به هل استعان النبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق بالجن؟ هل استعان بهم في بدر، في أحد، في حنين، في تبوك؟ أبداً ما استعان بهم؛ ولذلك أقول لك: لا ينبغي لك أبداً أن تتعامل بهذه الطريقة.

وقوله: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] أي: إثماً وذعراً وخوفاً وتعباً ونصباً.

قال الله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8]، (لَمَسْنَا): جاورنا، صعدنا إلى السماء لنسترق السمع الغيبي من الملائكة؛ حتى ننزل به إلى الأرض، فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8]، يقول الله سبحانه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5].

ويقول سبحانه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:6-7].

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حب القرآن، وتلاوة القرآن، ونور القرآن، وفهم القرآن، وعطاء القرآن.

اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً.

اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.

نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء همنا وغمنا ونور أبصارنا.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً.

نعوذ بك يا رب! من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع.

ارزقنا قبل الموت توبة، وارزقنا عند الاحتضار شهادة، وارزقنا بعد الموت جنة ونعيماً.

اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك.

اللهم اجعل القرآن نور أبصارنا، وشفيعاً لنا على الصراط.

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين.

اللهم عليك باليهود والأمريكان، فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين شتت يا رب شملهم، فرق يا رب جمعهم، خرب يا رب ديارهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، أرنا يا رب فيهم آية؛ فإنهم لا يعجزونك.

اللهم إن ليل المسلمين قد طال فاجعل لهم فجراً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، واجعل القرآن شفاء لنا من كل داء.

إنك على كل شيء قدير، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

آمين آمين، آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أتحدث الآن معكم حول حديث أورده الإمام النووي في كتاب (رياض الصالحين) في باب الصدق.

إن كتاب (رياض الصالحين) من الكتب المهمة التي يقتنيها الكثير ولا يعيش معها، فالإمام النووي قسم الكتاب إلى أبواب: باب إخلاص النية، باب التوبة، باب الصبر، ثم باب الصدق، ومن طبيعته أن يأتي في كل باب بآيات ثم بأحاديث.

أورد في باب الصدق حديثاً رواه البخاري ومسلم ، يذكر فيه قصة ليوشع بن نون، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء -أي: غزا في سبيل الله عز وجل- فقال لقومه: لا يتبعني ثلاثة) أي: ثلاثة أقسام من الناس لا يتبعني في الجهاد. قال: (لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وأراد أن يبني بها ولم يبن) يعني: رجل عقد زواجه على امرأة ولكنه لم يدخل؛ وذلك لأن العبادة لاسيما الجهاد ينبغي أن يقوم العبد به وهو خالي الذهن؛ لذلك ربنا يقول: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7] أي: إذا فرغت من شئون دنياك فانصب إلى عبادة ربك، فلا صلاة في حضرة الطعام، ولا أنت تدافع الأخبثين؛ وذلك لكي يكون الذهن خالياً عما سوى العبادة، فالرجل الذي عقد على امرأة ولم يدخل بها سيجاهد وهو يفكر في الدخول بها.

ثم قال: (ورجل بنى داراً -بنى بيتاً- ولما يرفع سقفها)، أي: وضع الأعمدة والجدران والقواعد وبقي السقف؛ فسيكون فكره منشغلاً بإتمام بناء الدار والسكن فيه.

ثم قال: (ورجل ملك أنعاماً -يعني: لديه مواش حوامل- وهو ينتظر النتاج) هذا أيضاً لا يتبعه.

