خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/239"> الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/239?sub=62913"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية
الحلقة مفرغة
الحمد لله كاشف الضر والبلوى، عالم السر وما هو أخفى، الآمر بالبر والتقوى، الناهي عن الإثم والنجوى، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً وفتح به قلوباً غلفاً.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى به نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون!
ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية، نجعلها حديث يومنا هذا وقد كثر الحديث عن الإصلاح، وتنوعت صوره، فمن إصلاح تأتي به دبابة عسكرية.. إلى إصلاح تبثه قنوات فضائية.. إلى إصلاح آخر يتجلى في مبادرات سياسية.. إلى ثالث ورابع وخامس، وقلما سمعنا في الإصلاح الذي يأتي من الخارج، أو الذي يروج في الداخل، أو الذي يتناقل في وسائل الإعلام هنا أو هناك، قلما رأينا تأصيله من كتاب الله، واسترشاده التام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الثوب إذا كان من قماش حسن، وبخياطة متقنة لكنه على غير مقاسك، لا تستطيع الانتفاع به، وكذلكم كل ما يأتي على غير الأساس الذي نقوم عليه، وننطلق منه، ونحتكم إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلن يكون محققاً لمراداتنا وطموحاتنا من هذا الإصلاح.
وذلك يقين لا بد أن يستقر في النفوس والقلوب، مع علم وفكر وبصيرة تدرك أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما من القواعد الكلية، والمقاصد الشرعية، ما يستوعب مستجدات كل زمان، وما يصلح أحوال كل مكان، وما ينفع الإنسان في تقلبات أحواله وتغيرات أزمانه.
فليس هناك قصور كما يتوهم البعض، ولا تخلف كما يفتري البعض، بل كمال مطلق، وصلاح دائم، وتجدد مستمر، ومرونة عظيمة، مع أصالة وثبات يعتصم به المؤمنون والمسلمون من أن تضل بهم الأهواء، أو أن تتقاسمهم الآراء، أو أن تتشبث بهم الحيرة، أو أن يغشاهم الاضطراب، قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57].
وليس مقامنا هذا كافياً لأن نتحدث عن منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يستوعب الحياة كلها في مجالاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدولية وغير ذلك، وحسبنا في هذا المقام الذي نفتتح به حديث الإصلاح في القرآن والسنة أن يكون اليوم في ومضات قرآنية ربما نأخذ جلها من قصة واحدة من قصص الإصلاح وحواراته من رسول الله شعيب عليه صلوات الله وسلامه.
أول إصلاح قام به شعيب عليه السلام هو الاعتقاد الصحيح
نبي من أنبياء الله، والأنبياء هم صفوة المصلحين، وخلاصة الذين رسموا المنهج القويم للإصلاح على هدي من ربهم، وبنور من وحيه، وبرقي وسمو بما كانوا عليه من صلاح السرائر، وجمال الأخلاق، ورشد العقول، وحسن التدبير، وكمال السياسية.
هذه دعوة شعيب يبدؤها بأول وأهم وأعظم أساس لا يكون إصلاح إلا به، أساس الإصلاح الاعتقادي الإيماني الذي يعلق القلوب بتوحيد الله وتعظيمه، فلا شرك ولا إشراك ولا توزع لهموم الإنسان وطموحاته أو خوفه ورجائه إلى آلهة متعددة وإن لم تسم آلهة.
أول دعوة بدأ بها شعيب وبدأ بها كل الرسل والأنبياء: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:84]، هذه الدعوة الإصلاحية الأولى.
كم نحن في حاجة إلى إصلاح مسائل الاعتقاد والإيمان من جهات ووجوه شتى، منها العلم والمعرفة المبنية على الدليل الثابت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن انحراف الآراء وانجراف الأهواء.
كم نحن في حاجة من جهة أخرى إلى دحض الشبهات، وإلى بيان فساد المبتدعات، وإلى التذكير والتحذير من خطورة الشركيات، ليس من ذلك شيء إلا ونحن في أمس الحاجة إليه، وليس من ذلك شيء إلا وهو من أعظم وأسس الانحراف والضعف والزيغ الذي حل بأمتنا، أو بكثير من أبنائها وفي كثير من أصقاعها.
ثم نحن كذلك في حاجة إلى مراجعة الأثر الحقيقي للإيمان في واقع الحياة، هل قضايا الإيمان تشربتها القلوب؟ هل حقائق الإيمان رسخت في النفوس؟ هل أصبحت تجري مع الدماء في العروق؟ هل تضبط الخواطر والأفكار؟ هل تهذب الأقوال والكلمات؟ هل تقوم السلوك والأعمال؟ هل تحكم بين الناس فيما يجري بينهم من الأمور؟ هل تضبط أمور معاملاتهم المالية؟ هل هي حقيقة حية واقعة تتجلى في سجود جباههم، ودموع أعينهم، ووجل قلوبهم، وورع نفوسهم؟
هل حقيقة الإيمان موجودة؟ لو أنها كانت على النحو المطلوب، وعلى الوجه الكامل، وعلى الصورة المؤثرة لرأينا كثيراً من وجوه الفساد والقطيعة والخلاف تنتهي وتزول من واقع حياتنا، ولكنه الإيمان إذا انحرف ضل أربابه إلى صور من شرك أو انحراف وابتداع، وإذا ضعف فاستولت الدنيا بشهواتها على القلوب، وسيرت النفوس، وحكمت في العلائق والأحوال المختلفة؛ فحينئذ لا يرجى أن يرجى أثر لأي إصلاح، وذلك ما دام الفساد في القلوب مستقراً، وما دام الكدر والقذر موجوداً في النفوس لم تطهره قضايا الإيمان وحقائقه كما ينبغي.
إن طهارة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، وحسن الأقوال، وصحة الأعمال، وصلاح الأحوال، لا يمكن أن تنطلق إلا من أساس صحيح لاعتقاد صحيح راسخ مؤثر، ذلكم هو أساس الإصلاح والتغيير الذي جاء به سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، يوم بذر بذرة الإيمان في قلوب قوم من أهل الشرك والكفر والجاهلية والعصبية، كانوا أهل فسق وفجور، أهل انحراف وأهواء، فإذا بهذا الإيمان يغير حياتهم، ويؤسسها على قاعدة جديدة متينة من شهادة التوحيد، ومن معرفة حقائق الإيمان وتأثيره في النفوس.
وتلك هي القضية التي جاء بها الرسل والأنبياء، جاء بها شعيب هنا وقدمها لتكون أساساً يبني عليه الإصلاح الاقتصادي الذي كان الإفساد فيه شائعاً في قومه، وجاء بها موسى عليه السلام ليصلح الفساد والطغيان السياسي الذي كان عليه فرعون، وجاء بها لوط ليصلح الإفساد الأخلاقي الذي كان في شذوذ قومه وانحرافهم فيما يأتون من الذكران.
فكل قضية إصلاحية إنما يؤسس لها بتأسيس صلاح الإيمان، وصحة الاعتقاد، وحسن التعلق بالله، وكمال الرجاء فيه، وعظمة الخوف منه، وصدق التوكل عليه, ودوام الإنابة إليه، تلك هي التي تحسن بها أحوال الناس في معاشهم، وتكون بعد مماتهم سبباً لنيل رحمة الله عز وجل ورضوانه.
الإصلاح الثاني الذي دعا إليه شعيب هو الامتثال لأمر الله
أراكم بخير في معيشتكم ورزقكم، أي: فيما تأخذون من الحلال وإن كان قليلاً، فأخاف أن تسلبوا ما أنتم عليه بانتهاككم محارم الله، قاله ابن كثير في تفسيره.
إذاً: الإصلاح يعتمد كذلك على الطاعة لله عز وجل، والموافقة لشرعه، والمجانبة لمحادته ومشاقته ومخالفة أمره، فإن دواعي الفساد والإفساد إنما مبعثها مخالفة حكم الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما كان من التزام بأمر الله وأمر رسوله فذلك فيه الصلاح والخير، ولذلك قال: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ [هود:84] أي: ما استقمتم على أمر الله، ثم حذر فقال: وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود:84] بأن تفسد أحوالكم في دنياكم، وتحل بكم نقمة الله عز وجل، وينزل بكم سخطه، وتنزع منكم بركته في الدنيا، ثم تكون العاقبة السيئة والعياذ بالله في الآخرة.
فالأساس الإصلاحي الثاني الذي تصلح به أحوال العباد بعد حسن الاعتقاد: حسن الامتثال، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، وهذه دعوات قرآنية كثيرة، ودعوات نبوية عديدة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
وينبغي أن نعلم سوء أثر مخالفة أمر الله في واقعنا، لم افترقت النفوس؟ لم اختلفت الآراء؟ لم تفرقت الصفوف؟ لم قست القلوب؟ لم جحدت العيون وقحطت؟ لم تغيرت أحوالنا؟
إنه بسبب ضعف إيماننا وكثرة معاصينا، والمعصية آثارها عظيمة، وأضرارها وخيمة ووبيلة، والمؤمن الحق يدرك تماماً أن أثر المعصية عظيم.
ولقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم يرون أثر المعصية في الأمر اليسير الهين الذي لا نلقي له بالاً، فكانوا إذا ساء خلق زوجة أحدهم أو دابته رد ذلك إلى قصور في طاعته، أو إلى غفلة في ارتكاب شيء من المعاصي، كانوا يرون أن كل عارض يعرض لهم فيه ضرب من الابتلاء أو ضرب من العناء، إنما هو بسبب شيء من غفلتهم عن أمر الله أو اجترائهم على معصية الله.
واليوم قد كثرت الذنوب والمعاصي، وتعاظمت حتى صارت كأمثال الجبال، بل ملأت ما بين السماء والأرض، ثم بعد ذلك نسأل: ما السبب في تغير أحوالنا؟! ولماذا لا نستطيع أن نحقق مرادنا ولا أن نصل إلى مبتغانا، ولا أن نصلح أحوالنا، ولا أن نداوي أمراضنا؟!
إن ذلك لا يكون ولن يكون إلا بالصلح مع الله عز وجل، وإصلاح ما بيننا وبينه، وبالتعظيم والوفاء لرسولنا صلى الله عليه وسلم، استمساكاً بهديه واتباعاً لسنته، وذباً عنه عليه الصلاة والسلام.
ولذلك حذر شعيب هنا من هذه المعصية، فماذا كان جواب القوم، وإن كان لا يعنينا ذلك كثيراً في هذا المقام، لأننا إنما نريد أن ننظر إلى لسان المصلح ماذا كان يقول؛ وإلى نظريته التي يقدمها.. إلى توجيهاته التي يذكرها.
لكنهم في سياق ردهم عليه جاءوا بالتهكم والسخرية، وأتوا بما يستوجبون به سخط الله عز وجل، وحلول الفساد في أرضهم وديارهم، وقبل ذلك في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، قالوا: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، لم يقولوا ذلك ذكراً لصفات حسنة فيه، ولكنهم يقولون: إن مقتضى ما تقوله لنا يدلنا على أنك لست بحليم ولا رشيد. يقولون ذلك على سبيل التهكم، ويذكرون هنا قضية مهمة في شأن الإصلاح، وللأسف أن بعض بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا يشابهونهم في قولهم: (أصلاتك تأمرنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وهؤلاء يقولون: لماذا تدخلون أمر الاعتقاد والدين في صلب الحياة؟ ما للدين وللاقتصاد؟ ما للدين وللسياسة؟ وما للدين وللحياة الاجتماعية؟ ما للدين وللحياة العلمية والتقنية؟
أرادوا أن يقولوا له: بماذا جئتنا يا شعيب؟ نحن ننكر ونستنكر ولا نقبل ولا نفهم أن تكون صلاتك التي تقوم بها، أو ديانتك التي جئت بها، تريد أن تغير أحوال حياتنا كلها، تريد أن تضبط وتحكم تفاعلات جوارحنا ومعاملاتنا في سائر جوانب حياتنا! وذلكم ما لعله اليوم يقال في ديار الإسلام، وبألسنة بعض أبناء الإسلام الذين يقولون: لماذا لا نأخذ النظريات الاقتصادية من الشرق؟ لماذا لا نأخذ النظم السياسية من االغرب؟ لماذا لا نستفيد في جوانب الحياة الاجتماعية من هنا أو هناك؟ وكأننا فقراء لا منهج عندنا! كأننا أمة مبتوتة لا تاريخ لها! كأنه ليس بين أيدينا النور التام الذي تبحث عنه البشرية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم!
