الأمة في مواجهة الغمة


الحلقة مفرغة

الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، له الحمد سبحانه وتعالى وعد بنصر عباده المؤمنين، وجعل لهم في الأرض الاستخلاف والتمكين، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاد، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

وهن الأمة وضعف عزائمها

أيها الإخوة المؤمنون! أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، تحيط بأمتنا في هذه الأيام، ونحن نقف هذه الوقفة مع الأمة في مواجهة الغمة، ولعلنا نرى صوراً مخجلة إذ نجد أن الأمة في مجموعها كأنها لا تملك من الأمر شيئاً، وكأن الحال كما قال القائل:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود

ونرى أن الآراء ما زالت متباعدة، وأن الأفكار ما زالت متباينة، وأن الوحدة ما زالت بعيدة.

من جهة ثالثة: نرى صوراً من زيغ الفكر، وضعف اليقين، وانحراف السلوك، بل نرى حقيقة النفاق والممالأة والمصانعة التي تزيد الأمة ضعفاً ووهناً، والتي تزيد أعداءها تسلطاً وتمكناً.

إننا لا نشك أن كل أحد منا عليه واجب، وفي عنقه مسئولية، وليست المهمة قاصرة على دولة أو أخرى أو حاكم أو آخر أو عالم أو مؤسسة، بل كل واحد في عنقه أمانة، وعلى كاهله مهمة.

ومن ثم فإننا ينبغي أن نعيد القول ونكرره، وأن نعاود المدارسة والمذاكرة في أحوال أمتنا التي هي في حقيقة أمرها مجموع أحوالنا، وإذا أردنا أن نؤكد هذه المعاني فينبغي لنا أن نكون صرحاء لا نستخدم التعمية الإعلامية، ولا الألاعيب السياسية، ولا المداهنات والمنافقات التي نجدها ليس في حياة الأمة على مستوى الدول والحكومات، بل على مستوى الأفراد والتجمعات، فلا بد أن نكاشف أنفسنا من خلال أنوار اليقين في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بد أن نكتشف خللنا وعيوبنا من خلال النظر في سنن الله سبحانه وتعالى الماضية التي نقرؤها في صفحات التاريخ الغابرة، ونشاهدها ونراها في الوقائع المعاصرة.

وعندما نكون كذلك ربما يكون هذا أول طريق للإصلاح وتغيير هذه الأحوال، ولكن لا يمكن أن نتصور أن يكون طريقاً قصيراً ينتهي في غمضة عين وانتباهتها، أو في أيام قلائل أو أعوام يسيرة، ولا يمكن كذلك أن نعتقده طريقاً سهلاً مذللاً مفروشاً بالورود، بل فيه عقبات عظيمة، وهوائل جسيمة، وفيه ابتلاءات ومحن وفتن لا يصبر لها ولا يجتازها إلا الخلص من المؤمنين الصادقين، والمسلمين المستسلمين لرب العالمين.

أهمية الإيمان واليقين لجمع الكلمة وتحقيق النصر

وهذه وقفات كلية جامعة في الأمور المهمة لمواجهة هذه الملمة.

أولاً: الإيمان واليقين:

وقد نكرر القول ونزيده، وليس في ذلك من ترف ولا سرف، ولا شيء ممل، بل هو عين اليقين؛ لأن ثوابتنا لا تتغير، ولأن أسس ومناهج الحل والتغيير لا تتبدل، ولأن بين أيدينا كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وسنة هي وحي يوحى من رب العالمين.

ونحن قد قلنا في حديثنا عن القرآن -ولعل هذا الحديث يعد موصولاً به- إن واجبنا نحوه حسن فهمه، وقوة اليقين به؛ أن نحسن التدبر والتأمل والتفكر والمعرفة، والعلم والتعليم في كتاب الله عز وجل، وأن نرسخ الإيمان واليقين بكل حقائقه وبكل وعوده، وبكل سننه، وبكل أوامره وبكل نواهيه، لا بشيء دون شيء: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، تلك صفة أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، الذين كان إيمانهم زائغاً، بل لم يكن إيماناً حقيقياً ألبتة.

قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، هل من يقين بهذا؟ وهل له أثر في الواقع، أم أنه يمر على أطراف الألسنة وتكاد تنكره العقول، أو تعافه النفوس، والله جل وعلا يقول: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]؛ القائل رب الأرباب وملك الملوك الذي بيده ملكوت كل شيء.. من إليه يرجع الأمر كله.

