بلايا الخطايا


الحلقة مفرغة

الحمد لله جعل الإيمان أمناً وأماناً، والإسلام صحةً وسلاماً، وجعل السلامة في الطاعات، والبلية في المعاصي والسيئات، نحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من البركات، وما أوسع من الرحمات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء الأرض والسماوات، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومنار العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! بلايا الخطايا أمر ينبغي أن تلتفت له الأذهان، وأن يعطى حقه من العناية والاهتمام، فإن شيوع المعاصي، وذيوع الخطايا، وتوسع دائرتها يؤذن كسنة ماضية من الله جل وعلا بعظيم البلايا، وجليل الرزايا التي لا تقتصر على موات القلوب، وكدر النفوس، وضعف الإيمان، وزيغ الأهواء وغير ذلك، بل تتعداها إلى الأضرار والأخطار المادية الملموسة، ولعلي وأنا أريد أن ألفت الأنظار، وأن أجعل كل أحد ينتبه من غفلته، ويرعي هذا الحديث سمعه، أبدأ بأن أقول: إن خطيئة واحدة قد حصدت في عام واحد -هو العام الذي انصرم- ثلاثة ملايين من البشر، فهل ترون مثل هذا الرقم الخطير المفزع أمراً هيناً؟ وهل ترونه عقوبة ليست مرئية أو ملحوظة؟ وأزيدكم لأقول: إن جريرة يكاد كثير من المسلمين عموماً، بل ومن الحاضرين في هذا المسجد وفي غيره خصوصاًً يلمون بها ويقترفونها ويمارسونها كل يوم وليلة، ليست مرة واحدة بل مراراً عدة، هذه الخطيئة حصدت في عام (2000) أي: قبل نحو أربعة أعوام خمسة ملايين من البشر.

ولعلكم الآن تتساءلون، وأنا أيضاً أقول: بأيهما أبدأ وهما اثنتان، وغيرهما من الخطايا فيها العظيم والجليل من البلايا والرزايا؟ هل تصدقون -وهذا بموجب إحصائيات علمية معتمدة معتبرة من منظمة الصحة العالمية- أن قتلى التدخين في عام (2000) بلغ خمسة ملايين إنسان، وأنه بموجب معدل الإحصائيات المتزايدة من كل عشر وفيات من الرجال والنساء واحدة سببها المباشر هو التدخين، وأن هذه النسبة ترتفع في الرجال ليكون كل خمسة يموتون منهم واحد يكون سبب موته المباشر هو التدخين؟

وكذلكم أنتقل بكم إلى الموضوع لنعود إلى هذه القضية مرة أخرى:

يكثر الحديث اليوم في وسائل الإعلام صحفاً وإذاعات وقنوات عما ينتظر أو يرتقب مما يعرف باليوم العالمي للإيدز، مرض نقص المناعة الذي فتك بملايين البشر، وتقول الإحصاءات: إن المصابين بهذا المرض والعاملين له بلغ اليوم خمسة وأربعين مليون إنسان، وإن العدد يتزايد بكثرة مذهلة مخيفة مرعبة، وأنه قد حصد في العام الماضي ثلاثة ملايين نفس، وأن هذه الإحصاءات يتبعها إحصاءات دقيقة يصعب أن تحدد أرقامها وهي إحصاءات المبالغ المالية المنفقه على الأبحاث، والمختبرات، وتحليل الدم، والعلاج، والعزل الصحي، وغير ذلك الذي فاق ليس مئات ولا آلاف بل بلغ عشرات ومئات الآلاف من الملايين التي تهدر في مثل هذا الباب الذي سببه الخطايا والفواحش كما سنشير، هذه الإحصاءات تقول: إن العام الحالي الذي سينصرم بموجب التاريخ الميلادي قريباً قد سجل فيه وحده خمسة ملايين حالة جديدة مصابة وحاملة للمرض، فإذا كان هذا يشكل نحو عشر الذي مضى وقد اكتشف المرض عام (1979) إذاً: فهذا العام كأنما ينذر بأن الأمر قد وصل مبلغاً عظيماً خطيراً فتاكاً يوشك أن يكون من أعظم بل هو في الحقيقة أعظم بلايا هذا العصر.