لقد أصبحنا اليوم نسمع عن الديمقراطية والحرية وغيرها من المصطلحات، ولم نعد نسمع ذكراً لآية من كتاب الله، أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صفحة مشرقة من صفحات كثيرة ملئ بها تاريخنا الذي رسم الحياة الإنسانية على القاعدة الإيمانية، وفي ظلال الشريعة الإسلامية، فأتى بالتقدم والرخاء الاقتصادي، وأتى بالعدالة السياسية والقضائية، وأتى بأحسن القوانين والأحوال الاجتماعية، وأقام فوق ذلك حضارة مدنية وتقدماً علمياً، ما تزال أمم اليوم تعود نهضتها إليه، ويرجع مبتدؤها إليه، فأين أمة الإسلام عن حقيقة الإصلاح في جوهر المنهج القرآني والرباني؟
نبي الله شعيب يؤسس قواعد الإصلاح
قال عليه السلام عندما ردوا عليه بهذا الرد: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
في هذه الآيات منهج لكل مصلح ما الذي ينبغي عليه في تكوين ذاته ونفسه، ما الذي يجب عليه في حسن عرضه ودعوته، ما الذي ينتهي ويرتكز عليه في قدرته ومواصلته.
استمعوا إلى هذه الآيات! استمعوا إليها بالقلوب والعقول استماعاً فيه التدبر والتأمل وهو يقول: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [هود:88]، فأول أمر أيها المؤمنون المسلمون لا بد أن نكون على بينة من أمرنا، على بينة من ديننا، على بينة من نهجنا، لا بد أن نعرف حقائق إيماننا وشرائع إسلامنا، أن نعرف ما يثار من الشبهات.
لا بد أن نعرف المنهج الإسلامي معرفة صحيحة من أصوله الصافية، ومنابعه العذبة؛ لأن هذا هو الذي يجعل لنا النور الذي نكشف به صور الانحراف والخلل، وهذا هو الذي يثبت المصلح.
أما إذا لم يكن المصلح على بينة من ربه، وعلى معرفة من نهجه، فربما اضطرب أو تشكك، وربما تراجع وتقهقر، وربما وافق وداهن أو جامل فيما لا ينبغي أن يكون؛ خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه المفاسد والأطروحات والضغوطات المختلفة، حتى صار الناس يدعون أموراً ليست من الإسلام وينسبونها إليه؛ لأنهم ليسوا على بينة من ربهم.
وهذا أول أمر ينبغي للمؤمن والمصلح والداعية والعالم وكل فاعل خير في هذه الأمة أن يتزود به، وأن يتحصن به، قال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الأنعام:57]، حتى وإن كذبت الدنيا كلها، وإن صارت وسائل الإعلام تصك أذاننا كل يوم بمذاهب وضعية بشرية؛ فإننا نقول: إنا على بينة من ربنا.
وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [الأنعام:57] كانوا يقولون: أين أثر ذلك؟ أين النتيجة لذلك؟ واليوم يقول بعض المسلمين: أين أثر القرآن وأين أثر الإيمان؟ وأين أثر شعائر الإسلام؟ هل يمكن أن تطبق في واقع الحياة اليوم؟
إن هذا التشكك لا يزيله إلا يقين راسخ، ومعرفة تامة، وبينة واضحة في منهج الإسلام.
ثم قال شعيب عليه السلام: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا [هود:88] قال أهل التفسير: قصد النبوة، أو الرزق الحلال، قال ابن كثير : والأمر يحتمل، ومقصوده في سياق الآية: (ورزقني منه رزقاً حسنا) أي: أخذت من الحلال ما كان موافقاً لشرع الله، وتركت ما كان من الحرام مخالفاً لأمر الله.
