من طه إلى هيكل
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
أخي العزيز:
قرأت كتابك الممتع الذي تنشره الرسالة اليوم وستنشره السياسة بعد غد وسيقرؤه الناس مرتين، فَأْذَن لي في أن أشكر لك هذا الكتاب أجمل الشكر لأنه راقني، وأثار في نفسي من حبك، والإعجاب الشديد ببراعتك ولباقتك، ما تثيره آثارك الأدبية كلها في نفسي حين اقرأها، وَأْذَن حقاً لي في أن أعود فأثني عليك لأني لن أتعب من الثناء عليك، ولن يعنيني أن أدهشك أو أخجلك، وإنما تعودت أن أقول الحق سواء عليّ إرضائك حتى أنتهي بك إلى الخجل، أم أسخطك حتى أنتهي بك إلى الثورة، أو إلى غضب هادئ فيه مكر، هو أشد من الثورة وأحدث، فاخجل يا صديقي ما وسعك الخجل، وادهش يا صديقي ما وسعك الدهش، واغضب يا صديقي ما استطعت احتمال الغضب، فأنت كاتب بارع، وأديب فذ كثير الإنتاج كأنك الجني، قد أخذت تحب الإعلان بعض الشيء في هذه الأيام حتى أنك لتنشر ردك عليّ مرتين. وفيك إسراع إلى الحكم وفتور عن البحث ورغبة عن الاستقصاء تضطرك أحياناً إلى الخطأ وتصرفك أحياناً عن الحق.
وفي أسلوبك الرائع البارع وبيانك الفائق الرائق شيء من الضعف يقربه أحياناً من الابتذال.
ويخيل إلي أيها الصديق العزيز أن هذه الملاحظة وحدها هي التي آلمك بين الملاحظات الأخرى التي أخذت بها كتابك ثورة الأدب، فأذن لي في أن أصر عليها وألح فيها.
وأذن لي في أن أسر أيضا على كل رأي فيك لا أغير منه حرفا، ولاأنقص منه شيئا.
فأنت تجيد حتى تصل إلى الإبداع، وتضعف حتى تشرف على الابتذال.
ولك أن تلومني ما شئت لأني لم أهدك إلى مواضع الضعف في أسلوبك فقد يئست من هدايتك، لأنك كما تقول محب لأسلوبك كما هو، مشغوف به على علاته، لا تريد أن تغيره ولا أن تصلح مواضع النقص فيه، وكل ما أخشاه أيها الصديق إنما هو أن تتهمني بالإسراف عليك والغلو في نقدك، وقد كنت هممت أن أضرب الأمثال من ثورة الأدب لضعف أسلوبك فيه أحيانا، ولكني كرهت ذلك واكتفيت بالإشارة.
فأما وأنت لا تحب الإشارة ولا ترضى إلا التصريح.
فأْذن لي في أن أضع يدك على طائفة من مواضع الضعف لا في ثورة الأدب بل في هذا الكتاب القيم الذي ترد به علي في الرسالة اليوم وفي السياسة بعد غد. فأنت تقول في هذا الكتاب (ولست أخفيك) ولعلك توافقني على إن الخير في أن تقو (ولست اخفي عليك) وأنت تقول (ويرى أنها ما تزال لما تهدأ) ولعلك توافقني على أن لما هنا ثقيلة جدا مفسدة للأسلوب لوقوعها هذا الموقع النابي بين فعلين وأنت تقول (إذ وضعت تحت نظرك هذه العبارة) وأظنك توافقني على إن تحت نظرك هذه قريبة جدا إلى الابتذال.
وأنت تقول (لن أرضى لنفسي أن أكون إلا أنا).
ولعلك توافقني على أن الصواب إلا إياي. ومثل هذا كثير أيها الصديق العزيز في هذا الكتاب وفي ثورة الأدب.
ولعلك ترى إن الخطأ والابتذال شيء وان البساطة والإيجاز والقوة شيء آخر.
وانك تستطيع، إن أردت، أن تكون بسيطا موجزا قويا دون أن تخطئ أو تدنو من الابتذال.
أما بعد فقد أعجبني منك أيها الصديق انك سجلت في كتابك على ثنائي عليك كله تسجيلا.
ففيم كان هذا التسجيل؟ أخائف أنت أن أنساه؟ وكيف أنسى ما سجلت المطبعة؟ أخائف أنت أن أنكره؟ فثق بأني قد أثنيت عليك صادقاً وما تعودت أن أعطي باليمين وأسترد بالشمال؟ بعض هذا المكر وبعض هذا الدهاء.
فالأمر بينك وبيني أرفع من المكر وأمتن من الدهاء وأوضح من أن يحتاج إلى التسجيل والتشديد في الحساب. أما عد فهل تأذن لي في ملاحظة يسيرة جدا كنت أود لو لم احتج إليها، ولكن حياة الأدباء في هذه الأيام تضطرني إليها.
كم أحب للأدباء ألا يضيقوا بالنقد وألا يحفلوا بالرد عليه إلا أن تدعو إلى ذلك حقيقة علمية لا ينبغي إهمالها فماذا يعنيك أن يحسن رأي الناس أو يسوء في أسلوبك، فإن كان هذا يعنيك أو يؤذيك فالخير في ان تجعل هذا سرا بينك وبين نفسك لا أن تعلنه إلى الناس. وأنا أرجو أيها الصديق العزيز أن تقبل مني تحية كلها الحب والإعجاب. طه حسين