ترحيب وتذكير


الحلقة مفرغة

الحمد لله خالق البريات، رب الأرض والسماوات، جعل لنا في أيام دهره نفحات، يفيض فيها الخيرات، وينزل فيها البركات، ويضاعف فيها الحسنات، ويمحو فيها السيئات، ويرفع فيها الدرجات، فله الحمد جل وعلا ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبيناً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعه واقتفى أثره ونهج نهجه إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! ترحيب وتذكير بهذه المناسبة العظيمة التي يكون فيها غرة شهر رمضان يوم الجمعة، وفي أوله جمعة، وفي آخره جمعة، وفيه زيادة جمعة، فهي خيرات بعضها مع بعض، وبركات بعضها فوق بعض، فجدير بنا أن نرحب بشهرنا، وحري بنا أن نفرح بفريضتنا، وحري بنا أن نفرح بالرحمة التي أظلتنا، والمغفرة التي أحاطتنا، والبركات التي تنزلت علينا، ولا شك أنه -ونحن نبتدئ شهرنا مثل هذا اليوم الأغر الذي نستمع فيه إلى الذكرى والعظة- ينبغي أن يكون أمرنا وحالنا أوجب في أن تكون انطلاقتنا أقوى، ومسيرتنا أقوم، وأخذنا للخير أعظم، وصلتنا بالطاعة أدوم، وذلك ما لعلنا نذكر به أنفسنا في مطلع شهرنا.

فمرحباً بشهر القرآن، ومرحباً بشهر الصيام، ومرحباً بشهر الإنفاق، ومرحباً بشهر الصلة والتراحم، ومرحباً بشهر الذكر والدعاء، ومرحباً بكل الخير الذي يسوقه الله عز وجل لنا في هذه الأيام المباركة، والليالي المنورة، والموسم العظيم، فمرحباً رمضان مقرباً إلى الجنان، ومباعداً عن النيران.

وهل عندنا معاشر المسلمين! من غاية أعظم من أن نتعرض لنفحات الله، ونستوجب دخول جنته برحمته؟!

وهل هناك هاجس أكبر عند كل مؤمن من أمله في النجاة من النار وبعده عن سخط الجبار، قال عز وجل: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]؟!

رمضان شهر له بدخول الجنة تعلق عظيم، كما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)، وفي رواية أخرى أطول، قال عليه الصلاة والسلام: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم) رواه الإمام أحمد والبيهقي والنسائي .

وإذا تأملنا هذا الحديث نجد أنه إعلان عظيم ظاهر بين فيه أن هذا الشهر موسم من مواسم الجنة، تهفو النفوس والأرواح شوقاً إليها، وتخف الأبدان سعياً وعملاً وطاعة وتقرباً وتعرضاً لنفحاتها، ويعظم في القلوب أخذ أسباب النجاة من النار في ألوان وصور مختلفة من العبادات والطاعات، قال الحليمي في مثل هذا الحديث وشرح معناه: إن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره -أي: في غير رمضان- لانشغالهم -أي: لانشغال المسلمين- بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن والذكر.

وفي رواية لهذا الحديث: (غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) وهذا من فضل الله عز وجل.

وقال الطيبي في شرح الحديث: فيه فائدة توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ما يزيد نشاطه ويتلقاه بأريحية، هذا خبر الصادق المصدوق يخبرنا فيه بهذه الأخبار، وكأن الله جل وعلا يعلن في الملأ الأعلى وبين ملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون: أن هذا موسم عظيم، وأن أهل الإيمان والإسلام فيه يكونون على حال عظيمة تفتح أبواب السماء وأبواب الجنان، ويشعر بذلك ملائكة الرحمن، ويخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فيكون حينئذٍ انبعاث النفوس، واشتياق القلوب، وشحذ العزائم، وقوة الهمم في الطاعة لله سبحانه وتعالى.

ونحن في مفتتح الشهر وفي بدايته وأوله نستمع لهذا القول، ونردد هذه الآيات، ونكرر تلك الأحاديث؛ حتى يكون ذلك عوناً لنا على طاعته سبحانه وتعالى، ومن جهة أخرى تذكير بالتفريط، وتحذير من التقصير، قال غير الطيبي في شرح هذا الحديث: فيه رفع عذر المكلف، فكأن الله جل وعلا يقول: كفت الشياطين فلا تعتذروا بهم.

وكم نسمع من القول: إبليس والشيطان، فالله جل وعلا جعل هذا الموسم بعيدة فيه قدرة الشياطين على تسلطها على المؤمنين، وقد قال أهل العلم: إنه تغل فيه مردة الشياطين كما ورد في الحديث، أو أنهم لا يصلون إلى ما يصلون إليه في غيره، والحال في جملته أن ذلك الأثر الذي يزل الإنسان ويغويه ويغريه ويصرفه عن طاعة الله، ويقعده عن الخيرات أنه منقمع منحسر ذليل، وذلك يفسح المجال واسعاً لكل من يريد الاستزادة من الخير، فإن الطريق ممهدة، وإن العقبات قد أزيحت وأزيلت وخففت، فما على المرء إلا أن يشحذ همته وعزمه، وأن يخلص نيته وقصده، وأن يبدأ عمله وجده في طاعة الله سبحانه وتعالى.

ونحن نقول ذلك ونحن ندرك صلة الصيام الكبرى والعظمى بالتقريب من الجنان والمباعدة من النيران، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً).

وقوله (يوماً) في الحديث مطلق لا يدل على أنه فرض، بل يكون تطوعاً، فكيف بثلاثين يوماً تصومها في سبيل الله، وإخلاصاً لوجه الله، وتنفيذاً لفريضة الله، وابتغاءً لرحمة الله عز وجل؟! لاشك أن مباعدتها عن النار عظيمة، فأخلص النية ينلك ثواب الله عز وجل، وتدركك رحمته، وينجز لك وعده بإذنه سبحانه وتعالى.

وكلنا يعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري في قوله: (الصوم جنة )، وفي رواية النسائي : (الصوم جنة من النار كجنة أحدكم من القتال)، إنه درع حصين يقيك ويصرفك بإذن الله عز وجل عن العذاب، فإن عذاب جهنم كان غراماً.

وكلنا من أعظم أهدافنا وأكثر دعائنا سؤالنا الله جل وعلا أن يباعد بيننا وبين النار، وأن يجعلنا من أهل الجنان، وهذا هو الموسم الأعظم، وتلك هي الفرصة الكبرى، وتلك هي الأبواب المتنوعة التي كلها لها صلة مفردة بأمر الطاعة والتقرب إلى الله عز وجل، والتعرض لدخول الجنان.

ثم كذلك نعلم جميعاً الاختصاص الرمضاني بالجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، خاص بأهل الصيام، ينادى يوم القيامة: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل معهم غيرهم) فأي فضيلة أعظم من هذا؟! وأي تعرض لدخول الجنة في موسم أكبر وأوسع من هذا؟! فما على أحد إلا أن يشد الحزم ويبدأ العمل.

وفي رواية النسائي : (للصائمين في الجنة باب يقال له: الريان، لا يدخل فيه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً).

لا شك أننا نعجب من حالنا وغفلتنا وتقصيرنا في موسم عظيم ونحن كسالى، وفي موسم فيه من تنوع الأجر والثواب وتنوع الأعمال ما فيه ونحن ما زلنا في كسل وتراخٍ، عجبت للجنة نام طالبها! وللنار نام هاربها! كيف نريد أن نبلغ الجنان، وأن نبلغ فردوسها الأعلى، وأن نتعرض لرحمة الله ونحن في الليل ساهرون في عبث، وفي النهار نائمون عن طاعة؟! أليس ذلك حال كثير منا أو بعض منا في مثل هذا الشهر من كل عام؟!

