شرح الفتوى الحموية [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة:

[ وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة، ولا يرتفع الخلاف به؛ إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم وقد أمروا أن يكفروا بهم.

وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:60-62]، فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية ].

في هذا المقطع يشبه الشيخ -رحمه الله- هؤلاء المتكلمين بالمنافقين الذين ذكر الله جل وعلا عنهم في كتابه: إعراضهم عن التحاكم إليه والرجوع إليه فيما يقع بينهم من نزاع، وذلك أن هؤلاء رأوا أنهم إذا اختلفوا في شيء لا يرجعون إلى الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة لا يدلان على الله! بل يرجعون في نزاعهم وخلافهم إلى ما تقتضيه العقول والأقيسة، وما قعدوه من قواعد في باب أسماء الله وصفاته وفي غيرها من القضايا التي خالفوا فيها سلف الأمة.

فهؤلاء معهم شعبة من شعب النفاق الكبيرة التي يُخشى على صاحبها الكفر؛ لأن من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على العقول وأقوال الرجال فقد ضل ضلالاً بعيداً، والواجب على كل مؤمن يريد إصابة الحق والتزام الصراط المستقيم أن يسلك ما سلكه السلف الصالحون من اتباع كتاب الله وسنة رسوله.

ثم بين الشيخ رحمه الله أن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: (إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريقة التي سلكناها) أي: طريقة التأويل وطريقة اعتماد العقول في تقرير ما يجب لله عز وجل وما يمتنع عليه في باب الأسماء والصفات.

ثم قال: (والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية)، وكأنهم بهذا يقولون: إن أدلة النقل تخالف أدلة العقل فلابد من توفيق، ولا يتم التوفيق إلا بصرف النصوص عن ظواهرها حتى تستقيم مع العقول، وهذا من أكذب الكذب ومن أعظم البهتان؛ فإن الشريعة لم تأت بما تحيله العقول وتمنعه, بل جاءت بما قد تحار فيه العقول وقد لا تدركه.

فينبغي أن يوقن المؤمن أن ما في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يخالف العقل بالكلية، بل هو موافق للعقل، وأن أي عقل خالف الكتاب والسنة فإنه عقل فاسد إنما أتي من خطأ في قياسه.

ثم بين الشيخ رحمه الله: أن الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إليه وبعد مماته ووفاته إلى سنته صلى الله عليه وسلم.

ثم قال رحمه الله: [ ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل، إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم، مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم؛ لتشابه قلوبهم. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] وقال:كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213] ].

ذكر الشيخ رحمه الله في هذا المقطع أن هؤلاء لما أعرضوا عن الكتاب والسنة، استعاضوا عنهما قواعد قررها أهل الكفر والشرك وأهل الضلال والبدعة، وجعلوها حاكمة على نصوص الكتاب والسنة، وجعلوها مرجعاً في الخلاف الذي وقع بينهم، وهذا خلاف الصواب وخلاف ما أمر الله به؛ إذ إن الله جل وعلا أمر بالرجوع إلى كتابه وإلى سنة رسوله قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وكذلك الآية الأخرى التي فيها: أن الله أنزل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فمن عطل الكتاب عما أنزل لأجله فقد ضل ضلالاً مبيناً.

ثم عاد الشيخ رحمه الله مرة أخرى لذكر لوازم هذا القول الباطل ولوازم هذه الطريقة الفاسدة -وهي طريقة النفاة- فقال رحمه الله:

[ولازم هذه المقالة: ألا يكون الكتاب هدى للناس ولا بياناً، ولا شفاء لما في الصدور ولا نوراً ولا مرداً عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون: إنه الحق الذي يجب اعتقاده، لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصاً ولا ظاهراً].

من اللوازم الكبرى على قولهم وفعلهم ونفيهم لصفات الله عز وجل، أن الكتاب والسنة ليس فيهما هدى للناس ولا بيانٌ ولا شفاءٌ لما في الصدور، قال: (لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء من نفي الصفات وتعطيلها لم يدل عليه الكتاب ولا السنة لا نصاً ولا ظاهرا) أي: وإذا كان الأمر كذلك علم بذلك ضلال طريقهم.

وقوله: (نعلم بالاضطرار) العلم ينقسم إلى قسمين : علم ضروري وعلم نظري.

العلم الضروري: هو ما لا يحتاج في تحصيله إلى نظر وتأمل, فيدركه المتعلم دون كبير نظر ولا تأمل.

وأما العلم النظري: فهو الذي يتوقف تحصيله على النظر والبحث والتأمل.

فنصوص الكتاب والسنة ظاهرة ظهوراً بيناً في بطلان طريقة هؤلاء، وأقل ما في الكتاب والسنة أن طريقة الكتاب والسنة مخالفة لطريقة هؤلاء في تقرير ما يجب لله سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات.

الرد على تمسك النفاة بآية: (هل تعلم له سمياً) ونحوها

ثم قال الشيخ رحمه الله مبيناً شبهةً لهم في باب الأسماء والصفات:

[ وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قولهوَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] ].

المتحذلق: هو المتشبع بما ليس عنده من العلم والنظر في الكتاب والسنة، فغاية ما عند هذا: أن يستنتج ويستدل لسلامة هذه الطريقة التي هو عليها من نفي الأسماء والصفات، أو من تأويل صفات الله عز وجل وتعطيل الله سبحانه وتعالى عما يجب له في باب الأسماء والصفات؛ بقوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، ومعلوم أن هذين الدليلين ليس فيهما متمسك له، والشيخ الآن يجيب عن تمسك هؤلاء بهذين الدليلين وما في معناهما على نفي الصفات، أو على صحة الطريق الذي سلكوه من النفي في باب الأسماء والصفات، فقال رحمه الله:

[ وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]؛ لقد أبعد النجعة، وهو إما ملغز وإما مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين ].

هذا إبطال لقولهم في مسألة علو الله عز وجل، وأنه ليس على العرش، وأنه ليس عالياً على خلقه بائناً منهم، وإبطال لطريقتهم في الاستدلال على ذلك بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] فهذه الآية وما في معناها لا تدل على ما ذهبوا إليه، بل من استدل بهذه الأدلة أو بهذا الدليل ونظائره على نفي العلو وغيره من صفات الله عز وجل فقد (أبعد النجعة) أي أبعد المرعى، (وهو إما ملغز وإما مدلس)، وبهذا نعود إلى اللازم السابق: أن من لازم قولهم في نفي الصفات: أن كتاب الله عز وجل ليس فيه هدى ولا نور ولا بيان ولا شفاء لما في الصدور، وهذا كذب وافتراء، فإن مقتضى الاستدلال بهذه الآية على نفي الصفات: أن يكون الله جل وعلا قد خاطب الناس بغير اللسان العربي المبين، وذلك أن أصحاب الأفهام وأصحاب اللسان يفهمون من قوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، أنه جل وعلا لا نظير له في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وليس من ذلك أن ينفي عنه ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، كما سيأتي تقرير مذهب السلف في ذلك في الفصل القادم من هذه الرسالة.

قال رحمه الله: [ ولازم هذه المقالة: أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم ]:

المقالة هي: مقالة أن قوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، يدلان على نفي الصفات، فيلزم على هذه المقالة [أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالة].

ما هو المرد قبل الرسالة وبعدها؟ العقل، فإذا كان مردهم إلى العقل قبل الرسالة وبعدها، وجاءت النصوص مضللة بظاهرها المخالف لباطنها، وكان ظاهرها يدل على ما لا يجوز على الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا يدلك على أن الكتاب لم يزد الناس إلا ضلالاً وبعداً عن الحق، وعمىً في باب أسماء الله وصفاته!!

ثم قال رحمه الله: [يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر, ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه؟! ].

هذا مع كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، وأنه ما ترك خيراً إلا دلها عليه ولا شرّاً إلا حذرها منه، ومع ذلك لم يقل -لا هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من سلف الأمة-: إن هذه الآيات لا يجوز اعتقاد ما دلت عليه, فدل هذا على كذب مقالتهم وأنهم قد أبعدوا عن الصواب ولم يصيبوا إلا خبالاً وتخبطاً.

ثم قال الشيخ رحمه الله مبيناً شبهةً لهم في باب الأسماء والصفات:

[ وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قولهوَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] ].

المتحذلق: هو المتشبع بما ليس عنده من العلم والنظر في الكتاب والسنة، فغاية ما عند هذا: أن يستنتج ويستدل لسلامة هذه الطريقة التي هو عليها من نفي الأسماء والصفات، أو من تأويل صفات الله عز وجل وتعطيل الله سبحانه وتعالى عما يجب له في باب الأسماء والصفات؛ بقوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، ومعلوم أن هذين الدليلين ليس فيهما متمسك له، والشيخ الآن يجيب عن تمسك هؤلاء بهذين الدليلين وما في معناهما على نفي الصفات، أو على صحة الطريق الذي سلكوه من النفي في باب الأسماء والصفات، فقال رحمه الله:

[ وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]؛ لقد أبعد النجعة، وهو إما ملغز وإما مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين ].

هذا إبطال لقولهم في مسألة علو الله عز وجل، وأنه ليس على العرش، وأنه ليس عالياً على خلقه بائناً منهم، وإبطال لطريقتهم في الاستدلال على ذلك بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] فهذه الآية وما في معناها لا تدل على ما ذهبوا إليه، بل من استدل بهذه الأدلة أو بهذا الدليل ونظائره على نفي العلو وغيره من صفات الله عز وجل فقد (أبعد النجعة) أي أبعد المرعى، (وهو إما ملغز وإما مدلس)، وبهذا نعود إلى اللازم السابق: أن من لازم قولهم في نفي الصفات: أن كتاب الله عز وجل ليس فيه هدى ولا نور ولا بيان ولا شفاء لما في الصدور، وهذا كذب وافتراء، فإن مقتضى الاستدلال بهذه الآية على نفي الصفات: أن يكون الله جل وعلا قد خاطب الناس بغير اللسان العربي المبين، وذلك أن أصحاب الأفهام وأصحاب اللسان يفهمون من قوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، أنه جل وعلا لا نظير له في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وليس من ذلك أن ينفي عنه ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، كما سيأتي تقرير مذهب السلف في ذلك في الفصل القادم من هذه الرسالة.

قال رحمه الله: [ ولازم هذه المقالة: أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم ]:

المقالة هي: مقالة أن قوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، يدلان على نفي الصفات، فيلزم على هذه المقالة [أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالة].

ما هو المرد قبل الرسالة وبعدها؟ العقل، فإذا كان مردهم إلى العقل قبل الرسالة وبعدها، وجاءت النصوص مضللة بظاهرها المخالف لباطنها، وكان ظاهرها يدل على ما لا يجوز على الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا يدلك على أن الكتاب لم يزد الناس إلا ضلالاً وبعداً عن الحق، وعمىً في باب أسماء الله وصفاته!!

ثم قال رحمه الله: [يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر, ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه؟! ].

هذا مع كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، وأنه ما ترك خيراً إلا دلها عليه ولا شرّاً إلا حذرها منه، ومع ذلك لم يقل -لا هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من سلف الأمة-: إن هذه الآيات لا يجوز اعتقاد ما دلت عليه, فدل هذا على كذب مقالتهم وأنهم قد أبعدوا عن الصواب ولم يصيبوا إلا خبالاً وتخبطاً.

قال: [ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة].

قوله: (ثم) هنا تكملة للاستدلال السابق، أي: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل للأمة: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص، مع إخباره أن الأمة ستفترق، فيكون ما دلت عليه ظواهر النصوص هو الحق الذي يجب التمسك به؛ لأنه لو لم تكن هذه الظواهر هي الحق، لكان يجب عليه -مع إخباره بالافتراق وكثرة الضلال مع كمال تبليغه ونصحه لأمته- أن يبين لهم كيف يتعاملون مع هذه النصوص؛ فلما لم يرد بيان يوافق ما قاله هؤلاء دل ذلك على أن ما كان عليه السلف من إجراء النصوص على ظواهرها، وإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله, هو الطريق الصحيح، وأن طريقة السلف هي أصوب الطرق الموصلة إلى معرفة الله تعالى وما يجب له.

قوله: [فقد علم ما سيكون ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله) وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال! وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يحدثه المتكلمون منكم!! بعد القرون الثلاثة -في هذه المقالة- وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين].

وهذا واضح، فإنه لما لم يكن الأمر كما ذكر الشيخ رحمه الله دل ذلك على صحة طريق السلف، وأن الاعتماد على العقل مخالف لهدى النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة السلف الصالح.

والحديث الذي استدل به أو الذي أشار إليه: بأن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، هو حديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد وجاء من طرق عديدة.

وأما قوله: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فقد جاء في بعض الروايات متمماً لحديث الافتراق، وقد اختلف أهل العلم في إثبات هذه الزيادة ونفيها، والصواب أنها ثابتة، فقد جاءت عن ابن عمر وعن أنس رضي الله عنهما، وهي وإن لم تصح من جهة السند على قول بعض أهل العلم إلا أن معناها صحيح، فإن السلف سلكوا الطريقة الصحيحة في باب أسماء الله عز وجل وصفاته وفي جميع أبواب الدين والإيمان، وهي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم خير القرون.

وأما قوله: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله) فهذا جزء من حديث جابر في صحيح مسلم في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين].

هذا المقطع يبين فيه الشيخ رحمه الله منشأ هذه البدعة، وذكر المنشأ يبين لك فساد الطريقة؛ لأنه إذا كانت هذه المقالة إنما نشأت عن أهل الضلال؛ فذلك يدل على أنها ليست بصحيحة، ففائدة بيان المنشأ: أولاً: التعرف على منشأ هذه البدعة. وثانياً: الاستدلال بمنشئها على فسادها.

ثم قال رحمه الله: [ فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام -أعني: أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة، وأن معنى استوى بمعنى: استولى ونحو ذلك- هو الجعد بن درهم, وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها؛ فنسبت مقالة الجهمية إليه.

وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجعد بن درهم هذا -فيما قيل- من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس لا اسم علم].

بين الشيخ رحمه الله منشأ هذه المقالة وأنها مأخوذة من تلاميذ اليهود والمشركين وضلال الصابئين، وسيبين من هم الصابئون بعد قليل، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة -وهي نفي الصفات- الجعد بن درهم، والجعد بن درهم ظهر في القرن الثاني وقتله خالد القسري رحمه الله لما أظهر بدعته وقال: إن الله سبحانه وتعالى ليس مستوياً على عرشه، ولم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فقتله لما أظهر هذه البدعة الشنيعة التي مقتضاها تكذيب كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

فتلقاها عن الجعد بن درهم الجهم بن صفوان وأظهرها، فله شر إظهار هذه البدعة التي جرت على أهل الإسلام وسببت فُرقة عظيمة، ولما أخذها الجهم بن صفوان وأظهرها نسبت مقالة الجهمية إليه.

(وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم).

لبيد بن الأعصم اختلف فيه: فقيل إنه يهودي، وقيل إنه منافق، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بسحره وأنه هو الذي سحره ولم يقتله.

قوله: (وكان الجعد بن درهم هذا من أرض حران)؛ هذا فيه بيان لصلة هذه البدعة بالمشركين والصابئة، فبعد أن بين التسلسل لهذه البدعة وذكر أن الجعد أخذها من أبان, ثم ذكر منتهى البدعة إلى لبيد بن الأعصم , قال :(وفوق هذا) وكأنه يشير إلى سبب آخر في ابتداع الجعد وهو أنه من أرض حران (وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة).

والصابئة: هم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، وهم قوم من المشركين الذين كانوا يعتقدون في الكواكب والنجوم، ويقولون: إن الكواكب السبعة هـي التي تصرف الكون وإليها مرجع تدبير الخلق، فهؤلاء عندهم بدع مغلظة وكفرية فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى.

والفلاسفة: جمع فيلسوف وهي كلمة يونانية تتكون من فيلسوفيا ومعناها: محبة الحكمة.

فهؤلاء الذين نشأ فيهم الجعد بن درهم فيهم صابئة وفلاسفة، قال: (بقايا دين أهل نمرود والكنعانيين) وهم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام وحاجهم، فالنمرود هو الملك الذي جرت بينه وبين إبراهيم المحاجة المذكورة في سورة البقرة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].

قوله: (والنمرود هو ملك الصابئة الكلدانية)، هذا استطراد في بيان أن النمرود ليس علماً لشخص، بل هو اسم جنس لمن ملك الكلدانيين، كما أن كسرى اسم جنس لكل من ملك فارس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك الأقباط في مصر، والنجاشي لمن ملك الحبشة من النصارى.