فالاستقامة هنا بعد وضوح المنهج، إن كل مصلح لا بد أن يكون قدوة ولا بد أن يكون مسابقاً لكل خير يدعو إليه، ومجتنباً لكل سوء أو شر يحذر منه، لا بد أن يكون قدوة تتعلق بها القلوب، وتتأثر بها النفوس، وتكون أنموذجاً يقتفى، وأسوة تحتذى.
هذه معالم مهمة في الإصلاح، فما بال كثير من أهل الإصلاح يقولون ما لا يفعلون، ويدعون إلى ما عنه يتخلفون!
ومن هنا أتبعها فقال: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] إن أعظم أثر سلبي لدعوة الإصلاح أن يكون الداعي إليها أول مخالفٍ لها، كيف نقول إننا ننطلق من ثوابتنا ونحن نستورد من غيرنا؟ كيف يقول ذلك المصلح إنه يريد خيراً لوطنه وبلاده، وقلبه وفكره في خارجها؟
كيف يدعي أنه يريد الإصلاح كما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح، وهو يتلقى توجيهاته أو إرشاداته أو نظرياته أو أفكاره ممن ليسوا على دينه ولا على ملته، وليسوا من دياره ولا من بلاده؟
ثم كذلك: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] سواء كان ذلك في السر أو كان في العلن، ذكر ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: لا أنهاكم عن شيء وأخالفكم في السر فأفعله خفية عنكم، كما قاله قتادة ، وقال كذلك: لم أكن أنهاكم عن أمر وأركبه، لما كان لهذا الأمر أثره في عدم قبول دعوة الإصلاح والتأثر بها.
ثم قال: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88] وهذه قاعدة إصلاحية مهمة، قاعدة الإخلاص والتجرد عن المصالح الذاتية، قاعدة الارتباط بتغليب المصالح العامة للأمة.
إن الداعية المصلح لا يريد شيئاً لنفسه، لا يريد حظاً لدنياه، لا يريد شيئاً يتصل به أو بجماعته أو بقبيلته أو بفئته، إن المصلح الحق إنما يريد وجه الله أولاً، وخير أمته وأبناء أمته ثانياً، لا يوجهه لذلك مصلحة ولا يرده عن ذلك مفسدة.
لا يدعوه إلى ذلك مغنم، ولا يصده عن ذلك مغرم، إنما أساسه ورغبته الإصلاح، فإرادته الجازمة وغايته الواضحة: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88].
وقضية الإصلاح والتغيير قضية ليست سهلة، ومن هنا جاء قوله عليه السلام: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، فإنه لا يمكن أن تحقق دعوة إصلاحية أثرها إلا بتوفيق الله عز وجل، ولا يستدعى هذا التوفيق ولا يستجلب إلا بالإخلاص لله عز وجل، وكمال التجرد، والرغبة في خير هذه الأمة وإصلاحها.
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] فالاعتماد عليه، والرجوع إليه، قال السعدي في تفسيره: وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه والإنابة إليه، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وكما قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فإن انطلقنا في دعوتنا للإصلاح مستعينين بالله، مستحضرين رجوعنا إليه، فذلك هو النهج القويم الذي ترجمته لنا آيات القرآن.
نسأل الله عز وجل أن يصلح فساد قلوبنا ونفوسنا، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وأصلح أعمالنا، وحسن أقوالنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
قصة شعيب مع قومه فيها ومضات منهجية نؤسس بها لقضية الإصلاح: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود:84].
نبي من أنبياء الله، والأنبياء هم صفوة المصلحين، وخلاصة الذين رسموا المنهج القويم للإصلاح على هدي من ربهم، وبنور من وحيه، وبرقي وسمو بما كانوا عليه من صلاح السرائر، وجمال الأخلاق، ورشد العقول، وحسن التدبير، وكمال السياسية.
هذه دعوة شعيب يبدؤها بأول وأهم وأعظم أساس لا يكون إصلاح إلا به، أساس الإصلاح الاعتقادي الإيماني الذي يعلق القلوب بتوحيد الله وتعظيمه، فلا شرك ولا إشراك ولا توزع لهموم الإنسان وطموحاته أو خوفه ورجائه إلى آلهة متعددة وإن لم تسم آلهة.
أول دعوة بدأ بها شعيب وبدأ بها كل الرسل والأنبياء: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:84]، هذه الدعوة الإصلاحية الأولى.
كم نحن في حاجة إلى إصلاح مسائل الاعتقاد والإيمان من جهات ووجوه شتى، منها العلم والمعرفة المبنية على الدليل الثابت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن انحراف الآراء وانجراف الأهواء.
كم نحن في حاجة من جهة أخرى إلى دحض الشبهات، وإلى بيان فساد المبتدعات، وإلى التذكير والتحذير من خطورة الشركيات، ليس من ذلك شيء إلا ونحن في أمس الحاجة إليه، وليس من ذلك شيء إلا وهو من أعظم وأسس الانحراف والضعف والزيغ الذي حل بأمتنا، أو بكثير من أبنائها وفي كثير من أصقاعها.
ثم نحن كذلك في حاجة إلى مراجعة الأثر الحقيقي للإيمان في واقع الحياة، هل قضايا الإيمان تشربتها القلوب؟ هل حقائق الإيمان رسخت في النفوس؟ هل أصبحت تجري مع الدماء في العروق؟ هل تضبط الخواطر والأفكار؟ هل تهذب الأقوال والكلمات؟ هل تقوم السلوك والأعمال؟ هل تحكم بين الناس فيما يجري بينهم من الأمور؟ هل تضبط أمور معاملاتهم المالية؟ هل هي حقيقة حية واقعة تتجلى في سجود جباههم، ودموع أعينهم، ووجل قلوبهم، وورع نفوسهم؟
هل حقيقة الإيمان موجودة؟ لو أنها كانت على النحو المطلوب، وعلى الوجه الكامل، وعلى الصورة المؤثرة لرأينا كثيراً من وجوه الفساد والقطيعة والخلاف تنتهي وتزول من واقع حياتنا، ولكنه الإيمان إذا انحرف ضل أربابه إلى صور من شرك أو انحراف وابتداع، وإذا ضعف فاستولت الدنيا بشهواتها على القلوب، وسيرت النفوس، وحكمت في العلائق والأحوال المختلفة؛ فحينئذ لا يرجى أن يرجى أثر لأي إصلاح، وذلك ما دام الفساد في القلوب مستقراً، وما دام الكدر والقذر موجوداً في النفوس لم تطهره قضايا الإيمان وحقائقه كما ينبغي.
إن طهارة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، وحسن الأقوال، وصحة الأعمال، وصلاح الأحوال، لا يمكن أن تنطلق إلا من أساس صحيح لاعتقاد صحيح راسخ مؤثر، ذلكم هو أساس الإصلاح والتغيير الذي جاء به سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، يوم بذر بذرة الإيمان في قلوب قوم من أهل الشرك والكفر والجاهلية والعصبية، كانوا أهل فسق وفجور، أهل انحراف وأهواء، فإذا بهذا الإيمان يغير حياتهم، ويؤسسها على قاعدة جديدة متينة من شهادة التوحيد، ومن معرفة حقائق الإيمان وتأثيره في النفوس.
وتلك هي القضية التي جاء بها الرسل والأنبياء، جاء بها شعيب هنا وقدمها لتكون أساساً يبني عليه الإصلاح الاقتصادي الذي كان الإفساد فيه شائعاً في قومه، وجاء بها موسى عليه السلام ليصلح الفساد والطغيان السياسي الذي كان عليه فرعون، وجاء بها لوط ليصلح الإفساد الأخلاقي الذي كان في شذوذ قومه وانحرافهم فيما يأتون من الذكران.
فكل قضية إصلاحية إنما يؤسس لها بتأسيس صلاح الإيمان، وصحة الاعتقاد، وحسن التعلق بالله، وكمال الرجاء فيه، وعظمة الخوف منه، وصدق التوكل عليه, ودوام الإنابة إليه، تلك هي التي تحسن بها أحوال الناس في معاشهم، وتكون بعد مماتهم سبباً لنيل رحمة الله عز وجل ورضوانه.