وقد نسمع هذا الكلام في منتصف الشهر أو في ثلثه الأول أو نحو ذلك، لكن فرصتنا الكبيرة أننا نسمعه ونذكر به في أول يوم، ومع افتتاح أول أيام هذا الشهر الكريم والفريضة العظيمة، فهل من سبيل إلى تغيير حقيقي، وتدارك للتقصير والتفريط، في موسم لا يقبل مثل ذلك، ولا يتصور من عاقل وقوع ذلك؟

ولابد لنا أن نكون متواصين بالحق ومتواصين بالصبر في موسم الخير، ولابد لنا كذلك من مصارحة بل ومقارعة، فإن حالنا هذا متكرر في كل عام، والقول يُعاد، والمواعظ تتكرر، والأحاديث تُروى، والآيات تُتلى، والمحاريب يُتلى فيها القرآن، ومع ذلك نجد كثيراً من تلك السلبيات، وكثيراً من ذلك التقصير والتفريط، وكأنه لا أمل في التغيير، وكأنه لا سماع لهذا القول، ولا تغير له في العزائم، وذلك ما ينبغي أن نبرأ منه، فنحن مؤمنون ومسلمون، ونحن عقلاء وذوو ألباب، فكيف نصنع ما يصنع المفرطون والمقصرون، وما يصنع الحمقى والمغفلون؟! نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك.

مرحباً برمضان منقذاً من الغفلة والنسيان، ومفعماً بالذكر وتلاوة القرآن، فكم نحن في حاجة إلى أن نروي ظمأ القلوب بذكر الله وتلاوة آياته، وكم نحن في حاجة إلى أن تخضر نفوسنا التي تصحرت من كثرة غفلتنا ولهونا وعبثنا، ولغو قولنا، وسوء فعلنا، وغرقنا في شهواتنا، فرمضان شهر ينتشلنا من هذه الغفلة، ويستنقذنا من ذلك النسيان، ويغمرنا بذكر الله عز وجل، ودعائه وتلاوة آياته، حتى تكاد ألسنتنا لا تفتر من ذكر حتى تبدأ في تلاوة، ولا تنتهي من تلاوة حتى تشرع في دعاء، ولا تنتهي من دعاء حتى تبدأ في قراءة كتاب علم أو نحو ذلك، فما أعظم هذه الذكرى!

ما أجل هذا الموسم! تحيا به القلوب، وتزكو به النفوس، وترشد به العقول، وتستقيم به الجوارح على طاعة الله سبحانه وتعالى، وكلنا يدرك ذلك، فكم لهذا الشهر من خصيصة تربطه بالقرآن، كما قال عز وجل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

وكلنا يعلم كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيقول: (كان جبريل يدارسني القرآن في كل رمضان)، إنه موسم هذا الكتاب العظيم، إنه موسم الآيات القرآنية التي فيها تقويم كل معوج، وسداد كل نقص، وصواب كل رأي، وهداية كل أمر، فكم نحن غافلون عن كتاب ربنا، مبتعدون عن نور آياته، مبتعدون عن أضواء هدايته، غافلون عن الخير الذي ساقه الله عز وجل لنا فيه!

لقد جاءت مرة أخرى فرصة عظيمة ينبغي لكل مؤمن عاقل أن يستثمرها، وأن يستغلها، وأن يدرك عظمة الاختصاص في وجوه كثيرة قد ذكرنا بعضاً منها، وبعضها تحكيه روايات وأحاديث أخرى، ومنها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات في النهار، ويقول القرآن: أي رب! منعته النوم في الليل، فيشفعان فيه)، فما أعظم هذان الشفيعان الملتقيان في شهر رمضان، فنحن في شهر رمضان صائمون، ونحن في شهر رمضان للقرآن تالون، فنحن نجمع الشفاعتين معاً، ونزجيهما بين يدي الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فإذا تعرضنا للرحمة نفحنا منها، وإذا تعرضنا لمغفرته أصابنا بها، وإذا تعرضنا لرضوانه أكرمنا الله جل وعلا به، فما بالنا مرة أخرى نقصر ونفرط؟

وفي حديث الترمذي من رواية النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي: يا رسول الله! لمن هي؟)، أي: لمن هذه الغرف التي يصفها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وصفاً تشرئب إليه الأعناق، وتتوق إليه القلوب، وتتعلق به النفوس المؤمنة؟ (فقال صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام)، وكلها في شهر الصيام، كلها في تفطير الصائمين، كلها في هذه الكلمات الطيبة التي نتحدث بها ونمسك فيها عن قول الباطل، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فإن سابه امرؤ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)، وكل هذه تتحقق في هذا الشهر، فكأنها أيضاً بشارة نبوية مصطفوية لمن يريد بلوغ تلك الغرف العالية التي وصفها المصطفى صلى الله عليه وسلم.