ولعلنا نتساءل: لم نتحدث عن هذا ونحن بحمد الله عز وجل في بلاد الإسلام وبلاد الحرمين؟

فنقول: إن الشر يعم ولا يخص، وإن مثل هذا البلاء قد غزا كل دار وبلاد، إحصاءات المسئول الرسمي في وزارة الصحة السعودية يقول: إن عدد الحالات المسجلة لهذا المرض في المملكة العربية السعودية يصل إلى أقل من ثمانية آلاف حالة، منها أكثر من ألف وخمسمائة لمواطنين، وأخرى لقادمين أو راحلين، ويعطينا مؤشراً ويقول: إن (90%) من أسباب هذا المرض في العالم كله هو الاتصالات الجنسية المنحرفة والشاذة، ويسميها أهل الحضارة المعاصرة: الاتصالات غير الآمنة، ويريدون أن يعلموا الناس كيف يقومون ويمارسون الحرام والفاحشة ولكن بطرق صحية آمنة، والله عز وجل يخبرنا في شطر آية أن هذا أمر بعيد المنال؛ لأنه قد قال جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]، ويخبرنا الحق سبحانه وتعالى بأن للسيئات آثاراً وخيمة مادية ملموسة محسوسة قال تعالى: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [الزمر:51] كل سيئة وشذوذ وانحراف وفاحشة لا بد لها من عقوبة دنيوية معنوية ومادية، فضلاً عما هو أعظم وأفظع من العقوبات الأخروية.

وتأتينا الإحصاءات في المملكة لتقول: إن (45%) من أسباب الحالات المسجلة اتصالات جنسية، و(20%) نقل لدم ملوث في خارج المملكة و(6%) جناية أمهات مصابات على أجنة بريئة و(2%) من أسباب إدمان المخدرات، وتبادل الحقن الملوثة و(27%) أسباب مجهولة غير معروفة، وأما الأعمار المصابة فهي ما بين الخامسة عشرة إلى الخامسة والأربعين من العمر، زهرة الشباب وبداية الرجولة تلك التي تحصدها هذه الأمراض الخطيرة: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268]، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].

الترويج الفاسد للانحلال الخلقي

يكثر الحديث في ديار الإسلام عموماً عما يسمى بحرية المرأة، وعن تخفيف قيود التقاليد البالية، وعن إلغاء عوامل الكبت، وإطلاق سبل الترقي والتحضر، وكأن القوم عمي لا يبصرون، صم لا يسمعون، قد أصابهم جنون فهم لا يعقلون.

إن هذه المقالات وتطبيقاتها العملية هي التي أدت بالمجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الإسلامية والعربية إلى أن بلغت مبلغاً عظيماً في آثار هذه الفواحش.

واستمعوا إلى مقالة رجل يهودي أسس انحراف البشرية وقعد له، بعد أن ذكرت لكم ما قد يقال من الأقوال، يقول فرويد اليهودي عالم النفس الشهير: إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسي، وكل قيد من دين أو أخلاق أو تقاليد هو قيد باطل ومدمر لطاقة الإنسان، وهو كبت غير مشروع. قال ذلك وسار القوم على خطاه، وانتهى الأمر إلى أن يمارسوا الفاحشة مع البهائم بعد أن فشا فيهم شذوذ بممارسة الفواحش بين الرجال والرجال والنساء والنساء.

بل قد وجدت مجموعات من هؤلاء الشاذين في بلاد العرب والمسلمين، وكلما تركنا ما أسماه قيد الدين والأخلاق أو التقاليد فتحت أبواب الشر، وتسهلت أسباب الفساد، وعظم ارتكاب الفواحش، وزاد الخنا والزنا والفسق والفجور، وزاد معه ما في هذه البلايا من رزايا.

ولعلنا ننتبه إلى أمور أخرى أحب أن أربطها بهذا الشأن، فإن الذي يقال وربما يردد من هذه الأمور التي يدعى فيها حرية المرأة، والتي يدعى فيها توسيع دائرة دورها، في أمور نحن نعلم كيف بدأت وإلى أين انتهت، وفي أمور لو أنها كانت قائمة على أحكام الشرع، ومنضبطة بضوابطه، لعلمنا يقيناً أن خواتيمها ليس فيها ضرر، غير أنها تبدأ كما يقال: (أول الغيث قطرة ثم ينهمر):

نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

وذلك ما نشهده في كل حال المجتمع، وما نشهده في آحاد الأفراد، انظروا إلى من انحرف أو انغمس في بعض الشهوات والملذات، هل تراه بدأ في الفواحش الكبرى؟ وهل تراه بدأ بالكبائر التي قد عظم الله عز وجل ارتكابها؟

إنه بدأ بأمور يسيرة، وبتجاوزات خفيفة، بدأ بنظر آثم، وترخص في حديث واختلاط مغرٍ، وانتهى إلى خلوة محرمة، ومشى إلى أمور انتهت به إلى ما نحن نوقن بأن بدايته ستكون هذه نهايته قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] (لا تقربوا) أي: لا تأتوا دواعيه، ولا تبدءوا بمقدماته، ولا تتساهلوا في أي أمر يتصل به، وقال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، والخطاب كذلك للمؤمنات قال تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31].

وإذا جئنا إلى السمع نجد قول الحق سبحانه وتعالى في خطاب أمهات المؤمنين العفيفات المؤمنات: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً [الأحزاب:32] إلانة القول سبب لفتنة القلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك من الضحك والملاعبة والأحاديث الإيحائية الإغرائية.. وغير ذلك، بل حتى الأنف فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيما امرأة خرجت متعطرة يجد الرجال ريحها تلعنها الملائكة حتى ترجع)؛ لأن لذلك أثراً وتأثيراً، وكل الجوارح والحواس مفضية إلى القلب ومؤثرة فيه.

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

النظرة سهم من سهام إبليس، العينان تزنيان وزناهما النظر، وكل جارحة لها زناها.

وبعد هذا البيان القرآني الرباني هل ينكر علينا وعلى كل مؤمن غيور أن يذم، وأن ينتقد، وأن يحرم بتحريم الله عز وجل وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم ما يبث على الفضائيات من الغناء والرقص والتبرج والعري، الذي أجزم يقيناً أنه من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في هذه الفواحش، والداعية إليها، والمرغبة فيها، والمؤججة للغرائز والمشاعر ونحوها، والمسهلة لارتكابها، والمهونة لشأنها، والتي تعرضها كأنه ليس فيها آيات محرمة ولا أحاديث مؤثمة، بل تعرضها على أنها من صور التحضر والفنون الراقية؟!

وأقول هذا لأخاطب إخواني المؤمنين لينتبهوا لأنفسهم ولأبنائهم ولبناتهم، فإن أول الغيث قطرة ثم ينهمر، ولأن أول الخطايا والفواحش إنما هي صغائر لا يكاد المرء يلتفت إليها:

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

عاقبة الفساد ومخالفة الشرع

إننا نقول هذا، ويأتينا من يقول: إن مثل هذا القول تشدد في غير محله، بل بعضهم يعده تطرفاً عن الاعتدال والوسطية التي يفهمونها فهماً غير صحيح، بل ربما يرجم بعضهم رجماً أعظم فيقول: إن قائل هذا من أهل الإرهاب والغلو ونحوه، فأي شيء يريدون أن يبقوا لنا من ديننا، ومن عفة وحياء بناتنا، ومن شرف ورجولة أبنائنا، ومن حصانة ورقي وحفظ مجتمعاتنا؟

إنها السدود التي تبدأ بخرم صغير يتسرب منه الماء قليلاً، ثم يتشعب وينصدع ذلك السد، ثم لا يلبث -عياذاً بالله- أن يخرق فيه خرق يتسع على الراقع، ويوشك من بعد أن ينهد السد، وأن يفيض الطوفان، أن يغرق كل أحد حتى من لم يكن سبباً في ذلك.

ولنستحضر حديث أم المؤمنين رضي الله عنها عندما تعجبت وسألت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ويوم يقول المؤمنون ذلك في هذه الأيام، ويربطون بين ما يحصل من البلاء وما يقع من المعاصي يتهمون بأنهم حمقى ومغفلون، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يبين هذه المخاطر يقول: (والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)، أو ليس قد ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو ليس القرآن قد نص عليه بقوله جل وعلا: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]؟ فهل تعليل القرآن وتحليل المصطفى النبي العدنان صلى الله عليه وسلم باطل ولغو؟

حاشا الله عز وجل أن يكون كذلك، فتنبهوا لمثل هذا، وانظروا إلى تشريع الإسلام الحكيم الضابط في كل جانب من هذه الجوانب، وكيف جعل بين الحلال والحرام أموراً تكون بمثابة الوقاية والحماية، وكلكم يحفظ حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، ابحث في حياتك كل أمر من المعاصي الواضحة ارتكبته فانظر إلى الخلف قليلاً فإنك واجد أموراً من المشتبهات، وأموراً مما فيه قليل أو يسير من المحرمات كان هو طريقك إلى هذا، فاقطع الطريق من أوله، واقطع على الشيطان وسواسه، فإن ذلك مؤذن بما هو أخطر.

ولعلي -وأنا أذكر ذلك- أستحضر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة في سننه منفرداً به، ورواه الحاكم وصححه في قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، وهذا هو الواقع ينطق ويشهد بما أخبر به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

ولاشك أن كل معصية ومخالفة هي سبب لحصول سخط الله عز وجل وغضبه، وما أدراكم ما غضب الحق جل وعلا، في قصة موسى عليه السلام مع فرعون لما طغى وبغى وتجبر وتكبر قال الله جل وعلا في شأنه وشأن من تبعوه: فَلَمَّا آسَفُونَا [الزخرف:55] أي: أغضبونا، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ [الزخرف:55-56].

ويكفينا كذلك ما جاء في القرآن في قصة قوم لوط وفي أوصافهم فيما ارتكبوه من الشذوذ الذي فشا في دنيا الناس اليوم والعياذ بالله، كل وصف قبيح، وكل سمة رذيلة ذكرت عن هؤلاء في القرآن: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55]، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:166]، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [الأعراف:81] وفي دعاء لوط عليه السلام: قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت:30]، وفي قوله كذلك: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:84]، وعنهم قال الحق جل وعلا: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]، وخاطبهم لوط فقال: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78] الفاعلون لهذه الفاحشة قوم عادون، مفسدون مجرمون في الغي سادرون، ليس لهم عقل ولا رشد.

وتأتينا العقوبات والحدود الإلهية من جلد الزاني غير المحصن، ورجم الزاني المحصن، وقتل من يفعل فعل قوم لوط، فيقولون لنا: إن هذه عقوبات ليست إنسانية، وتتعارض مع حقوق الإنسان، ولا يدركون أنهم يقتلون الإنسان بالملايين، ويفعلون ذلك عن سبق علم وإصرار كما يقال، حتى بلغت الوفيات بمثل هذه الأعداد المذهلة والأسباب المباشرة هي هذه الجرائم والفظائع والفواحش، وهكذا نجد أن الله عز وجل قد آتانا في الإيمان والإسلام والشرائع والأحكام ما يحفظ نقاء القلوب، وشرف النفوس، ورشد العقول، وسلامة الجوارح، وطهارة المجتمع، وعفة ورفعة الأخلاق، فإذا تنكبنا نهج ربنا، وخالفنا هدي رسولنا فلنؤذن بما قدره الله عز وجل من البلاء والهلاك، نسأل الله عز وجل السلامة.

اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واصرف عن بلاد الحرمين كل سوء ومكروه يا رب العالمين!

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

يكثر الحديث في ديار الإسلام عموماً عما يسمى بحرية المرأة، وعن تخفيف قيود التقاليد البالية، وعن إلغاء عوامل الكبت، وإطلاق سبل الترقي والتحضر، وكأن القوم عمي لا يبصرون، صم لا يسمعون، قد أصابهم جنون فهم لا يعقلون.

إن هذه المقالات وتطبيقاتها العملية هي التي أدت بالمجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الإسلامية والعربية إلى أن بلغت مبلغاً عظيماً في آثار هذه الفواحش.

