دور الأمة ومكانتها في بناء النظام السياسي
مدة
قراءة المادة :
20 دقائق
.
دور الأمة ومكانتها في بناء النظام السياسي
(2 ـ 2)
محمد بن شاكر الشريف
نشرت البيان في العدد 203 مقالاً في هذا الموضوع ذكر الكاتب فيه الأدلة على دور الأمة في نصب الإمام، وبين كيفية دورها في التولية عن طريق أهل الحل والعقد، ودورها عن طريق الاستخلاف، ودورها في التغلب أو القهر، ويواصل الكاتب في هذا العدد بقية الحديث. ـ البيان ـ بلغ من اعتداد الشريعة بمكانة الأمة في بناء النظام السياسي أنها لم تسمح بأي مسوغ للالتفاف حول اختيارها، بل أمرت بقتل من يحاول أن يفسد هذا الاختيار الذي تم بإرادة هذه الأمة ورضاها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (1) ، وقد قيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حل دمه بكونه خرج على من اجتمعت عليه الأمة، مما يبين المكانة العظيمة والدور الكبير للأمة، وأنه يترتب على اختيارها من الأحكام ما لا يترتب إذا لم تكن هي المختارة. ^ صور تحقيق دور الأمة في الاختيار: في المقال السابق تبين وجود صورتين عمليتين لدور الأمة قد حدثتا في زمن الخلافة الراشدة، وقد دل على اعتبار مشروعية تلك الصور أمران: الأول: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: « ...
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ...
» (2) الحديث، وهذا من سنن الخلفاء الراشدين.
والأمر الثاني: أن هذه الصور قد تحقق فيها دور الأمة فعلاً وواقعاً، وقد بين المقال السابق كيف تحقق دور الأمة في كليهما، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا العصر: هل هناك صور أخرى يمكن أن يتحقق بها دور الأمة في الاختيار غير تلك الصورتين؟ الأمر البين الذي لا يُختلَف عليه أن النصوص الشرعية لم تحدد طرقاً عملية معينة لكيفية قيام الأمة بدورها في ذلك؛ بحيث يقال: لا يصلح غير هذه الطرق، وإنما دلت على دور الأمة الذي يجب عليها، وأطلقت الكيفية، وهذا يقود إلى نتيجتين في غاية الأهمية: الأولى: أن الطريق الذي لا يجعل للأمة دورها في بناء النظام السياسي هو طريق غير شرعي. الثانية: أن الطريق العملي الذي يؤدي إلى قيام الأمة بدورها في ذلك هو طريق مشروع وإن لم يأت في خصوصه نص شرعي.
والحكمة في عدم النص على الطرق العملية لتنفيذ بعض الأحكام الشرعية تكمن ـ والله تعالى أعلم ـ في أن النص عليها يجعلها من الأمور التي ينبغي اتباعها في كل زمان ومكان؛ بينما كانت هي في الواقع حلاً مرتبطاً بعناصر البيئة التي يطبق فيها؛ فكان المناسب لكمال الشريعة وحكمتها الكاملة أن الأمور التي لا ترتبط بتغيرات الزمان والمكان، أو التي ينبغي مراعاتها في جميع الأحوال أن تذكر في النصوص الشرعية.
وأما الأمور المرتبطة بالزمان والمكان وتختلف فيها وجوه المصلحة باختلاف العصور والأحوال، فإنها تترك لأهل العلم كي يجتهدوا في النصوص الواردة للإتيان بتفاصيل تناسب الواقع من جانب، وتحقق النصوص من جانب آخر، من غير أية مخالفة للشريعة؛ وعلى ذلك جاءت النصوص ببيان دور الأمة في الاختيار؛ بينما أطلقت الطرق العملية في الكيفيات؛ فالأمور التفصيلية قد يحتاج إليها في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وبتفصيلات متباينة؛ فليس من الحكمة أن ينص على جميع التفصيلات لتكون على مستوى واحد؛ فإذا كانت الدولة ذات مساحة صغيرة جداً لا تتجاوز مساحة المدينة المنورة (في أول الهجرة) فلا ينبغي أو فلا يلزم أن توجد فيها جميع التنظيمات أو الإدارات التي وجدت فيما بعد في الدولة ذات المساحة الواسعة التي شملت كل ما يسمى بالعالم الإسلامي؛ لذلك لم يكن عدم النص على مثل ذلك إهمالاً لها أو نسياناً أو عدم معرفة أو خبرة، ولكن لأن الأوضاع لا تحتملها أو لا تحتاج إليها، في الوقت الذي يوجد فيه في النصوص الشرعية ما يسمح باستنباط كل ما يلزم الدولة من مؤسسات أو هيئات أو تنظيمات عند الحاجة؛ ولذلك لم يشعر أحد من المسلمين بوجود نقص في التشريعات في هذا الباب، ولم يشعر أحد كذلك في استنباط ما دعت إليه الحاجة أنه قد جاء بأمر سد به نقصاً، أو دارى به عيباً؛ لأن الذي يستنبط ذلك إنما يرجع إلى النصوص ويعول عليها، وهي ـ بحمد الله ـ كافية شافية لا تُحْوِجُ أحداً إلى شيء غيرها، وإنما المطلوب هو حسن الفهم والقدرة على الاستنباط السليم.
والأمور المستجدة التي تعد تطبيقاً عملياً للنصوص الشرعية حسب الإمكانات المتاحة، ينبغي أن يراعى في استنباطها أن تكون محققة للحكم الشرعي، من غير أن يخالف قاعدة من قواعد الشريعة، أو يعارض دليلاً من أدلة الشرع التفصيلية، أو أن يترتب على ذلك مفسدة تربو على المصلحة المتوخاة منه، ومثل هذه الطرق التي تتحقق بها الأحكام الشرعية في الواقع تعد من السياسات الجزئية التي تتناسب مع الزمان والمكان وتختلف باختلافهما، وليست من الشرائع الكلية أو العامة اللازمة للأمة إلى يوم القيامة؛ فالذي يجمع بين السياسات الجزئية أنها تتفق في تحقيق الحكم الشرعي أو المقصد الشرعي وإن اختلفت أعيانها.