والأمر أوسع من ذلك، والأبواب مفضية إلى صلة الصيام بالقرآن، وإلى صلته بالجنان أكثر تنوعاً، وأعظم من أن يحيط بها حديث قصير في مثل هذا المقام، ولكننا أيضاً مرة أخرى نقول مذكرين: هل القرآن هو الآيات التي تتلى هذاً كهذ الشعر من غير تدبر ولا تذكر، ولا تأمل في المعاني، ومن غير التزام وامتثال وتطبيق للأوامر، ومن غير اجتناب ومباعدة ومفارقة للنواهي؟ وكيف يكون حالنا؟ وهل نريد أن يكون القرآن حجة علينا أم لنا؟ وما بالنا ونحن نقرأ آيات القرآن ونجد كثيراً من المفارقات بين ما يأمرنا به وبينما نفعله، وبينما ينهانا عنه وبينا نقترفه؟ إنها فرصة كذلك لنجعل المطابقة بينما جاء في الآيات التي تُتلى وبين الواقع الذي نعيشه، والعمل الذي نمارسه، والقول الذي نتلفظ به.

ولذلك فإن القرآن العظيم اليوم في واقع أمتنا يحتاج منا إلى قراءة بالقلوب، وتدبر بالعقول، يصطحبان معاً مع تلاوة الألسنة، وكم نحتاج أن نتلو الآيات وأن نختم الأجزاء! ولكن ينبغي أن نجعل لنا حظاً من التلاوة مخصوصاً بالتدبر والتأمل فيما هو حالنا وفيما عليه وما أمرتنا به آيات ربنا، فإنها فرصة تدبر عظيمة، فنحن نقرأ قول الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ثم لا تتحقق أخوتنا، وتتنافر قلوبنا، وتتقاطع صفوفنا، ونجد من أحوالنا نفرة وفرقة عجيبة لا يصح ولا يقبل أن تكون بين أهل إيمان وإسلام، وأهل صلاة وصيام، وأهل حج وعمرة، وأهل وحدة جامعة، ونحن نرى ما يحل اليوم في هذه الساعات وفي هذه الأوقات، وفي مفتتح هذا الشهر بإخواننا في أرض فلسطين، وإخواننا في أرض العراق!

فأين نحن من الآيات التي تذكرنا بالوحدة؟!

وأين نحن من الآيات التي توجب علينا النصرة؟!

وأين نحن من الآيات التي تذكرنا بأننا أمة واحدة؟!

وأين نحن من واجباتنا ليس في دائرة صغيرة ضيقة، بل في الدائرة الرحبة الواسعة مع بداية هذا الشهر، ومع بداية تلاوة القرآن، ومع بداية ختمة وافتتاح ختمة ينبغي أن نشعر وأن نتذكر وأن نتواصى بأن نجعل القرآن منهج حياة في كل صغيرة وكبيرة، فيما هو محيط بنا، وفيما هو بعيد عنا، فيما هو يخصنا كأفراد، وفيما يخصنا كأمة مسلمة كاملة.

مرحباً بشهر رمضان صارفاً عن الشهوات، وسائقاً إلى الطاعات، وتلك فرصة عظيمة أيضاً، فإن الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم تضيق مجاريه بهذا الصوم، ولقد أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، كما جاء عند الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شباب لا نقدر على شيء -أي: لا نملك ما نستطيع به أن نتزوج- فقال: يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

إن الصوم علاج للشهوات المستعرة، وللنزوات الآثمة، إنه يقمع تلك الشهوات ويعالجها بعلاج مزدوج نافع، فإنه أولاً بهذا الصوم وترك الطعام والشراب يضعف انبعاث النفس إلى شهواتها، وميلها إلى رغباتها، ومن جهة أخرى فإن الطاعات ذكراً وتلاوة وإنفاقاً تفيض على القلب والنفس زكاة وطهارة تحول بينها وبين تلك المعاصي وحبها، وبين تلك الشهوات والشغف بها، وذلك أيضاً فضل عظيم، وموسم كريم ينبغي أن يُغتنم في ذلك، وأن يُحرص عليه، وألا يكون حالنا كحال كثير من المفرطين والمقصرين، فإنهم يعجزون عن الطاعات، ويتعلقون بالمعاصي والشهوات.

