أرشيف المقالات

الأدلة الشرعية على وجوب السعي في فكاك الأسرى - ملفات متنوعة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
إن النصوص الشرعية العامة التي تحث على تناصر المسلمين وتعاونهم لا شك أنها تتناول نصرة أسرى المسلمين من باب أولى ومن تلك النصوص :
أن المسلمين أمة واحدة كما قال الله تعالى: { إِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }.

قال القرطبي رحمه الله (تفسيره 16/322) على هذه الآية: " { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }: أي في الدين والحرمة، لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب؛ فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وإخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب".
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ».

وثبت في الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ».
وثبت فيهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ».

وثبت فيهما أيضاً عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«  المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، ثم شبك بين أصابعه ».

قال النووي رحمه الله تعالى (شرح مسلم 16/ 120):" « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره »: أما كون المسلم أخا المسلم فسبق شرحه قريباً، وأما لا يخذله: فقال العلماء : الخذل ترك الإعانة والنصر، ومعناه: إذا استعان به في دفع السوء ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي".

وقال ابن رجب رحمه الله (جامع العلوم والحكم) ص333 : "ومن ذلك خذلان المسلم لأخيه: فإن المؤمن مأمور أن ينصر أخاه كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: « انصر أخاك ظالما أو مظلوماً، قال: يا رسول الله، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم ، فذلك نصرك إياه » خرّجه من حديث أنس، وخرّجه من حديث جابر، وخرّج أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « ما من امرئ مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته »، وخرّج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدره على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة »، وخرّج البزار من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « من نصر أخاه بالغيب وهو يستطيع نصره الله في الدنيا والآخرة »".

وهذه النصوص العامة التي تحث على تلاحم المسلمين وترابطهم وتناصرهم يأتي بعض الجهال لإبطالها جملة إذا ما أردنا إنزالها على الأسرى وذلك بقولهم: "إن ما أصاب الأسرى هو بسبب خطأهم فما أصابهم يستحقونه ودعهم يتحملون تبعات خطأهم" وبهذا القول الجهال يتنصل المنهزمون من إنزال نصوص المناصرة العامة والخاصة على هؤلاء الأسرى، وإذا لم يكن هؤلاء المجاهدون أحق الناس بالنصرة وهم الذين فارقوا الأهل والأوطان والأموال نصرة للمسلمين في أفغانستان، فمن يا ترى يكون معنياً بالمناصرة؟!

علماً أن ذلك القول الجاهل يعارض أصول الشريعة ، وليس في الشريعة أبداً ما يدل على أن المسلم إذا أخطأ -لو سلمنا بخطأهم- فإن نصرته تسقط من أعناق المسلمين، ولو كان كذلك لبطلت كل نصوص المناصرة والتعاون لأن كل ابن آدم خطّاء وبذلك لا داعي لمثل تلك النصوص.

وقد أوجب الله سبحانه على المسلمين تخليص إخوانهم من الأسر ولو كان بالقتال والأدلة على ذلك كثيرة منها:
قال عز وجل { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.

قال القرطبي (8/56): "يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم إلا أن يستنصروكم علي قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته.

قال ابن العربي: "إلا أن يكونوا أسرى مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة حتى لا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وفي أيديهم خزائن أموال وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد".

قال ابن العربي رحمه الله ( أحكام القرآن 2/440): "يريد إن دعوا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم فذلك عليكم فرض، إلا على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تقاتلوهم عليهم، يريد حتى يتم العهد أو ينبذ على سواء -إلى أن قال- إلا أن يكونوا أسرى مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بأن لا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم كذلك قال مالك وجميع العلماء.

فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال، والعدة والعدد والقوة والجلد".

قال تعالى { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ }.

قال القرطبي رحمه الله (الجامع لأحكام القرآن 2/17): "ولَعَمرُ الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض ! ليس بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد.
قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسارى، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى، وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع.
ويجب فك الأسارى من بيت المال ، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين".

قال الجصاص (1/57): "تدل على أن فداء أسراهم كان واجباً عليهم وكان إخراج فريق منهم من ديارهم محرماً عليهم، فإذا أسر بعضهم عدوهم كان عليهم أن يفادوهم فكانوا في إخراجهم كافرين ببعض الكتاب لفعلهم ما حظره الله عليهم وفي مفاداتهم مؤمنين ببعض الكتاب بقيامهم بما أوجب الله عليهم، وهذا الحكم من وجوب مفاداة الأسرى ثابت علينا.
روى الحجاج بن أرطاة عن الحكم عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المها جرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين".

- قول الله تعالى { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً }: قال ابن العربي في هذه الآية (أحكام القرآن 1/583): " قال علماؤنا: أوجب الله سبحانه في هذه الآية القتال; لاستنقاذ الأسرى من يد العدو مع ما في القتال من تلف النفس , فكان بذل المال في فدائهم أوجب, لكونه دون النفس وأهون منها.

وقد روى الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني »، وقد قال مالك: على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم; ولذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم, فإن المواساة دون المفاداة".

وقال القرطبي رحمه الله (5/279): " قوله تعالى { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } :حَضٌّ على الجهاد .
وهو يتضمّن تخليص المستضعَفين من أيدي الكَفَرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدّين؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضّعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تَلف النفوس.
وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال؛ وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها.
قال مالك: واجب على الناس أن يَفْدُوا الأسارى بجميع أموالهم.
وهذا لا خلاف فيه".

قال الشوكاني في فتح القدير (1487) :"والمستضعفين مجرور عطفاً على الاسم الشريف، أي مالكم لا تقاتلون في سبيل الله وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر وتريحوهم مما هم فيه من الجهد، ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي وأخص المستضعفين فإنهم من أعظم من يصدق عليه سبيل الله".

قال سيد قطب رحمه الله ( الظلال 2/708): "وكيف تقعدون عن القتال في سبيل الله واستنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟
هؤلاء الذين ترسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم، وكرامة المؤمن، ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق..
هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم، والفتنة في دينهم، والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والعرض لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني، الذي تتبعه كرامة النفس والعرض وحق المال والأرض".

ومن الأدلة:
ما ثبت في الصحيح أيضاً عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، هل عندكم من الوحي شيء؟ قال: لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه الله عز وجل رجلاً، وما في الصحيفة.
قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.

وقد جرت سنة النبي صلى الله عليه وسلم على إنقاذ الأسرى وتخليصهم من العدو، ففي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه: « أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلا برجلين ».
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكّوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض » رواه البخاري ومسلم، العاني: الأسير.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال ابن بطال: "فكاك الأسير واجب على الكفاية.
وبه قال الجمهور، وقال إسحاق بن راهويه: من بيت المال".
(6 /205 فتح الباري)

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير