تفسير سورة القلم [12]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، خلقنا من عدم، وأطعمنا من جوع، وكسانا من عري، وهدانا من ضلال، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، وهو مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، يقلبها كيف شاء وحسبما أراد.

فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.

وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلا زلنا مع تفسير سورة القلم، ولقاؤنا اليوم مع قول ربنا سبحانه: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:51-52].

إن هذه الآيات تتحدث عن الإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، والمتأمل في مرحلة الإيذاء في الدعوة سواء في العهد المكي أو المدني يجد أن وسائل الإيذاء متعددة ومتطابقة، ولغة الظلم واحدة، فالآية قد جمعت بين نوعين من الإيذاء: الإيذاء البصري بالعين، والإيذاء القولي باللسان، يقول الله تعالى: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ [القلم:51]، فهذا إيذاء بالبصر، ويقول تعالى: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51]، وهذا إيذاء باللسان.

صور من إيذاء المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم

تعالوا بنا لنعيش مع بعض أنواع الإيذاء في مكة والإيذاء في المدينة لأصحاب الدعوات؛ لأن البعض ممن يسلك هذا الطريق يظن أنه طريق ممهد بالورود، كلا! إن لم تبتل وتؤذ فصحح الطريق فإنك قد أخطأت، لأن طريق أصحاب الدعوات لابد فيه من الإيذاء، وإلا لما أوذي سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى مرحلة الإيذاء في مكة: إيذاء باليد، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند حجر الكعبة -ساجد يسبح بحمد ربه- فدفعوا عليه أشقاهم فخنقه بثوبه وهو ساجد، ووضع مخلفات الجزور ظهره، فجاء أبو بكر وهم يخنقونه، فقال لهم: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم واستداروا على أبي بكر ضرباً حتى أغشي عليه- أغمي عليه-، فحمل إلى بيته في حالة إغماء، فكان أول ما قال بعد أن عاد إلى رشده: أخبروني عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وكذلك في الطائف عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد، وكيف أنهم استقبلوه بالحجارة تتساقط على جسده صلى الله عليه وسلم، فيا قوم! ما قوبلنا بحجارة والحمد لله، وما خنقنا من ثيابنا ونحن سجود والحمد لله، وإنما الذي تعرض لهذا هو سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، أسوتنا وقدوتنا ومعلمنا، حجارة تتراشق عليه من الصبية والنساء والغلمان، لكن كان معه خادمه زيد بن حارثة ، فكان يتلقى كل حجر برأسه دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تصل الحجارة إلا إلى قدمه الشريفة صلى الله عليه وسلم.

ثم عاد عليه الصلاة والسلام حزيناً على إعراض القوم، وفي أثناء الطريق رفع يده قائلاً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين! أنت ربي وأنت رب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى ضعيف ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)، ضعفه الألباني رحمه الله تعالى، وصححه الذهبي وقال: لا أرى إلا أنها خرجت من مشكاة النبوة.

وأما الإيذاء باللسان فقد قالوا عنه عليه الصلاة والسلام: مجنون، شاعر، أبتر، أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، قول بشر، يريد جاهاً، يطلب ملكاً، يبحث عن مال، ومن ذلك ما نسمعه الآن من اتهامات مبسترة ومعلبة وجاهزة ومعدة: إرهابي، وأصولي، ورجعي، ومتحجر، يريدون منا أن نرجع إلى عهود الظلام، هؤلاء حفنة خارجة عن الشرعية، عصابة تريد أن تقلب الأنظمة، وعبارات قد عفا عليها الدهر: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]، ففي مجتمع المعاصي والمنكرات تصبح الطهارة تهمة، ويصبح الحجاب والنقاب رذيلة، ولبس البنطال والسقوط والتبرج فضيلة، ونزاهة اليد وطهارتها شذوذاً، والرشوة والسرقة علواً ورفعة! اختلال في المعايير كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم حينما قال: (إن من علامات الساعة أن يوسد الأمر إلى غير أهله)، حتى العلم الشرعي يوسد إلى غير أهله، وستعلمون كلاماً عجباً ما قال به أحد من أئمة العلم أبداً، ولا أدري هل سولت له نفسه أن يفتري على دين الله عز وجل؟! فلا ينظر إلى قول مالك ، ولا أبي حنيفة ، ولا الشافعي ، ولا أحمد ، ولا الأوزاعي ، ولا البخاري ، ولا كل سلف هذه الأمة، أخطأ ثم جاء ذلك المجتهد وأراد أن يطعننا في مقتل بكلمة: النقاب ليس له أصل في الإسلام، وإنما هو حرام شرعاً. الله أكبر! سكت دهراً ونطق كفراً، والذي نفسي بيده يا ليته سكت فقط، وسنقرأ في اللقاء الثاني حججاً أوهن من خيوط العنكبوت لو كانوا يعقلون، فلصالح من؟ ولحساب من؟ ولمصلحة من يقول هذا الكلام؟! في زمن عمت فيه الفوضى، وانتشرت فيه الفاحشة، وعم فيه البلاء، وبدلاً من أن نواجه الفاحشة والرذيلة وكل ما يغضب ربنا نشن حرباً على العفاف والطهارة، فيا قوم أليس منكم رجل رشيد؟ أليس منكم رجل يتقي الله في نفسه، ويقولها ويرفع شعاره: إن قلتها مت، وإن لم تقلها مت، فقلها ومت، ففي الحالتين أنت ميت، فعش عزيزاً يا عبد الله، ولكن ماذا نقول في زمن تصدر فيه الفتوى حسب الطلب والمقاس، إنها صناعة محكمة.

الإيذاء بالعين والحسد

أما الإيذاء بالعين فتوضحه الآية الكريمة: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ [القلم:51]، أي: ينظرون إليك تغيظاً وحقداً وحسداً، لماذا؟ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ [القلم:51]، أي: عند سماعهم للقرآن، وهذا يجرنا للحديث عن العين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام مسلم : (العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر لكانت العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا)، وفي الرواية الأخرى: (العين حق، أدخلت الرجل القبر، والجمل القدر)، أي: أن العين إذا نفذت فربما تدخل الرجل القبر بقدر الله، وتدخل الجمل القدر بقدر الله، لذلك يقولون: إنه كان هناك قبيلة فيها هذه الصفة الذميمة، فإذا مرت بهم ناقة واشتاقوا إلى أكل اللحم، قال أحدهم: ما أجمل هذه الناقة، ما أروعها، فلا تعدو خُطاً حتى تسقط في الحال، وربما أعدوا سكيناً لها قبل أن يتكلم فتنفذ عينه في الحال!

ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يرقي الحسن والحسين فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة ومن كل عين سامة، ويقول: كان إبراهيم يعوذ بها إسماعيل وإسحاق).

وينزل جبريل ليرقي النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: (بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن كل حاسد وعين الله يشفيك).

وفي الحديث عند الإمام أحمد وابن ماجه والحديث صحيح: (أن سهل بن حنيف خلع ملابسه ليغتسل يوماً، فرآه عامر بن ربيعة - وكان سهل أبيض البشرة - فقال كلمة حسداً منه، فنفذت عين عامر إلى سهل ، فسقط من طوله، وظل يضرب الأرض بقدمه ويتخبط، فحملوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من تتهمون فيه؟ قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة يا رسول الله، قال: ائتوني به، ثم قال صلى الله عليه وسلم -بعد أن أمر عامراً أن يتوضأ- مستنكراً على عامر علام يقتل أحدكم أخاه؟! هلا إذا نظرت إليه وأعجبك بركته -أي قلت: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله- ثم اغتسل -أي: توضأ عامر - فغسل ركبتيه وأطراف قدميه وداخل حقويه، -أي: داخل الإزار- ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالماء فسكب على سهل من خلف ظهره، فقام سليماً معافى بإذن الله)، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا استغسلتم فاغسلوا).

ومن أسباب دفع العين أن يغتسل وأن يتوضأ الحاسد العائن ليغتسل بفضل مائه المحسود المعيون، وهذا أيضاً ثبت عن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، والحسد من أمراض القلوب الفتاكة، وقلما تجد قلباً يخلوا من الحسد، والحسد: هو تمني زوال النعمة عن الغير وهذا المرض هو الذي دفع بعض العلماء ليكتب عن تحاسد العلماء، وأحياناً قد تجد القرناء يتصارعون حسداً فيما بينهم، وهذا لا ينبغي أن يكون، لكن الغبطة موجودة، ولذلك ما الذي دفع إخوة يوسف ليأخذوه وهو غلام بلا عطف ولا رحمة ويلقوه في الجب وحيداً؟! إنه الحسد، يقول الله تعالى مصوراً ذلك: قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ [يوسف:8-9]، فانظر ماذا صنع الحسد؟ فقد يقتل الأخ أخاه حسداً.

وكذلك ما الذي دفع ابن آدم ليقتل آخاه كما في سورة المائدة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]؟ لماذا؟ ما ذنبه؟ إنه لم يرتكب إثماً، لكن تجد دائماً من وفقه الله في عمل ما محسوداً، بل دائماً وأبداً تجد عيوناً تتبع، وتقذف، وتعقد، وتشيع، وتحطم حسداً، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ [المائدة:27-30] الخبيثة والحاسدة، قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ [المائدة:30]، الله أكبر! فالحسد يدفع للقتل.

وما الذي دفع إبليس بأن يرفض السجود لآدم؟ إنه الحسد، قال تعالى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

وما الذي جعل بني إسرائيل يرفضون ملك طالوت ؟ إنه الحسد، قال تعالى: قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة:247] حسداً.

وما الذي دفع اليهود وأهل الكتاب إلى عدم تصديق سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم؟ لاشك أنه الحسد، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109]، لم؟ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109].

ثم يقول الله عز وجل: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51]، أي: باللسان والعين، وقال تعالى: وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:52].


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة القلم [2] 2213 استماع
تفسير سورة المزمل [2] 2193 استماع
تفسير سورة الحاقة [1] 2128 استماع
تفسير سورة الحاقة [2] 2047 استماع
تفسير سورة المزمل [3] 2035 استماع
تفسير سورة القلم [10] 1989 استماع
تفسير سورة القلم [3] 1908 استماع
تفسير سورة القلم [6] 1794 استماع
تفسير سورة الجن [1] 1615 استماع
تفسير سورة القلم [1] 1587 استماع