وبيده الأمر كله، ويقول جل وعلا متفضلاً ممتناً وهو المستغني عن العباد: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، فهل يكون الحق الذي أوجبه على نفسه باطلاً؟ حاشا لله جل وعلا، ومن كان في نفسه ذرة شك في ذلك فليراجع إيمانه ويقينه، وليتفقد إسلامه وحقيقة دينه، فإن الأمر عظيم، والخطب جليل! وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

مادام النصر لا تخفق راياته.. مادام جند الإسلام لا يظهر علوهم ولا تبدو غلبتهم، هل فيما جاء في كتاب الله شك، أم أن هناك ضعفاً في اليقين ومخالفة لشروط ذلك النصر؟!

وعد الله بالعاقبة للمتقين

قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]. العاقبة هي نهاية الأمر، ولا بد أن تكون لأهل الإيمان والتقوى، رضي بذلك من رضي، وشك فيه من شك، لكن أهل الإيمان يوقنون به ويرونه رأي العين، ويؤكدون أنه قادم لا محالة.

نعم، قد يتأخر يومه، وقد يعظم البلاء قبله، لكنه قادم لا محالة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وكما قص علينا، وبين لنا فيما جرى على رسله وأنبيائه صفوة خلقه عليهم الصلاة والسلام، حين قال أتباعهم: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]. ماذا يرى الناس اليوم؟ وما الذي يتسرب إلى قلوبهم مما يرون؟ أليسوا يرون أصحاب الباطل والكفر أصحاب سيطرة وهيمنة.. أصحاب قوة وهيبة؟

أليست لهم الكلمة العليا في المشهد السياسي؟ أليست لهم القوة العظمى في الواقع العسكري؟

أليست لهم الهيمنة القوية في الميدان الاقتصادي؟

يتسرب اليأس إلى النفوس، ويدب الشك إلى القلوب، أين هذا من هذه الآيات؟ أين هذا الواقع الذي لا يرى فيه لأهل الإيمان شوكة قوية، ولا راية مرتفعة، ويرى الناس ويسمعون ويشاهدون القول في الأحداث التي تتعلق بأهل الإسلام وبلاد الإسلام، ويرون التفاعلات في الشعوب فما يكادون يسمعون لساناً عربياً مبيناً، ولا وجهاً مسلماً مشرقاً، يرون المتخاذلين في أمور الأمة وأحوالها كفرة فجرة من شرق وغرب.

ويدب إلى النفوس يأس، ويسري إليها شك، وينبغي أن يكون أول العلاج هو دفعه ونفيه ورفضه ومنعه بكل الأحوال؛ لأنه لا مجال له عند أهل الإيمان واليقين، بل يكون يقيناً مقابلاً.

إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، إنها نظريات ثابتة قاطعة جازمة، إنها بالتأكيد التي تصدر أن: اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، والنصر ثابت مطرد، و(يصلح) صيغة مضارع مستمرة، والإفساد واحد في كل مذهب وملة ونحلة، فينقلب السحر على الساحر ويرد السلاح إلى نحر راميه، لا بد أن يوجد يقين بذلك ومن بعده عمل نتحدث عنه.

مواقف من انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم باليقين

يقول الله جل وعلا: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].

لقد قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قبل بدر عندما خرج غير معد ولا مستعد، ثم واجه جيشاً يبلغ ثلاثة أضعاف عدده وعدته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم؛ هذا مصرع أبي جهل ! هذا مصرع أمية ! هذا مصرع عقبة بن أبي معيط !) فلم يخطئ واحد منهم المكان الذي عينه له صلى الله عليه وسلم.

إنه اليقين بنصر الله! قاله أبو بكر يوم رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يرفع يديه ويلح في الدعاء حتى يسقط رداؤه عن منكبيه، ثم يقول: (حسبك يا رسول الله! إن الله منجز لك ما وعد).

أفليس هذا اليقين الذي نفتقده؟! أوليس هذا الإيمان الذي إذا غاب من قلوبنا لم يكن لنا بعد ذلك قيمة ولا وزن، ولا كلمة ولا هيبة ولا عزة؟ ينبغي أن ندرك حقائق الأمور.

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6]، أي شيء كانوا بنو إسرائيل وأي قوة كانت مع موسى عليه السلام؟! ألم يكن فرعون هو فرعون القائل: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]؟ ألم يكن فرعون هو صاحب القوة والبطش والجبروت؟

لكن لما قال أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] نطق لسان الإيمان واليقين، فقال موسى عليه السلام: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] فانفلق البحر، فنجا موسى وغرق فرعون، وذهبت قوته بجند من جنود الله عز وجل.

أولم يقل أبو بكر رضي الله عنه يوم الغار: (لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله معنا)، لقد كان يقينه عظيماً عليه الصلاة والسلام يوم كانت حباله بالله موصولة، يوم كان قلبه بالله متعلقاً، يوم كان توكله على الله صادقاً، يوم كانت تقواه لله خالصة، يوم كانت إنابته إليه دائمة، عندما يكون ذلك كذلك تتحقق الأمور.