ولعلي وأنا أتحدث إليكم الآن يخطر لي خاطر في معركة كل عام يدخلها لا أقول: الآلاف بل مئات الآلاف والملايين من المسلمين ويهزمون فيها، بعضهم يهزم من اليوم الأول، وبعضهم قد يدوم إلى ثلث الشهر أو ثلثيه، ثم يصرع كثير منهم مع نهاية الشهر، والماثل منهم والأمثل من ينتصر في شهره ثم يهزم بعد ذلك، إنها معركة الدخان! فالذين يدخنون في كل شهر يعزمون أن يجعلوا من الصوم فرصة للتخلص من هذه الآفة المدمرة، ومع ذلك يعجب المرء عندما يترك بعض الناس السنة، فلا يفطر على تمرة، وإنما يفطر على سيجارة! كيف نفهم أن هذا الصائم عنده إرادة وصبر؟ وكيف ندرك أن شهواته تنقمع، وأن نزواته تُفطم؟

إننا لا نرى فيه إلا صورة من الضعف، كالمريض الهزيل تضربه ضربة فيسقط، ليس من قوة ضربتك، ولكن من ضعف بنيته، وكم هم الضعفاء المنهزمون المتخاذلون، الصرعى لشهواتهم، الأسرى لعاداتهم، الذين لا يستطيعون في هذا الشهر العظيم أن ينجحوا في مثل هذا الاختبار البسيط! فإنهم قطعاً سيكونون في غيره أكثر فشلاً، وأعظم إخفاقاً، وأكبر هزيمة، فمن يرضى لنفسه ذلك فهو وشأنه، والله عز وجل مطلع علينا، وعالم بما نحن عليه، فأي عزيمة كانت صادقة، وأي نية كانت خالصة، وأي عزيمة كانت ماضية، فإن وعد الله نافذ، قال عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فمن فشل فليتهم نيته، وليعرف أنه يوجد بعض الخلل في قصده، وليدرك الخور الموجود في همته وعزيمته، وليعالج نفسه، فإن مرضه بذلك أعظم من مرض بدنه مهما كان شديداً أو قاسياً.

فلنتدارك أنفسنا ونحن في أول شهرنا، وليكن ترحيبنا بهذا الموسم العظيم والفريضة الجليلة ترحيباً من أعماق القلوب والنفوس، يكون فيه من الجد والعزم والقوة ما لا يكون في غيره من صور الضعف والتراخي والانحلال، والكسل والنوم، واللغو واللهو، والسهر والعبث.

ونحن نعلم جميعاً أن القنوات والإعلام يكثر من سمومه وفتنه وشروره ولهوه وغيه وصرفه للناس عن الطاعات في هذا الشهر، سواء بالمسلسلات أو الرقاصات أو الأغنيات أو المسابقات، وكأنهم يقولون: دعوا الآيات، واتركوا المحاريب، واجتنبوا الصلوات، وانشغلوا في رمضان بغير ما أراد الله سبحانه وتعالى، وكل منا له عقل يدرك، ويعلم أنه سوف يحاسب بين يدي الله، فاختر لنفسك أخي المؤمن! الطريق الصائب، والنهج القويم، والمسلك الأحمد مع بداية هذا الشهر.

أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا في هذا الشهر الكريم لصيامه وقيامه، وصالح الأعمال فيه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصائمين القائمين المخلصين المنفقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! أظلنا موسم التقوى، فاتقوا الله عباد الله! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، هذا الموسم العظيم ليس فيما ذكرت من الأمور فحسب، بل فيما هو أكثر منها، فنحن نرحب برمضان؛ فإنه شهر ترك القطيعة والخصومات، والبدء في الوصل وحسن الصلات.

ورمضان شهر ترك البخل والشح، والإقبال على الجود والكرم، وشهر ترك السرف والترف والإقبال على الاقتصاد والعمل الجاد.

ورمضان شهر فيه تنوع بين ترك القبائح وأخذ المحامد، وذلك في أبواب وصور شتىً ينبغي أن نحرص عليها.