فقوله: (غزا نبي من الأنبياء) يشير إلى أن الجهاد في الأمم السابقة كان معروفاً، وما من نبي إلا وجاهد في سبيل الله، فحدد هذه الشروط لقومه. قال: (فلما غزا في سبيل الله اقترب له النصر -أوشك على الفتح- واقتربت الشمس من الغروب) كان في شريعتهم على قول ابن كثير : أنه لا يجوز أن يقاتل في ليلة السبت، لكن الشيخ ابن عثيمين يرى أن الظلام هو الذي سيؤخر النصر، يعني: ابن كثير يرى أنه طلب تأخير الشمس لعلة شرعية، أما في شرح رياض الصالحين يرى الشيخ محمد بن صالح رحمه الله أنه طلب ذلك؛ لأن ظلام الليل سيؤخر النصر، قال: (فتوجه إلى الشمس قائلاً: أنت مأمورة وأنا مأمور) أي: أنت مأمورة بالغروب وأنا مأمور بالغزو والجهاد. قال: (ثم توجه إلى ربه قائلاً: اللهم احبسها علينا) يعني: لا تغرب حتى يكتمل النصر، (فأخر الله له غروب الشمس) وهذا يدل على أن الشمس مخلوقة، والرتابة في السنن الكونية لا تجعلك تثق أن هذه السنن لا تتغير: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]. (فلما انتصر أخذ الغنائم)، والغنائم في شرع من قبلنا لا تحل لهم، وإنما حلت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم)، فكانت تنزل من السماء نار لا يعرف مصدرها، تأخذ الغنيمة وتأكلها. قال: (نزلت النار لتأخذ الغنيمة فلم تطعمها) ما السبب في امتناع النار عن أكلها؟ قال يوشع بن نون للقوم: (فيكم غلول) والغلول: الأخذ من الغنيمة بغير حق، يقول ربنا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]. فمعنى الغلول: الأخذ من المال العام، فسرقة الكهرباء غلول، وتسخير السيارة قطاع عام لخدمة الأولاد غلول؛ لأنه أخذ من الأموال بغير حق، حدث ولا حرج، شخص مرتبه مائة وعشرون جنيهاً هذا مرتبه الأساسي دون الحوافز والمكافأة، ومع ذلك يبني عمارة في مدينة مصر بمليوني جنيه، فهل هذا غلول أم ليس بغلول؟ هذا هو الغلول، وماذا صنع الغلول بالغنيمة؟ نزلت النار فلم تأكل الغنيمة، فقال يوشع للقوم: (فيكم غلول، فلتخرج كل قبيلة منها واحداً يصافحني، فأخرجت كل قبيلة رجلاً فصافح الأول والثاني، فلزقت يده بيد أحدهم فقال: فيكم الغلول) أي: القبيلة هذه فيها السرقة قال: (ائتني بأعضاء القبيلة كلهم، وصافحها رجلاً رجلاً فلزقت يده بثلاثة) إذاً: هؤلاء الذين سرقوا فلما تأكد منهم قال: (فيكم الغلول، فذهبوا فجاءوا بذهب كرأس البقرة) يعني: أتوا بذهب في حجم رأس البقرة، (فوضعه في الغنيمة، فنزلت النار فأكلت الغنيمة).

هذا الحديث أورده الإمام النووي في كتاب (رياض الصالحين) ليدل على فضيلة الصدق، فالصدق منجاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)، والكذاب يشك في نفسه، ويكاد المريب يقول: خذوني، ولكن الصادق يطمئن.

حكم من عاهد الله على ترك ذنب فعله ثم عاد إلى فعله

السؤال: عاهدت الله على ذنب فعلته على ألا أعود إليه مرة أخرى، ولكني وقعت مرة أخرى، فما الكفارة التي علي، أم ليس علي كفارة؟

الجواب: إن كنت حلفت بالله ألا تفعل وفعلت فعليك كفارة يمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم تجد فصيام ثلاثة أيام، وإن كان العهد بدون يمين فعليك بالتوبة والاستغفار والندم؛ لأن هذا لا شك أنه معصية، فأنت عاهدت الله ثم نكثت العهد بعد ذلك.

حكم أكل لحم النعام

السؤال: ما حكم أكل لحم النعام؟

الجواب: الحقيقة هناك أسئلة لا ينبغي أن تسأل، هل عندنا نعام؟ فهل هناك أحد يأكل نعاماً؟ إذا رزقت بنعامة فخذها وتعالى إليَّ لنأكلها معاً، ولا داعي للافتراضات الخيالية يا عبد الله! أنت تأتي بنصف كيلو من اللحم بعد جهد كبير، وفي هذه الظروف تقول لي: ما حكم أكل النعام؟ كل ولا حرج، لكنني أعرف أنك لن تذوق النعام طيلة عمرك، شخص بعث سؤالاً قال فيه: ما حكم خروف رضع من كلب؟ ما هذه الأسئلة! يقول تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، فلا تسأل إلا عن المهم الذي يترتب عليه عمل، وهذا هو منهج القرآن.

تفرغ الشيخ وحيد للفقه ودراسته، وتركه الخوض في حوارات مع الجن

السؤال: للشيخ وحيد عبد السلام بالي كتب عن الجن وشرائط، وله حوارات في كتبه مع الجن؟

الجواب: الشيخ وحيد عبد السلام شيخنا حفظه الله، قد ترك هذا الموضوع منذ زمن، وتفرغ للفقه ودراسته وتخريج طلبة العلم، وقد اعتذر عما كان يفعل، فما غرضك أنت من هذا السؤال؟ إننا نتحدث عن منهج الإسلام فلا تحتج علي بفعل هذا أو فعل هذا، فهذا أمر لا ينبغي أن يكون من طالب علم.

صفة وضوء من يعاني من مرض سلس البول

السؤال: ما صفة وضوء المريض بسلس البول؟

الجواب: يتوضأ لكل صلاة بعد دخول الوقت، وعليه أن يزيل النجاسة التي في ثوبه.

حكم شرب الرجل الكبير من لبن امرأة

السؤال: شرب رجل كبير السن من لبن امرأة، ما حكم ذلك؟

الجواب: هذا السؤال قد يكون فيه تورية، فالزوج قد ينسى عقله ويرضع من ثدي زوجته، وقد حدث عندنا في المركز، فوقع في فمه قطرات لبن، فجاء يسأل، أقول: قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني في سننه: (لا رضاع بعد فطام، ولا يتم بعد احتلام)، فإذا فطم الطفل لا تؤثر فيه الرضاعة، فالرضاعة تكون في الحولين، فإذا رضع في الحولين أثر، وأنت الحمد لله كبير، فإن رضعت لا يؤثر ذلك في حرمة وعدم حرمة.

وقوله: (ولا يتم بعد احتلام)، يعني: إذا بلغ الطفل الحلم -الرشد- فلا يسمى يتيماً، إنما اليتيم من لم يبلغ الحلم، وقال تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ [النساء:6]، يعني: بلغوا الرشد والحلم، فإذا بلغ اليتيم الحلم لا يسمى يتيماً، واليتيم في بني جنسنا من مات أبوه ولم يبلغ الحلم، ومن ماتت أمه لا يسمى يتيماً، وإن ماتت أمه وأبوه سمي لطيماً، أما الحيوانات إن فقدت الأم فتسمى يتيمة.

يقول الله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:9-10].

وقد يحتج علي شخص برضاع الكبير، فأقول: رضاع الكبير منسوخ في أغلب الأقوال وأرجحها، أما رضاع سالم مولى أبي حذيفة من سهلة بنت سهيل فهذا خاص بـسالم قال صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه يا سهلة ! يحرم عليك)، والله تعالى أعلم.

حكم الغش في امتحان مادة الفلسفة وغيرها

السؤال: نحن الآن مقبلون على الامتحانات، فما حكم الغش مع الدليل، وما حكم الغش في مادة الفلسفة إذا كنت سأرسب بسببها؟

الجواب: انظروا كيف زيَّن الشيطان له عمله، يقول: الفلسفة دراستها لا تجوز، إذاً: أغش فيها ولا حرج، إن الغش حرام في الفلسفةوفي علم النفس وفي الرياضة المالية وفي الدراسات الربوية، الغش أصله حرام يا عبد الله! فلا تستحل لنفسك هذا، قد يقول البعض: هذا تعليم وضعي، والغش فيه لا حرج، أقول: عيب أن تكون ملتزماً وتغش، وقد يكتب على الورقة غشاش وتخرج من اللجنة بفضيحة، فيا رجل! اتق الله، الغش حرام أينما كان.

حكم استعمال وسائل تنظيم الأسرة

السؤال: هل استعمال وسائل تنظيم الأسرة من جهاز .. وغير ذلك يقع تحت قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]؟

الجواب: منع الحمل حرام، وتحديد النسل حرام، فإذا كنت تنظم بين الولد والولد فترة زمنية فلا بأس، فالزوجة تريد أن ترضع، ففي فترة الرضاعة لا ينبغي أن تحمل، وعليها أن تستخدم وسيلة في هذه الحالة لمصلحة الطفل الذي ترضعه؛ لأن الحمل يؤثر على الطفل الذي يرضع، هذه مسألة منتهية، فالتنظيم يكون لسبب شرعي، أما أن تضع حداً لعدد الأطفال وتقول: هذا يكفي، فهذا حرام.

قد يقول قائل: أريد أن أستمتع بالزوجة فلا أريد أبناءً، أقول: هذا ليس سبباً شرعياً، السبب الشرعي: صحة الزوجة، ومراعاة الولد الرضيع .. إلى غير ذلك، لكن ضيق الرزق ليس سبباً شرعياً.

ولا يجوز للمرأة أن تمتنع عن الإنجاب، فأنتم تعلمون أن هناك مخططاً يستهدف مصر لتحديد النسل، عدد سكان مصر سبعون مليوناً، وذات مرة استضافوا شخصاً، فسألوه عن مواجهة ظاهرة الانفجار السكاني، فقال: أنا لا أرى علاجاً لهذه الظاهرة إلا بالتدخل الحكومي بقانون، ينص على أن المرأة إذا حملت أكثر من اثنين أو ثلاثة، تعطى حقنة لإسقاط الجنين إجبارياً، فانظر إلى مثل هذه العقول العفنة، إن شاء الله تعالى نصبح في عام (2010م) مائة مليون، هم واهمون في قولهم، إن امرأة تمنع حملاً وفجأة تلد توأمين، فهي مصيبة كبيرة عندهم، فقالوا: لا بد من وقفة مع رجال الدين الذين يقولون للناس: إن تحديد النسل حرام.

أقول: يا عبد الله! إن الثروة البشرية في لغة الاقتصاديين ثروة عظيمة، وذات نفع كبير، ولكن المهم استثمارها، نقول: عدد سكان مصر سبعون مليوناً، تونس اثنا عشر مليوناً، والمغرب خمسة وعشرون مليوناً، فالعدد أعطانا قوة، والبلد الذي له ثقل اقتصادي وثقل سكاني بلد مصر، أما تونس فقد قام حكامها بأشياء يندى لها الجبين، فهناك قانون يقضي بالتحريم على الأنثى أن تضع أكثر من ثلاثة، كذلك التعدد في الزوجات يحرم بقانون، وإن رآك تصلي الفجر في المسجد يومين متتاليين أصبحت مجرماً بتهمة صلاة الفجر، وإن رأى على امرأة خماراً في الطريق العام يقص الخمار من على رأسها، وهذا بورقيبة في تونس صنع تمثالاً لامرأة عارية وقال: كوني كهذه، وتمثالاً لامرأة محجبة وقال: لا تكوني كهذه؛ ولذلك هم الآن يمنعون أي وسائل إعلامية أن تدخل البلاد إلا بإذنه، كل ذلك لمسخ الشعب مسخاً عاماً.

فاستخدموا الوسائل ومراكز تنظيم الأسرة والإعلام وقالوا: لا لختان الإناث، لا للزواج المبكر.

سنتزوج مبكراً، وسنختن البنات، وسنحيي تعاليم ديننا، وسنواجه المخطط الذي يستهدف به مصر لخفض عدد السكان، إن العنصر المنتج فقط من بلد مصر يستطيع أن يبني صحراء سيناء ويعمرها، فنحن نرفض الإعالة، وذلك حين يعيش الإنسان عالة على غيره، وهذا يسميه الاقتصاديون: معدل الإعالة، وهو أن يكون العنصر البشري عنصراً منتجاً، لا يشتغل في الخدمات؛ لأنه عندما يوجه الدخل للخدمات ينهار الاقتصاد، فالحلاق يقدم خدمة، والذي ينتج الثياب يقدم منتجاً، فنحن نريد أن يكون الدخل مقابل إنتاج للسلع وليس للخدمات.

إن المشكلة التي تعاني منها في مصر هو عدم الرشد الاقتصادي، فقد رأيت كوخاً فوقه دش أليست هذه سفاهة؟ ومنهم من يكون دخله مائة جنيه، ويشتري بمائة وعشرين جنيهاً سجائر سوبر، يعني: يقترض عشرين، ماذا يطعم أولاده؟ الله أعلم، ولا يدفع الإيجار فيطرد، فلابد للمجتمع أن يكون مجتمعاً منتجاً، فإننا حين نكتفي اكتفاءً ذاتياً بإنتاج القمح لصنع الخبز لا نحتاج إلى قمح من أحد، لكن العدو لا يريد لك ذلك، فتراه يعطيك شحنة القمح كل ثلاثة أيام، وإن تكلمت منع الشحنة، وصدق من قال: من لم يأكل من فأسه، لا يحكم من رأسه.

جزاكم الله خيراً، تقبل الله منا ومنكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.