المساجد أحكام وآداب


الحلقة مفرغة

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، رفع السماوات بلا عمد، وبسط الأرض ومد، وأفاض النعم بلا حصر وعد، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وبما يوافي ويكافئ فضله وإنعامه، له الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هو الرسول المجتبى والنبي المصطفى، علم الهدى ومنار التقى، بصر الله جل وعلا به من بعد عمى، وأرشد به من بعد غواية، وكثر به من بعد قلة.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! المساجد بيوت الله جل وعلا؛ فيها يذكر اسمه، ومنها ينادى إلى طاعته وعبادته، وفيها تحيا القلوب، وترق الأرواح، وتسجد الجباه، وتترتب بالذكر الألسنة، وتتراص الصفوف، وتتوحد وتأتلف النفوس.

فضل المساجد وعمارها

المساجد بيوت الله عز وجل لها أحكام وآداب، وقد كثر من عدد غير قليل من إخواننا المصلين شكواهم من عدم معرفة تلك الأحكام، ولا مراعاة تلك الآداب، بل تجاوزوا ذلك إلى ما هو أخطر وأعظم ضرراً وشراً، ومن ثمَّ فالمسجد وخطبته تعالج الأوضاع التي يعيشها أهل المسجد ومن يجاوره، كما تعالج أوضاع الأمة كاملة.

فإن لنا في هذا المقام وقفات كثيرة، وهي لا تتحدث عن شرق أو غرب، ولا عن بلاد في هذه الجهة أو تلك، إنما تتحدث عنا وعما يجري في مسجدنا وواقعنا، ومثله وغيره كثير من المساجد.

فكيف الأمر ونحن نتحدث عن بيوت الله عز وجل التي ذكر الله عز وجل نسبتها إليه فقال: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:18] إنها بيوت الله عز وجل، فهل هي في المقام والقدر وفي الرعاية والحفظ تعطى حقها؟! وهل نجعلها مثل بيوتنا على أقل تقدير؟!

وهل نحن عندما نأتي إليها أو نكون فيها أو نتعامل في داخلها نراعي حرمتها، ونراعي مقامها؟ فقد صح عند البخاري من حديث عثمان عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له مثله بيتاً في الجنة)، فهي بيوت الله جل وعلا.

والصورة الأخرى التي ينبغي أن نستشعرها ونحن نقدم هذا الحديث هي: أن عُمَّار المساجد هم أهل الله عز وجل وعباده، وهم في خلاصة الأمر صفوة من العباد والخلق الذين يجيبون نداءه، ويسعون إلى طاعته، ويقبلون إلى مرضاته، فكيف بهذه الصفوة إذا كانت تخل بالأحكام، ولا تراعي الآداب، ولا تلتفت إلى الحرمة، بل ويقع من البعض ما هو أكثر من ذلك، يقول الحق سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18] يقول ابن كثير : شهد الله بالإيمان لعُمَّار المساجد. وذكر ابن كثير : أن عبد بن حميد روى في مسنده عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما عُمَّار المساجد هم أهل الله). ورواه البزار كذلك عن أنس . وروى عبد الرزاق عن عمر بن ميمون أنه قال: (أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها)؛ لكن الضيف ينبغي أن يراعي أدب المكان، وأدب المضيف، وهو الرحمن سبحانه وتعالى، فنحن في بيوته، ونحن إنما جئنا لعبادته، ونحن إنما تفرغنا لذكره، فكيف بنا نخدش ذلك أو لا نلتفت إلى الأمور الواجبة؟

المساجد بيوت الله عز وجل لها أحكام وآداب، وقد كثر من عدد غير قليل من إخواننا المصلين شكواهم من عدم معرفة تلك الأحكام، ولا مراعاة تلك الآداب، بل تجاوزوا ذلك إلى ما هو أخطر وأعظم ضرراً وشراً، ومن ثمَّ فالمسجد وخطبته تعالج الأوضاع التي يعيشها أهل المسجد ومن يجاوره، كما تعالج أوضاع الأمة كاملة.

فإن لنا في هذا المقام وقفات كثيرة، وهي لا تتحدث عن شرق أو غرب، ولا عن بلاد في هذه الجهة أو تلك، إنما تتحدث عنا وعما يجري في مسجدنا وواقعنا، ومثله وغيره كثير من المساجد.

فكيف الأمر ونحن نتحدث عن بيوت الله عز وجل التي ذكر الله عز وجل نسبتها إليه فقال: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:18] إنها بيوت الله عز وجل، فهل هي في المقام والقدر وفي الرعاية والحفظ تعطى حقها؟! وهل نجعلها مثل بيوتنا على أقل تقدير؟!

وهل نحن عندما نأتي إليها أو نكون فيها أو نتعامل في داخلها نراعي حرمتها، ونراعي مقامها؟ فقد صح عند البخاري من حديث عثمان عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له مثله بيتاً في الجنة)، فهي بيوت الله جل وعلا.

والصورة الأخرى التي ينبغي أن نستشعرها ونحن نقدم هذا الحديث هي: أن عُمَّار المساجد هم أهل الله عز وجل وعباده، وهم في خلاصة الأمر صفوة من العباد والخلق الذين يجيبون نداءه، ويسعون إلى طاعته، ويقبلون إلى مرضاته، فكيف بهذه الصفوة إذا كانت تخل بالأحكام، ولا تراعي الآداب، ولا تلتفت إلى الحرمة، بل ويقع من البعض ما هو أكثر من ذلك، يقول الحق سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18] يقول ابن كثير : شهد الله بالإيمان لعُمَّار المساجد. وذكر ابن كثير : أن عبد بن حميد روى في مسنده عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما عُمَّار المساجد هم أهل الله). ورواه البزار كذلك عن أنس . وروى عبد الرزاق عن عمر بن ميمون أنه قال: (أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها)؛ لكن الضيف ينبغي أن يراعي أدب المكان، وأدب المضيف، وهو الرحمن سبحانه وتعالى، فنحن في بيوته، ونحن إنما جئنا لعبادته، ونحن إنما تفرغنا لذكره، فكيف بنا نخدش ذلك أو لا نلتفت إلى الأمور الواجبة؟

التجمل والتزين لدخول المسجد

إن هذه البيوت بيوت الله سبحانه وتعالى؛ لأجل ذلك أمرنا الله ونبهنا أن نراعي ما يجب لها فقال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، قال ابن كثير في تفسيره: وفي هذه الآية مع ما ورد في السنة النبوية أنه يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، ويستحب الطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك.

وقال السعدي : كذلك يحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن، ففي هذه الآية الأمر بستر العورة في الصلاة، واستعمال التجمل فيها، ونظافة السترة من الأدناس والأرجاس.

ونحن إذا ذهبنا لزيارة أحد من الأصدقاء فضلاً عن الفضلاء تزينا لذلك، ولبسنا من الثياب أحسنها، ووضعنا من أنواع الطيب أعطرها، وجعلنا لأنفسنا من الهيئات أفضلها، فإذا جاء بعضنا إلى المساجد رأيته وهو يأتي بثياب النوم التي لا يرضى أن يستقبل بها أحداً في بيته.

وربما وجدت بعضهم وهو يأتي في ثياب مهنته وقد اسود بعضها، وفي بعضها من القذر وكراهة الرائحة ما فيها، وبعضهم يأتي بملابس قد كتب عليها من الكلمات ومن الصور ما لا يليق أن يكون في بيت من بيوت الله عز وجل، وربما وجدت بعضاً وفي لباسه ما يعد مخالفاً لستر العورة إما من قصر أو ضيق أو تشبه أو نحو ذلك، وهذا خلاف الأمر الرباني لأخذ الزينة اللازمة.

وكان من هيئة الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله أنه إذا خرج إلى المسجد اغتسل ولبس أحسن ثيابه وتطيب، فإذا خرج لم يكن يكلم أحداً ولا يكلمه أحد حتى يدخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصلي، ثم يشرع فيحدث بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، هكذا كانوا يعرفون حق قدومهم على بيوت الله عز وجل من غير مخيلة ولا رياء ولا مبالغة، ومن غير استهانة وتفريط وعدم مراعاة حرمة وقدر، وغير ذلك.

وكذلك نذكر هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور المعروف الذي يتبادله الناس ويتذاكرونه وكثيراً ما يخالفونه، وهو حديث جابر عند البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته). قال بعض العلماء استنباطاً من هذا الحديث: إن الآكل لهذه الثمرة قبل الصلاة تسقط عنه الجماعة، ويجب عليه ألا يصلي مع الناس لئلا يؤذيهم.

والمقصود هنا كراهة الرائحة، وكل ما هو من هذا الباب داخل فيه وملحق به، فالمدخنون الذين يؤذون الناس برائحتهم شاءوا أم أبوا قد آذوا المصلين وآذوا ملائكة الله المقربين، وكانوا على هيئة ليست هي الهيئة التي يحبها الله لمن يأتي إلى بيته ليتعبد ويذكر ويسجد، ومثل ذلك من يأتون إلى المساجد بعد أن فرغوا من أعمالهم مباشرة من غير أن يتهيئوا ولو بمسح وجوههم، ولو بإزالة العرق عن جباههم، فضلاً عن أن يغيروا ملابسهم؛ ليزيلوا هذه الروائح الكريهة.

وبعضهم يأتي والأقذار على بدنه أو على ثيابه، ينفرك منظره من أن تكون إلى جواره في الصف، وتضايقك رائحته، فلا تكاد تشعر بما تريد أن تقبل عليه من طاعة الله وعبادته، فبالله عليكم هل مثل هذا إذا أراد أن يذهب لزيارة صديق من أصدقائه سيذهب على تلك الهيئة؟! أهانت بيوت الله عز وجل في النفوس حتى بلغت مثل هذا المبلغ؟ وهل ذهب الاستشعار والتعظيم لبيوت الله عز وجل حتى ندخلها كأنما ندخل مكاناً لا قيمة له ولا حرمة ولا اعتبار؟!

إنها صور تكررت حتى صارت مألوفة، وحتى أصبح مثل قولي هذا مستنكراً مستهجناً، أو يعد فيه من المبالغة ما فيه، وأنه تشديد في غير موضعه، فبالله عليكم إن لم نتواص بذلك في بيوت الله التي نجعلها لطاعة الله عز وجل فبمَ نتواصى من بعد؟

ونحن نعرف من هذا صوراً كثيرة، ونحسب أننا إذا تذكرنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإذا عرفنا آدابه وهديه الذي تلقاه عنه أصحابه فإننا ندرك أن المخالفة للسنة والهدي ليست في الصور المحدودة التي تجول في أذهاننا، بل هي في جملة هذا الهدي، ومنه تعظيم المساجد ومراعاة حرمتها، وأخذ الأدب اللازم واللائق بها.

روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما رجل خرج من بيته يوم الجمعة واغتسل ثم ادهن وتطيب من طيب امرأته، فخرج يريد الصلاة، ثم دخل فصلى ركعتين ولم يحدث أحداً، فأنصت حتى يفرغ الإمام ثم صلى مع الناس؛ غفر الله له ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة الأخرى).

فانظروا إلى مجموع الوصف كله؛ فهو الذي يوجب لصاحبه ذلك الأجر، وبقدر النقص يكون النقص، فإن من لا يراعي ذلك ولا يتهيأ له لا ينال مثل هذا الأجر في هذا الحديث.

ونحن نعلم أيضاً أن النفوس تتأثر بالأعمال، فإذا جئنا لنخرج إلى المسجد استحضرنا هذه المعاني، ثم عملنا من العمل تطيباً وتطهراً وإحساناً في اللباس واستحضاراً للنية ووقاراً في الهيئة وكفاً للسان وغير ذلك؛ فإننا إن جئنا إلى المسجد حضرت وخشعت قلوبنا، وتذكرت عقولنا، وكنا على حال غير الحال التي نكون فيها.

تطهير المساجد

قال ابن كثير وغيره في قول الله عز وجل: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] قال: أن تطهر من الأدناس والأرجاس ولغو الأقوال والأفعال، فإن رفع ذكر الله ليس بمجرد تلاوة القرآن وإقام الصلاة، بل يدخل فيه مثل هذه الأمور.

ونظافة المساجد أمرها مهم عظيم، وأجرها كبير، كما روى أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) فإنك حين تأخذ قشرة أو قشة صغيرة فتقمها من المسجد وتطهره وتنظفه يكون ذلك من الأعمال التي تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا العمل من ضمن الأعمال التي لها أجر خاص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ونرى كذلك ذلك الحديث العظيم الذي يدلنا على الفضل وعلى التقدير النبوي والمقياس الإسلامي الذي ينبغي أن نراعيه؛

روى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة : (أن امرأة أو رجلاً -وتغليب الرواية: أنها امرأة- كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تأخذ ما يكون في المسجد من الأذى والقذى فتلمه وتخرجه- فماتت، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم، ولما علم بها قال: أفلا كنتم آذنتموني حتى أشهدها؟ ثم سأل عن قبرها، فذهب وصلى عليها بعد دفنها).

لقد كانت امرأة مجهولة ليست معروفة، حتى إن الصحابة عندما ماتت لم يذكروا خبرها للنبي عليه الصلاة والسلام، فالتفت إليها النبي وافتقدها وسأل عنها، وعاتب على أنهم لم يذكروا له موتها، ثم ذهب فصلى عليها عليه الصلاة والسلام.

ونحن ربما نعمل العكس، فنحن الذين نوجد القذى في المسجد، ودورات مياه المساجد شاهدة بذلك، إذ يعمل الناس فيها من التخريب ومن التلويث ما كأنهم قصدوه عمداً أو أرادوه؛ حتى يجعلوا بيوت الله عز وجل بهيئة وصورة لا تليق بها، ولو كان ذلك في بيوتهم لدعوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكانوا أحرص ما يكونون على مثل هذه النظافة التي لا يأبهون بها ولا يحرصون عليها في بيوت الله عز وجل.

خفض الصوت وعدم التشويش والفوضى

وهناك أمر آخر: وهو الآداب المرعية في داخل المسجد:

فكم تسمع من حديث ليس فيه ذكر ولا طاعة، بل ربما كان حديثاً في أودية الدنيا، أو غيبة أو نميمة، وكم ترتفع الأصوات، وكم تعلو الضحكات، حتى إن بعض الناس ربما يختلف عليه الأمر ويلتبس هل هو في مسجد أو في مكان آخر، ولا أريد أن أقول: في مقهى!

استمعوا إلى هذا الحديث الذي عند البخاري في صحيحه يرويه السائب بن يزيد قال: (كنت في المسجد، فحصبني رجل -يعني: رماني بحصاة صغيرة من ورائي- فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لي: اذهب فائتني بهذين الرجلين -رجلان كانا يتحدثان بصوت عالٍ- قال: فأتيته بهما، فقال: من أنتما أو من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما -أي: ضرباً- ترفعان أصواتكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!) وفي رواية: (في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وقال الإمام مالك رحمه الله بكراهة رفع الصوت في المسجد مطلقاً.

وقال ابن عابدين في حاشيته على مذهب أبي حنيفة : يسوغ رفع الصوت إلا أن يشوش على المصلين، ولو بذكر أو قراءة.

وبعض الناس يقرأ القرآن كأنما يريد أن يسمعه خلق الله كلهم ويشوش على الآخرين.

وبعضهم يتحدث بالأحاديث كأنما هو في بيته أو غير ذلك، ونرى من هذا صوراً كثيرة مزعجة تشوش على العبادة والطاعة، وقد تنفر بعض الناس من حضور المساجد وشهودها، وهذا مما ينبغي لفت النظر إليه والانتباه له، وهو أمر ظاهر وبين.

إن هذه البيوت بيوت الله سبحانه وتعالى؛ لأجل ذلك أمرنا الله ونبهنا أن نراعي ما يجب لها فقال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، قال ابن كثير في تفسيره: وفي هذه الآية مع ما ورد في السنة النبوية أنه يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، ويستحب الطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك.

وقال السعدي : كذلك يحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن، ففي هذه الآية الأمر بستر العورة في الصلاة، واستعمال التجمل فيها، ونظافة السترة من الأدناس والأرجاس.

ونحن إذا ذهبنا لزيارة أحد من الأصدقاء فضلاً عن الفضلاء تزينا لذلك، ولبسنا من الثياب أحسنها، ووضعنا من أنواع الطيب أعطرها، وجعلنا لأنفسنا من الهيئات أفضلها، فإذا جاء بعضنا إلى المساجد رأيته وهو يأتي بثياب النوم التي لا يرضى أن يستقبل بها أحداً في بيته.

وربما وجدت بعضهم وهو يأتي في ثياب مهنته وقد اسود بعضها، وفي بعضها من القذر وكراهة الرائحة ما فيها، وبعضهم يأتي بملابس قد كتب عليها من الكلمات ومن الصور ما لا يليق أن يكون في بيت من بيوت الله عز وجل، وربما وجدت بعضاً وفي لباسه ما يعد مخالفاً لستر العورة إما من قصر أو ضيق أو تشبه أو نحو ذلك، وهذا خلاف الأمر الرباني لأخذ الزينة اللازمة.

وكان من هيئة الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله أنه إذا خرج إلى المسجد اغتسل ولبس أحسن ثيابه وتطيب، فإذا خرج لم يكن يكلم أحداً ولا يكلمه أحد حتى يدخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصلي، ثم يشرع فيحدث بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، هكذا كانوا يعرفون حق قدومهم على بيوت الله عز وجل من غير مخيلة ولا رياء ولا مبالغة، ومن غير استهانة وتفريط وعدم مراعاة حرمة وقدر، وغير ذلك.

وكذلك نذكر هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور المعروف الذي يتبادله الناس ويتذاكرونه وكثيراً ما يخالفونه، وهو حديث جابر عند البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته). قال بعض العلماء استنباطاً من هذا الحديث: إن الآكل لهذه الثمرة قبل الصلاة تسقط عنه الجماعة، ويجب عليه ألا يصلي مع الناس لئلا يؤذيهم.

والمقصود هنا كراهة الرائحة، وكل ما هو من هذا الباب داخل فيه وملحق به، فالمدخنون الذين يؤذون الناس برائحتهم شاءوا أم أبوا قد آذوا المصلين وآذوا ملائكة الله المقربين، وكانوا على هيئة ليست هي الهيئة التي يحبها الله لمن يأتي إلى بيته ليتعبد ويذكر ويسجد، ومثل ذلك من يأتون إلى المساجد بعد أن فرغوا من أعمالهم مباشرة من غير أن يتهيئوا ولو بمسح وجوههم، ولو بإزالة العرق عن جباههم، فضلاً عن أن يغيروا ملابسهم؛ ليزيلوا هذه الروائح الكريهة.

وبعضهم يأتي والأقذار على بدنه أو على ثيابه، ينفرك منظره من أن تكون إلى جواره في الصف، وتضايقك رائحته، فلا تكاد تشعر بما تريد أن تقبل عليه من طاعة الله وعبادته، فبالله عليكم هل مثل هذا إذا أراد أن يذهب لزيارة صديق من أصدقائه سيذهب على تلك الهيئة؟! أهانت بيوت الله عز وجل في النفوس حتى بلغت مثل هذا المبلغ؟ وهل ذهب الاستشعار والتعظيم لبيوت الله عز وجل حتى ندخلها كأنما ندخل مكاناً لا قيمة له ولا حرمة ولا اعتبار؟!

إنها صور تكررت حتى صارت مألوفة، وحتى أصبح مثل قولي هذا مستنكراً مستهجناً، أو يعد فيه من المبالغة ما فيه، وأنه تشديد في غير موضعه، فبالله عليكم إن لم نتواص بذلك في بيوت الله التي نجعلها لطاعة الله عز وجل فبمَ نتواصى من بعد؟

ونحن نعرف من هذا صوراً كثيرة، ونحسب أننا إذا تذكرنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإذا عرفنا آدابه وهديه الذي تلقاه عنه أصحابه فإننا ندرك أن المخالفة للسنة والهدي ليست في الصور المحدودة التي تجول في أذهاننا، بل هي في جملة هذا الهدي، ومنه تعظيم المساجد ومراعاة حرمتها، وأخذ الأدب اللازم واللائق بها.

روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما رجل خرج من بيته يوم الجمعة واغتسل ثم ادهن وتطيب من طيب امرأته، فخرج يريد الصلاة، ثم دخل فصلى ركعتين ولم يحدث أحداً، فأنصت حتى يفرغ الإمام ثم صلى مع الناس؛ غفر الله له ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة الأخرى).

فانظروا إلى مجموع الوصف كله؛ فهو الذي يوجب لصاحبه ذلك الأجر، وبقدر النقص يكون النقص، فإن من لا يراعي ذلك ولا يتهيأ له لا ينال مثل هذا الأجر في هذا الحديث.

ونحن نعلم أيضاً أن النفوس تتأثر بالأعمال، فإذا جئنا لنخرج إلى المسجد استحضرنا هذه المعاني، ثم عملنا من العمل تطيباً وتطهراً وإحساناً في اللباس واستحضاراً للنية ووقاراً في الهيئة وكفاً للسان وغير ذلك؛ فإننا إن جئنا إلى المسجد حضرت وخشعت قلوبنا، وتذكرت عقولنا، وكنا على حال غير الحال التي نكون فيها.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2909 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2535 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2534 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2453 استماع