ومرة أخرى أشعر بأننا ونحن في هذا الشهر شهر الدعاء والتضرع لله عز وجل، وشهر الإنفاق وتفقد المحرومين، والإحسان إلى الفقراء، وتلمس أحوال المحتاجين، أشعر أننا بحاجة ملحة ونحن في أمن وأمان، وسلامة وإسلام، وسعة رزق ورغد عيش ألا ننسى من أول شهرنا إخواننا الذين يسامون سوء العذاب على يد اليهود عليهم لعائن الله في فلسطين، وعلى يد الأعداء المغتصبين في العراق، وفي كل قطر من أقطار الإسلام.

ينبغي ألا نجعل هذه الشهور وهذه المواسم مقتصرة على العبادات القاصرة من صلاتنا وكثرة تسبيحنا ودوام تلاوتنا وختمنا دون أن نشعر بأنها تحقق أخوتنا، وتجسد روح وحدتنا، وتذكرنا بالانتماء إلى أمتنا، وتعلق في رقبتنا واجب نصرة إخواننا، إنها مسائل مهمة، وإنها قضايا كثيرة، ولابد لنا من أن نعلم أن الاستكثار من الخير لا يحده حد، وأن الأخذ بالواجب لا يمكن قضاؤه وبلوغه، وأنه مهما عملنا فإن حق الله عز وجل أعظم علينا، وأنه مهما عملنا فإن الواجب تجاه أمتنا أكبر، وأنه مهما عملنا فإن رسالة ديننا ودعوتنا أبلغ وأشمل، ونحن في كل أحوالنا وعلى أحسن أحوالنا عندنا تقصير، فكيف ونحن نركن إلى دنيانا، ونكثر من نومنا، ويكون حالنا كحالنا في رمضان الذي قبله؟!

إنها فرصة لعزيمة بدء قوية، ونحن في مفتتح هذا الشهر، ونحن في موسم تتضاعف فيه الخيرات وتتنزل الرحمات، فاسألوا الله عز وجل أن يقوي عزمنا جميعاً لحسن طاعته ومرضاته، والأخذ بما يحبه ويرضاه، ونحن من بعد ومن قبل معكم نفتح الأبواب؛ لكي يكون لنا جميعاً تعاون وأيدٍ ممتدة بالخير، فنحن في هذا الموسم العظيم وفي هذا المسجد المبارك نقدم فرصاً عظيمة؛ لكي ننتهزها جميعاً من أمور الخير والإنفاق في إفطار الصائمين وغيرهم، ومن أمور القرآن في حلقات خاصة للكبار من الرجال والنساء، ومن أمور المسابقات التي تزيدنا طاعة لله عز وجل، وهذه أبواب إن قصرت عن فعلها منفرداً فلمَ تقصر في فعلها مع بقية إخوانك؟! وإن لم تستطعها وحدك ولا تعرف كيف تبتدئها فما بالك تحجم عنها، وقد فتحت أبوابها ويسرت أسبابها؟!

نسأل الله عز وجل لأمتنا في هذا الشهر نصراً وعزاً وتمكيناً، ونسأله جل وعلا أن يبدلها من بعد فرقتها وحدة، ومن بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلها عزة، ونسألك اللهم أن تجعل هذا الشهر الكريم شهر أمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وخير وبركة، وبر وإحسان.

اللهم املأ قلوبنا فيه بالإيمان، واملأ نفوسنا بعزائم الخير يا رب العالمين!

اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسير أقدامنا إلى طاعتك، وأخضع جباهنا لعظمتك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.

اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واجعلنا اللهم في هذا الشهر الكريم من المغفورة ذنوبهم المرحومين، واجعلنا اللهم فيه من عتقائك من النار يا رب العالمين!

اللهم وفقنا فيه للطاعات، واصرف فيه عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا فيه ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا رب الأرض والسماوات!

اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.

اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.

اللهم أحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.

اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء!

اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم فرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم في أنفسهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، برحمتك وقوتك وعزتك يا رب العالمين!

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين!

اللهم اجعل هذا الشهر الكريم عليهم شهر عز ونصر وتمكين، واجعله على أعدائهم شهر ذل وخذلان وهزيمة يا رب العالمين!

اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وابسط أمنهم، ووفر رزقهم يا رب العالمين!

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء!

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتك فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!

اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء!

عباد الله! صلوا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.