أرشيف المقالات

فلسطين المنكوبة

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أعجب أعاجيب الاستعمار في هذا الزمان مشروع التقسيم الذي اقترحته لجنة (اللورد بيل) للتوفيق بين العرب واليهود في فلسطين - أو على الأصح للتوفيق بين العهود المتناقضة التي قطعتها بريطانيا للعرب أولاً ثم لليهود من بعد ذلك.
وتزعم بريطانيا الآن أن فلسطين لم تكن داخلة في ما عنته بالبلاد العربية التي وعدت بمساعدتها على الاستقلال.
وقد فند الأمير عبد الله هذا الزعم بمذكرة بعث بها إلى المندوب السامي في فلسطين وأورد نصوص الرسائل والتصريحات البريطانية التي لا يبقى معها ظل من الشك في أن فلسطين كانت داخلة في جملة البلاد العربية الموعودة بالاستقلال والحرية.
على أن الأمر ليس أمر رسائل أو ما يجري مجراها وإنما هو أمر بلاد لا شك في أنها عربية من قديم الزمان وأن حق العرب فيها وهم أهلها لا ينكره إلا مكابر ذو غرض، أو كما قال الأمير عبد الله في مذكرته: (إن حق العرب في بلادهم فلسطين صريح لا يحتاج إلى وثيقة أو وعد، فهم أهلها منذ أجيال، وفي إقامة متصلة بها، وهم على الرغم مما اجتاحهم من حروب وتكابدهم من خطوب لم يفرطوا فيها ولم يتحولوا عن شبر منها).
ومن غرائب ما تجئ به الأيام أن اليهود عاشوا في كنف العرب أحراراً آمنين على أموالهم وأرواحهم لا يتقون شراً ولا يخشون أذى ولا يتعرضون لاضطهاد ولا يسامون تضييقاً ولا حجراً، على حين كانوا في أوربا يعدون (أنجاساً) منبوذين، لا يواكلهم أحد ولا يشاربهم ولا يجلسهم إلا دونه.
فإذا احتاج إلى مال يقترضه منهم دعاهم إليه وعنف بهم وبسط فيهم لسانه أقبح البسط وأبذأه وأخذ المال وركلهم.
ومن شاء فليقرأ رواية السير (وولتر سكوت) عن عصر ريتشارد قلب الأسد وليتأمل كيف كان القوم يعاملون اليهود وبأي عين كانوا ينظرون إليهم.
فإن قيل هذا كان عصر جهالة وعماية قلنا فما الرأي في هذا العصر وما يلقى فيه يهود أوربا من العنت والعسف والجور والتحقير والمهانة؟ - كتبهم تحرق، وأموالهم تصادر، وعماؤهم ينفون من الأرض، وجنسهم يعير بأنه دون الجنس الآري، ومعاملتهم ومخالطتهم ومصاهرتهم محرمة، حتى اتخاذ الخدم منهم جريمة تستوجب العقاب.
وأوربا التي تنكبهم هذه النكبة وتسومهم هذا الخسف ولا يرتفع فيها صوت بالدفاع عنهم واستهجان ما يحل به العذاب الغليظ والمقت الشديد هي التي تريد أن تتخلص منهم فلا تجد إلا فلسطين المسكينة تقذف بهم عليها وتقول: اتخذوا لكم وطناً قومياً هنا.
ومن سوء حظ اليهود أن لا وطن لهم، ولكن العرب لا ذنب لهم في ذلك ولا كانوا هم الذين حرموهم أن يكون لهم هذا الوطن.
وما تعلق اليهود بالوطن القومي و (صهيون) إلا من طول ما قاسوا من العذاب في أوربا وهول ما صبه أهل هذه القارة عليهم من البلاء.
وإنك لتجد اليهود القدماء في فلسطين لا يحلمون بهذا الوطن القومي إلا مجاراة وتقليداً لليهود الأوربيين وخوفاً من أن يتهموا بالخروج على ملتهم، لأنهم كانوا حتى على أيام الحكم التركي يعيشون في بلهنية ورخاء، بل كانت حياتهم أهنأ وأرخى من حياة أبناء البلاد العربية فلولا وعد بلفور ما حلت الجفوة ولا وقعت النبوة بين العرب واليهود، ولكن إنجلترا التي تعهدت للعرب أن تؤازرهم على الفوز باستقلالهم وحريتهم فثاروا لهذا على دولتهم رمتهم بالوطن القومي والهجرة اليهودية فلم يسعهم إلا أن يتدبروا ما هددوا به؛ وهل هو إلا الجلاء عن وطنهم؟ وإلا أن يكرهوا ذلك ويثوروا عليه، ومن الذي لا يثور على من يبغي إخراجه من دياره وطرده من وطنه.
.؟ والآن تجئ بريطانيا فتقول دعوني أقسم بينكما البلاد فلليهود شطر وللعرب شطر، ولتكونوا بعد ذلك إخواناً وجيراناً متوادين.
تأخذ مني أرضي وتعطيها لأجنبي وتقول لي كن أخاً له وأصغ إليه بالود! وبأي حق تخول نفسها أن تفعل ذلك؟ لا حق إلا أنها وعدت اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.
ولكن من خولها أن تبذل لهم هذا الوعد؟ لا أحد.

هي خولت نفسها ذلك وانتحلت الحق فيه وعدت نفسها ملزمة بالوفاء، والعرب ملزمين بالإذعان لقضائها فيهم.
ولو أنها كانت تُقطع اليهود من بلادها هي لما كان لأحد وجه اعتراض على ما تصنع، فإن الأرض أرضها وهي حرة في أن تجود بها على من تشاء من خلق الله.
ولكن البلاد ليست بلادها ولا تزعم قط أنها مستعمرة لها وإنما هي فيها بما سموه (الانتداب) والانتداب معناه أن البلاد أمانة في عنق الدولة التي ندبتها العصبة لإصلاحها وترقيتها وإعدادها لحكم نفسها بنفسها ولنفسها، ولم نكن نعرف قبل اليوم أن من معاني أداء الأمانة تضييعها والتسخي بها على غير أصحابها.
وانظر كيف تقسم البلاد بين العرب واليهود!.
.
تأخذ الساحل كله - ما خلا يافا فقد أنقذتها جارتها تل أبيب وأن ميناءها شر ميناء في البحر الأبيض - تقول تأخذ الساحل والأرض الخصبة وتهديها إلى اليهود، وتعمد إلى الجبال الجرداء، والفيافي التي لا شجر فيها ولا ماء، وتقول للعرب هذا نصيبكم ولن يضيركم محلها وخرابها فان لكم الجنة في الآخرة فطيبوا نفساً وقروا عيناً واحمدوا الله واشكروني.
ولا تنسى بريطانيا نفسها فإن لها حظاً من الغنيمة.
وفي الرقعة التي جعلتها من نصيب اليهود كثرة عربية فهؤلاء سيجلون عنها ويخرجون من ديارهم لأن بريطانيا شاءت هذا.
وفيها ثروة العرب جلها إن لم تكن كلها وليس لليهود من المزارع إلا حوالي العشر، فهذه الثروة أيضاً تنتقل إلى اليهود ويفقدها العرب ويرحلون إلى الصحراوات والجبال العارية.
ولا منفذ للعرب إلى البحر إلا من يافا، والطريق إلى يافا مما تحتفظ به بريطانيا لنفسها؛ ومؤدى هذا أن تخرب تجارة العرب بعد أن تخرب زراعتهم ويضيع مالهم كما ضاع وطنهم. وتقول بريطانيا إن هذه هي الوسيلة الوحيدة للسلام والوئام بين العرب واليهود في فلسطين، فلو أنها تعمدت أن تثير بين الشعبين العداوة والبغضاء وأن تبذر بذور الحرب في فلسطين لما فعلت غير ذلك.
فلن يكف اليهود عن التطلع إلى ما بقي في أيدي العرب من البلاد، لأن دولتهم ستضيق بهم لا محالة، ولأن مالهم وعلمهم وما يحسون من العطف البريطاني عليهم - كل ذلك خليق أن يغريهم بالطمع في بقية فلسطين.
وأما العرب فغير معقول أن يصبروا على هذا الظلم، أو أن يكفوا عن الحنين الطبيعي إلى ما فقدوا، أو أن يرغبوا في استرداده، فهي الحرب بين الأمتين لا مفر منها ولا هوادة فيها ولا حيلة لأحد في اجتنابها.
فإذا كانت الحرب ما تبغي بريطانيا فالمشروع يبلغها مأربها على التحقيق. ووراء فلسطين - أو ما يبقى منها في أيدي العرب - شرق الأردن يغرون أميره بالإمارة على البلاد كلها؛ ومن وراء شرقي الأردن العراق وفلسطين طريقها إلى البحر الأبيض، وبين العراق وفلسطين أواصر عروبة لا انفصام لها، وبعيد أن تنام العراق على هذا؛ ومصر جارة فلسطين وشقيقتها، وقد تكون اليوم ذاهلة عما يجره عليها هذا التقسيم العجيب من المتاعب وما يهددها به من الأخطار، ولكن الغفلة تزول وسيجيء يوم قريب تدرك فيه مصر أنها لا تستطيع أن تغض عما يجري على حدودها، أو تستخف بالأثر الذي يكون لإنشاء دولة يهودية على الساحل الشرقي القريب من ساحلها، وسترغمها الحوادث على أن تدرك القربى بينها وبين فلسطين أجدى عليها وأربح لها من هذه العزلة التي يحملها على الإخلاد لها الجهل وقلة الفطنة وضيق أفق النظر.
وكل آت قريب، ولكن الشيء في أوانه خير منه بعد الدرس القاسي والامتحان الأليم والتجربة المرة. وإن عصبة الأمم لتنظر الآن في أمر فلسطين ولكنه لا إيمان لنا بالعصبة التي لا خير فيها فما أجدت شيئاً على الحبشة المسكينة ولا هي تجدي فتيلاً على الصين.
فليوطن العرب أنفسهم على الاستغناء عن كل عون من غير أنفسهم وليعلموا أن الذي يسعهم وحدهم بلا معونة من أوربا كثير لا يستهان به؛ وإذا كان سبعون مليوناً من العرب لا يدخل في طوقهم شيء فماذا يرجون؟. إبراهيم عبد القادر المازني

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١