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] أفليس لنا يقين بذلك؟ أفنظن أنه سيصيبنا أمر إذا أرادت أمريكا أو روسيا أو غيرها؟ كلا والله، لا يبلغ أولئك القوم شيئاً إلا بإرادة الله وقدره الذي يشاؤه، لحكمة يعلمها جل وعلا.

نماذج من انتصار المسلمين باليقين

ثم انظر إلى وقائع هذا اليقين في النخبة والصفوة الذين رباهم عليه الصلاة والسلام في يوم الأحزاب.. يوم الشدة، وقد كررنا المثل؛ لأننا نمر بهذه الحالة، ولأننا نراهم يتداعون علينا، ولأن الجيوش والجنود تحيط من كل جانب، ولأن الأحزاب تتحزب وتتألب، ماذا قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22] ويوم قال لهم القوم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173] قال الله في وصفهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

ولم يكن ذلك في عهد الأصحاب فحسب، بل تاريخنا ينطق بذلك وقد أسلفنا القول فيه، ألم يقل ابن تيمية في معركة (شقحب) عام (702هـ) أي بعد سبعة قرون من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يبشر الناس ويثبتهم: إنكم لمنصورون والله إنكم لمنصورون! فيقولون: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، جزماً لما يرى من اليقين، وما يظهر من الإيمان، وما يبدو من شمس الصلاح والاستقامة.

ننتبه إلى هذا، فإنه هو الذي يثبتنا بإذن الله عز وجل، إن هذا الإيمان واليقين يثبتنا ويعطينا عدة أمور مهمة أولها: الإدراك والوعي والفهم الذي ندرك به الحقائق، لئن كانت للباطل جولة بل وألف جولة فإن جولة الحق آخرها، وإنها جولة إلى قيام الساعة.

تأخير النصر قد يكون للتمحيص

وإننا لندرك حين نكون على هذا الإيمان واليقين سنة الابتلاء: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]. غيب الله فيه حكم، وفيه ابتلاء، عندما نكون موقنين ندرك أن هذه من صفحات الابتلاء تنقلب، ويأتي بعدها النصر والرخاء: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6].

وكذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، أفهذه القوى عجولة أن تهزمها قوة الله جل وعلا؟ كلا. إن رعباً في القلوب.. إن خلفاً في الصفوف.. إن ريحاً تهب.. إن أرضاً تتزلزل.. إن بحراً ينشق.. إن أدنى شيء مما أراده الله عز وجل يدمر كل تلك القوى، ولكنها حكم الله عز وجل ينبغي أن نتأملها في الآيات والأحاديث والسنن.

ويأتينا من بعد ذلك الثبات وعدم التراجع: وهو أمر مهم، فلا يثبت إلا مستيقن، ولا يمضي في طريقه شامخ الرأس إلا مؤمن معتز بإيمانه، ولذلك لا تستغربوا عندما ترون المواقف المخزية؛ لأنها ليس لها رصيد من إيمان ولا أساس من يقين، كيف نرتقب لمن خلت قلوبهم من الإيمان ونفوسهم من اليقين أن يقفوا مواقف عزة؟! أو أن تكون لهم في المواجهة قوة؟! ذلك تفسير واضح بدهي من خلال الفقه الإيماني في آيات الله سبحانه وتعالى.

الأمر الثالث: الرجوع والالتجاء إلى الله: إن من عرف الخلل أدرك أنه لا بد من الإصلاح بالرجوع إلى الله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].

كل شيء تخافه تفر منه إلا الله، فإنك إن خفته فررت منه إليه، لا ملجأ ولا منجى لنا منك إلا إليك، وعجباً.. يرى المرء هذه الأحوال العصيبة وما زال الفن رافعاً راياته، والرقص ضارباً دفوفه، وما زالت الأمة كأنما هي نائمة نوماً لا تستفيق منه.

فمتى سيستيقظ أولئك الغافلون؟ هل يستيقظون إذا طرقت أبوابهم ووقعت السقوف فوق رءوسهم؟! أم إذا أصابتهم البلية في أنفسهم وأزواجهم وأموالهم؟!

هل بعد هذا كله ليس هناك مدكر ولا معتبر، ولا منزجر ولا راجع إلى الله سبحانه وتعالى؟

ومن بعد ذلك الثقة والقوة: ثقة بالله، وقوة بقوة الله عز وجل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة المؤمنون! أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، تحيط بأمتنا في هذه الأيام، ونحن نقف هذه الوقفة مع الأمة في مواجهة الغمة، ولعلنا نرى صوراً مخجلة إذ نجد أن الأمة في مجموعها كأنها لا تملك من الأمر شيئاً، وكأن الحال كما قال القائل:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود

ونرى أن الآراء ما زالت متباعدة، وأن الأفكار ما زالت متباينة، وأن الوحدة ما زالت بعيدة.

من جهة ثالثة: نرى صوراً من زيغ الفكر، وضعف اليقين، وانحراف السلوك، بل نرى حقيقة النفاق والممالأة والمصانعة التي تزيد الأمة ضعفاً ووهناً، والتي تزيد أعداءها تسلطاً وتمكناً.

إننا لا نشك أن كل أحد منا عليه واجب، وفي عنقه مسئولية، وليست المهمة قاصرة على دولة أو أخرى أو حاكم أو آخر أو عالم أو مؤسسة، بل كل واحد في عنقه أمانة، وعلى كاهله مهمة.

ومن ثم فإننا ينبغي أن نعيد القول ونكرره، وأن نعاود المدارسة والمذاكرة في أحوال أمتنا التي هي في حقيقة أمرها مجموع أحوالنا، وإذا أردنا أن نؤكد هذه المعاني فينبغي لنا أن نكون صرحاء لا نستخدم التعمية الإعلامية، ولا الألاعيب السياسية، ولا المداهنات والمنافقات التي نجدها ليس في حياة الأمة على مستوى الدول والحكومات، بل على مستوى الأفراد والتجمعات، فلا بد أن نكاشف أنفسنا من خلال أنوار اليقين في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بد أن نكتشف خللنا وعيوبنا من خلال النظر في سنن الله سبحانه وتعالى الماضية التي نقرؤها في صفحات التاريخ الغابرة، ونشاهدها ونراها في الوقائع المعاصرة.

وعندما نكون كذلك ربما يكون هذا أول طريق للإصلاح وتغيير هذه الأحوال، ولكن لا يمكن أن نتصور أن يكون طريقاً قصيراً ينتهي في غمضة عين وانتباهتها، أو في أيام قلائل أو أعوام يسيرة، ولا يمكن كذلك أن نعتقده طريقاً سهلاً مذللاً مفروشاً بالورود، بل فيه عقبات عظيمة، وهوائل جسيمة، وفيه ابتلاءات ومحن وفتن لا يصبر لها ولا يجتازها إلا الخلص من المؤمنين الصادقين، والمسلمين المستسلمين لرب العالمين.

وهذه وقفات كلية جامعة في الأمور المهمة لمواجهة هذه الملمة.

أولاً: الإيمان واليقين:

وقد نكرر القول ونزيده، وليس في ذلك من ترف ولا سرف، ولا شيء ممل، بل هو عين اليقين؛ لأن ثوابتنا لا تتغير، ولأن أسس ومناهج الحل والتغيير لا تتبدل، ولأن بين أيدينا كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وسنة هي وحي يوحى من رب العالمين.

ونحن قد قلنا في حديثنا عن القرآن -ولعل هذا الحديث يعد موصولاً به- إن واجبنا نحوه حسن فهمه، وقوة اليقين به؛ أن نحسن التدبر والتأمل والتفكر والمعرفة، والعلم والتعليم في كتاب الله عز وجل، وأن نرسخ الإيمان واليقين بكل حقائقه وبكل وعوده، وبكل سننه، وبكل أوامره وبكل نواهيه، لا بشيء دون شيء: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، تلك صفة أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، الذين كان إيمانهم زائغاً، بل لم يكن إيماناً حقيقياً ألبتة.

قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، هل من يقين بهذا؟ وهل له أثر في الواقع، أم أنه يمر على أطراف الألسنة وتكاد تنكره العقول، أو تعافه النفوس، والله جل وعلا يقول: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]؛ القائل رب الأرباب وملك الملوك الذي بيده ملكوت كل شيء.. من إليه يرجع الأمر كله.

وبيده الأمر كله، ويقول جل وعلا متفضلاً ممتناً وهو المستغني عن العباد: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، فهل يكون الحق الذي أوجبه على نفسه باطلاً؟ حاشا لله جل وعلا، ومن كان في نفسه ذرة شك في ذلك فليراجع إيمانه ويقينه، وليتفقد إسلامه وحقيقة دينه، فإن الأمر عظيم، والخطب جليل! وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

مادام النصر لا تخفق راياته.. مادام جند الإسلام لا يظهر علوهم ولا تبدو غلبتهم، هل فيما جاء في كتاب الله شك، أم أن هناك ضعفاً في اليقين ومخالفة لشروط ذلك النصر؟!




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2911 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2730 استماع
فاطمة الزهراء 2698 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2545 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2539 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2537 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2489 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2451 استماع