واستمعوا إلى مقالة رجل يهودي أسس انحراف البشرية وقعد له، بعد أن ذكرت لكم ما قد يقال من الأقوال، يقول فرويد اليهودي عالم النفس الشهير: إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسي، وكل قيد من دين أو أخلاق أو تقاليد هو قيد باطل ومدمر لطاقة الإنسان، وهو كبت غير مشروع. قال ذلك وسار القوم على خطاه، وانتهى الأمر إلى أن يمارسوا الفاحشة مع البهائم بعد أن فشا فيهم شذوذ بممارسة الفواحش بين الرجال والرجال والنساء والنساء.

بل قد وجدت مجموعات من هؤلاء الشاذين في بلاد العرب والمسلمين، وكلما تركنا ما أسماه قيد الدين والأخلاق أو التقاليد فتحت أبواب الشر، وتسهلت أسباب الفساد، وعظم ارتكاب الفواحش، وزاد الخنا والزنا والفسق والفجور، وزاد معه ما في هذه البلايا من رزايا.

ولعلنا ننتبه إلى أمور أخرى أحب أن أربطها بهذا الشأن، فإن الذي يقال وربما يردد من هذه الأمور التي يدعى فيها حرية المرأة، والتي يدعى فيها توسيع دائرة دورها، في أمور نحن نعلم كيف بدأت وإلى أين انتهت، وفي أمور لو أنها كانت قائمة على أحكام الشرع، ومنضبطة بضوابطه، لعلمنا يقيناً أن خواتيمها ليس فيها ضرر، غير أنها تبدأ كما يقال: (أول الغيث قطرة ثم ينهمر):

نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

وذلك ما نشهده في كل حال المجتمع، وما نشهده في آحاد الأفراد، انظروا إلى من انحرف أو انغمس في بعض الشهوات والملذات، هل تراه بدأ في الفواحش الكبرى؟ وهل تراه بدأ بالكبائر التي قد عظم الله عز وجل ارتكابها؟

إنه بدأ بأمور يسيرة، وبتجاوزات خفيفة، بدأ بنظر آثم، وترخص في حديث واختلاط مغرٍ، وانتهى إلى خلوة محرمة، ومشى إلى أمور انتهت به إلى ما نحن نوقن بأن بدايته ستكون هذه نهايته قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] (لا تقربوا) أي: لا تأتوا دواعيه، ولا تبدءوا بمقدماته، ولا تتساهلوا في أي أمر يتصل به، وقال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، والخطاب كذلك للمؤمنات قال تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31].

وإذا جئنا إلى السمع نجد قول الحق سبحانه وتعالى في خطاب أمهات المؤمنين العفيفات المؤمنات: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً [الأحزاب:32] إلانة القول سبب لفتنة القلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك من الضحك والملاعبة والأحاديث الإيحائية الإغرائية.. وغير ذلك، بل حتى الأنف فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيما امرأة خرجت متعطرة يجد الرجال ريحها تلعنها الملائكة حتى ترجع)؛ لأن لذلك أثراً وتأثيراً، وكل الجوارح والحواس مفضية إلى القلب ومؤثرة فيه.

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

النظرة سهم من سهام إبليس، العينان تزنيان وزناهما النظر، وكل جارحة لها زناها.

وبعد هذا البيان القرآني الرباني هل ينكر علينا وعلى كل مؤمن غيور أن يذم، وأن ينتقد، وأن يحرم بتحريم الله عز وجل وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم ما يبث على الفضائيات من الغناء والرقص والتبرج والعري، الذي أجزم يقيناً أنه من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في هذه الفواحش، والداعية إليها، والمرغبة فيها، والمؤججة للغرائز والمشاعر ونحوها، والمسهلة لارتكابها، والمهونة لشأنها، والتي تعرضها كأنه ليس فيها آيات محرمة ولا أحاديث مؤثمة، بل تعرضها على أنها من صور التحضر والفنون الراقية؟!

وأقول هذا لأخاطب إخواني المؤمنين لينتبهوا لأنفسهم ولأبنائهم ولبناتهم، فإن أول الغيث قطرة ثم ينهمر، ولأن أول الخطايا والفواحش إنما هي صغائر لا يكاد المرء يلتفت إليها:

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى