تفسير سورة المزمل [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، بيده الخير وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأشهد أن نبينا ورسولنا وسيدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنكم لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها جنة أبداً أو نار أبداً.

نواصل الحديث في تفسير سورة المزمل.

قال الله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:15-20].

فقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا [المزمل:15] وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والرسول من التوجيه والإرسال، وبينه وبين النبوة عموم وخصوص، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، ويعرف علماء العقيدة الرسول بأنه مبعوث من البشر بعثه الله سبحانه، وأوحى إليه بالبلاغ، وأنزل عليه رسالة وأمره بتبليغها. ذاك هو الرسول، ولا شك أن هناك فرقاً بين الرسول والنبي بأدلة واضحة من القرآن والسنة، قال الله في وصف موسى عليه السلام: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]، فأثبت له الرسالة، وأثبت له النبوة، وفي حديث البراء بن عازب الذي رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الوضوء في باب فضل من بات على وضوء. أي: من نام على وضوء: أن النبي صلى الله عليه وسلم سن عند النوم أن يضطجع المسلم على يمينه، ثم يقول الدعاء الذي علمنا إياه نبينا صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، الذي لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فلما وصل البراء إلى هذه الجملة قال: وبرسولك الذي أرسلت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، قل: وبنبيك) يقول الحافظ ابن حجر : أراد أن يجمع لنفسه صلى الله عليه وسلم بين الوصفين: وصف النبوة ووصف الرسالة؛ لأن هناك رسلاً من غير البشر، وهم الملائكة وليسوا بأنبياء.

وقوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ [المزمل:15] فالنبي صلى الله عليه وسلم سيشهد على أمته يوم القيامة، وكل نبي سيشهد على أمته، والله سبحانه وتعالى يأتي بالأنبياء جميعاً يوم القيامة ويسألهم عن حالهم مع أممهم، كما قال عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42]، وتشهد على العبد جوارحه، ويشهد عليه اللسان، واليدان، وتشهد عليه القدمان، ويشهد عليه الجلد، قال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، بل تشهد الأرض.

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما تلا قول الله: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4] قال: (أتدرون ما أخبارها؟ قلنا: لا، يا رسول الله، قال: أخبارها أن تأتي الأرض يوم القيامة وتشهد على من فعل عليها معصية، ينطقها الله عز وجل).

قوله سبحانه: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:16] أي: أخذاً شديداً، وقصة فرعون درس لكل ظالم، أنه مهما طغى ومهما تجبر ومهما علا صوته ومهما ارتفعت رايته فإن له نهاية، فإن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، يقول ربنا في سورة النازعات: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى [النازعات:17-20] .

رغم وضوح الآيات البينات بين يدي فرعون إلا أنه كما قال الله عنه: فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:21-25] أخذه الله بقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] فأغرقه ودمره هو وأتباعه.

والله سبحانه وتعالى جعل فرعون آية لكل ظالم، قال الله سبحانه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92].

وقوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ [المزمل:17] أي: كيف تدفعون عن أنفسكم ذلك العذاب يوم القيامة؟ إِنْ كَفَرْتُمْ [المزمل:17] لأنكم كفرتم به وكذبتم به، فكيف تتقون ذلك اليوم؟

يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17] أي: أن الغلام الصغير يشيب من هوله كما قال سبحانه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، وفي الحديث عند البخاري ومسلم عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ينادي يوم القيامة: يا آدم أخرج بعث النار، يقول آدم: وما بعث النار؟ يقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) أي: أن الناجي واحد، فشق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجثوا على ركبهم وعلاهم الخوف والهلع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم بالنسبة لسائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وإني أسأل الله أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبر القوم، فقال: ثلث أهل الجنة، فكبر القوم، فقال: شطر أهل الجنة)، فأمة خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم شطر أهل الجنة بهذا الحديث.

قال تعالى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل:18]، يوم تنفطر السماء وتشقق، كما قال ربنا سبحانه: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، وقال: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1].

وقوله: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل:18] أي: أن وعد الله عز وجل لا يتخلف.

وقوله تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ [المزمل:19] أي: تلك الآيات التي ذكرتكم بالآخرة، والتي وقعت على قلوبكم لتنبه الغافلين، وتوقظ الراقدين، فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:19] فمن شاء اتخذ إلى ربه طريقاً يتزود به للقاء ربه عز وجل.

ذكر ربنا سبحانه تلك الآيات التي نسخت فريضة قيام الليل، وبين نزول أول سورة المزمل وآخرها حول كامل، يوم أن قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُمِ اللَّيْلَ [المزمل:2] فقام صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه سنة كاملة، حتى تورمت أقدامهم من طول القيام بين يدي الله سبحانه، وهذا فيه تربية على الامتثال لأمر الله سبحانه، ثم أنزل الله في آخرها نسخاً للوجوب، وأصبح قيام الليل على الاستحباب والندب، ودليل الجمهور أن قيام الليل ليس فرضاً الحديث الذي رواه البخاري : (أن رجلاً أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عما فرضه الله عليه من الصلاة، فقال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع -أي: إلا أن تزيد من جنسها ما شئت بالضوابط الشرعية- ثم سأله عن الصيام فقال له: صيام رمضان، قال هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، فانطلق الرجل وهو يقول: لا أزيد عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)، وفي رواية: (أفلح وأبيه إن صدق) والمعنى: أن تلك هي الفروض، وما زاد عليها من جنسها فهو من باب النوافل.

والنسخ لغة: الإزالة، واصطلاحاً: هو رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متأخر.

ولا نسخ في القصص، ولا نسخ في العقائد، ولا نسخ في الأخلاق، وإنما يكون النسخ لبعض الأحكام الشرعية، يقول ربنا سبحانه: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، فالنسخ بمعنى إزالة حكم شرعي كان في أول الأمر، ثم زال بخطاب شرعي متأخر عنه في النزول.

قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل:20] أي: أقرب من ثلثي الليل.

وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [المزمل:20] الذي يقدر الأوقات ويعلم حقيقتها هو الله سبحانه.

عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20] أي: لن تقدروا على ذلك؛ للمشقة التي اعترتهم، فمنهم المريض، ومنهم الذي يضرب في الأرض طلباً لرزقه وتجارته، والآية فيها صدق نبوة خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، إذا لم يكن الجهاد فرضاً في مكة، ومع ذلك قال الله: وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ [المزمل:20]، وهذا إخبار بمستقبل كما قال العلماء.

ثم قال الله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20] أي: لن تقدروا على هذا العمل المتصل من قيام الليل؛ ولذلك جاء من حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني ينبغي أن نتمسك به جميعاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (خلتان -أي: خصلتان- لا يقدر عليهما أحد إلا كان من أهل الجنة يقول في دبر كل صلاة: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر عشراً ثلاثين مرة في خمسة فروض بخمسين ومائة مرة)، هي مائة وخمسون في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان. وعند النوم تقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، فتلك مائة باللسان وألف في الميزان.

إذاً: تسبح بعد كل الصلوات ألفاً وخمسمائة، وتسبح عند النوم ألفاً، والمجموع ألفان وخمسمائة، فهل يعمل أحد في اليوم والليلة ألفان وخمسمائة سيئة؟ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (خلتان لا يقدر عليهما أحد إلا كان من أهل الجنة) لأن الشيطان يأتي العبد في صلاته فلا يزال يذكره بأعماله حتى يسلم؛ من أجل أن يحرمه هذا الأجر، وعند النوم لا يزال خلفه حتى يرقد.

فيا عبد الله واظب عليها بعد كل صلاة وقبل نومك.

والحديث حسن، حسنه الألباني وصححه كثير من أهل العلم.

ثم قال الله سبحانه: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20] أي: طلباً للرزق، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المزمل:20] قال المفسرون: جاء التعبير بالإقراض هنا؛ لأن الذي يعطي الفقير يقرض الله، حتى لا يظن الغني أن له منة على الفقير، إنما للفقير منة على الغني، الفقير هو الذي يمن على الغني بأنه قربه إلى ربه سبحانه، فأنتم عند عطائكم إنما تقرضون الله، وعند الإنفاق في سبيل الله، وعند إخراج الزكاة في مصارفها الثمانية إنما تقرضون الله عز وجل.

وشروط الإقراض والإنفاق لله ثلاثة:

أن يكون من حلال.

وأن يكون خالصاً لله عز وجل.

وألا يتبع ما أنفق مناً ولا أذى.

ثم قال ربنا سبحانه: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20]، والأمر بالاستغفار عجيب في هذه الآيات؛ لأنه جاء بعد الطاعات وبعد قيام الليل، وقد أمرنا بالاستغفار بعد الصلاة، فبعد أن يسلم المرء يقول: أستغفر الله ثلاثاً، لماذا تستغفر الله؟ حتى تجبر الخلل الذي وقع منك في العبادة بالاستغفار، فما بالك بالاستغفار بعد المعصية؟ يقول الله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بتلك الفتن التي تعرض على القلوب يوماً بعد يوم، ففي الحديث الصحيح: (فتن كقطع الليل المظلم، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل)، ولما شكوا إلى أنس بن مالك ظلم الحجاج بن يوسف في عهد الدولة الأموية قال لهم: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.

ومن ملامح الشر في هذا الزمن الذي نعيشه أن يخرج لنا بين الحين والحين من لا علم له ولا خلق بأوراق توزع، وآخرها تلك الورقة التي دفعت لي قبل الصلاة، فأردت أن أحذر منها تحمل عنوان: حزب النصر، وفيها دعاء، وصلاة ركعتين في جوف الليل، وقراءة حسبنا الله ونعم الوكيل (450) مرة، قراءة حزب النصر سبع مرات.

فما هو حزب النصر؟!!

إنه ألفاظ ما عرفتها السنة، ومن ألفاظه: اللهم لا تمكن الأعداء فينا، ولا تسلطهم علينا بذنوبنا (حم حم حم حم حم)، ثم قال: اللهم أعطنا أمل الرجاء، وطوق الأمل، (يا هو يا هو يا هو)، من قال لك أن تنادي على ربك بلفظ (هو)؟ هذا من صنع أهل التصوف، الذين يؤمنون بالعلم اللدني، وعلم الخرق، والعلم الباطن وأن هذه الأوراد جاء بها الإلهام والوحي إليهم، أما يكفيكم أن النبي صلى الله عليه وسلم علمكم كل شيء؟ ما ترك شيئاً حتى آداب دخول الخلاء علمكم، حتى عند النوم والطعام علمكم، أما تتقون الله في شرع الله؟ (هو هو) (حم) سبع مرات من أين جئت بها يا عبد الله؟

وأنا أعرف من أين جاء بها، أقول لك: يقول: قابلت الخضر فعلمني إياها، كنت معه بالأمس في اجتماع الديوان الأسبوعي، أو اجتماع الديوان الشهري، أو اجتماع الديوان السنوي، ورئيسة الديوان هي السيدة زينب رضي الله عنها، تلتقي بالأقطاب والأوتاد والأولياء، وفي غار حراء في كل سنة مرة يعرضون أعمال الأمة، ويشرعون لها من جديد، ونحن نردد بما لا نعرف ونسأل الله العافية.

يا عبد الله! إياك ومحدثات الأمور، عليك بهدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء يريدون لنا أن نخلع عقولنا، كما يقول الشيخ للمريد: عند دخولك على شيخك اخلع عقلك على عتبة داره، كما تخلع الحذاء من قدمك، ولا تعترض على شيخك مهما قال أو فعل، وكن بين يدي شيخك كالميت بين يدي المغسل.

ولذلك تسمع آناء الليل وأطراف النهار احتفالات الطرق الصوفية، وتنقل الصلاة من مسجد سيدي العارف بالله، ويقرءون الفاتحة، ويأكلون فيها ما لذ وما طاب، نسأل الله العافية، وهؤلاء الجهاد عندهم تمتمة على السبحة، وذكر وتضرع، أما الجهاد في سبيل الله وتغبير القدم، ومعاداة أعداء الله فلا يعرفونه.

يوم أن دخلت فرنسا إلى الجزائر قام شيخهم التيجاني يقول لأوليائه ولأتباعه ورواده: سلموا الجزائر إليهم؛ فقد رأيت في نومي أنني آخذ بخطام فرس جنرال فرنسا، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، علموا الأمة الكسل، ونزعوا منها روح الجهاد، وابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وأحدثوا تلك الأذكار التي نسمعها، هل في السنة أصل لهذا الحزب المسمى بحزب النصر؟ ولماذا تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل (450) مرة؟ لماذا لم يكن (500) مرة؟ من الذي حدد لك العدد؟ من الذي شرع لك هذا؟ إنها بدع محدثة وأمور جاءوا بها من رءوسهم.

أما نحن فنقول: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يكن في عهده دين فلن يكون اليوم ديناً، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم.

قال الشافعي رحمه الله من استحسن فقد شرع. فلا يجوز لأحد أن يستحسن عبادة ويشرعها للناس من رأسه، فإن الله أكمل الدين وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً.

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وجلاء همنا وغمنا، ونور أبصارنا.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا.

اللهم استر عوراتنا، وآمن روعتنا.

اللهم علمنا من القرآن ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً.

ونعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وارزقنا عند الاحتضار شهادة، وارزقنا بعد الموت جنة ونعيماً.

اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وخطأنا وعمدنا، وهزلنا، وجدنا، وكل ذلك عندنا، إنك على كل شيء قدير، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة القلم [2] 2216 استماع
تفسير سورة المزمل [2] 2195 استماع
تفسير سورة الحاقة [1] 2129 استماع
تفسير سورة الحاقة [2] 2048 استماع
تفسير سورة القلم [10] 1991 استماع
تفسير سورة القلم [3] 1910 استماع
تفسير سورة القلم [6] 1797 استماع
تفسير سورة الجن [1] 1617 استماع
تفسير سورة القلم [1] 1590 استماع
تفسير سورة القلم [8] 1381 استماع