ولو نظرنا بهذا المقياس فيما تم في زمن الخلافة الراشدة لوجدنا ذلك متحققاً؛ إذ جميع الطرق اتفقت على إعطاء الأمة دورها ومكانتها في الاختيار وإن اختلفت طرق تحقيق ذلك في الواقع، وهذا الإطلاق في النصوص يناقضه أن نضع اليوم طريقة ونقول: هذه هي الطريقة المشروعة الوحيدة التي يتحقق بها دور الأمة، فنجعلها من قبيل الشريعة العامة، بينما هي في حقيقة الأمر من السياسات الجزئية.
ومن هذا المنطلق؛ فإنه يتصور تغاير الطرق من زمن إلى زمن، ولا يعد في ذلك مخالفة شرعية ما دام الأصل ـ وهو اشتراك الأمة ـ في ذلك موجوداً. ^ صور لا يتحقق فيها دور الأمة: ونعني بها صوراً واقعة، وليست صوراً متخيلة افتراضاً؛ فمن ذلك: التغلب والقهر: صورة التغلب والقهر التي ينزو فيها واحد أو جماعة على السلطان بما يمتلكونه من أدوات القوة ووسائل التأثير بغير اختيار من الأمة أو الرجوع إليها في ذلك، وهذه صورة وجدت في القديم كما وجدت في الحديث وتكلم عنها أهل العلم.
وهذه الأصل فيها أنها لا تحل ولا تجوز (1) ، وتقدم الحديث عنها في المقال السابق. ومن ذلك صورة أخرى وهي في مظهرها على النقيض من صورة التغلب والقهر، وهي صورة الانتخابات، ولما كانت هذه الصورة معاصرة لم يتقدم فيها كلام لأهل العلم السابقين، فيحسن أن نبسط الكلام فيها بما يناسب حجم المقال. الانتخابات: والمراد بالانتخابات اشتراك جميع أفراد المجتمع البالغين في الاختيار، والدعاة إلى ذلك يرونه أصدق أسلوب في التعبير عن رأي الأمة، ومن ثم فهو أفضل طريق لتمثيل الأمة.
والانتخابات في حقيقتها ليست مجرد آلية للاختيار، وإنما هي تنطلق من مبدأ قائم على أن الشعوب هي سيدة نفسها، وأنه لا سلطان عليها من خارجها، وانطلاقاً من ذلك فإنه يدخل في الاختيار طوائف المجتمع كلها فيدخل في ذلك كل من يطلق عليه لقب مواطن سواء كان مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً أو وثنياً؛ لأن له من الحق في السيادة مثل ما لغيره، كما يدخل في الاختيار النساء للسبب نفسه أيضاً.
ومن الأمور المجمع عليها في فقه الشريعة أن غير المسلم لا يتدخل في الاختيار، كما أن النساء لا مدخل لهن في الاختيار أيضاً (2) ، ويترتب على هذا الأسلوب أمران: أولهما: جواز أن يرشح الإنسان نفسه لتولي هذا المنصب، (أي يسأل أو يطلب هذا الأمر لنفسه) . وثانيهما: إباحة الدعاية لنفسه والثناء عليها باستحقاقها لهذا المنصب وقدرتها على القيام بأعبائه، وكلها أمور منهي عنها بمقتضى النصوص الشرعية (3) ، وإذا أخرجنا من الاختيار غير المسلمين، وأخرجنا كذلك النساء، ولم نسمح أيضاً بالترشيح والدعاية؛ فإن طريقة الانتخابات تظل مع ذلك غير محققة لدور الأمة في الاختيار؛ لأمور كثيرة منها: عزوف أو غياب كثير من الناس عن المشاركة في ذلك لأسباب متنوعة حتى يصل عدد المشاركين في أحيان كثيرة إلى أقل من نصف الذين يحق لهم التعبير عن رأيهم، حسب أنظمة الانتخابات، ومنها: وجود الأصوات الباطلة، نتيجة الوقوع في بعض مخالفة نظام الانتخابات، ومنها: توزع أصوات الناخبين على أكثر من مرشح، حتى يصير المرشح فائزاً في الانتخابات لحصوله على الأغلبية؛ بينما هو في حقيقة الأمر لم يحصل إلا على أغلبية المشاركين في الاختيار، وهي في أحيان كثيرة أغلبية نسبية وليست أغلبية مطلقة (أي يحصل على أكبر عدد من الأصوات بالنسبة للمرشحين الآخرين، وليس الحصول على أكثر من نصف الأصوات مجتمعة) ، ومنها: ـ وهو الأهم ـ إضاعة رأي الفئة المميزة في المجتمع سواء كان التميز علمياً أو دينياً؛ فرأي الفئة المميزة في المجتمع وفقاً لهذه الطريقة مهدر لا قيمة له، وهذا من أهم العيوب والقوادح التي تقدح في هذا الأسلوب؛ وذلك إذا قسمنا المجتمع إلى عدة مستويات من حيث النضج والمقدرة على تمييز من يصلح ممن لا يصلح؛ فإننا نجد أن المستوى الأعلى من ذلك هم قلة قليلة جداً بالنسبة لمجموع الشعب، وأن الكثرة الغالبة من الشعب لم تصل إلى هذه المستويات من النضج والوعي على اختلاف بينهم في ذلك.
والمقصود أن رأي هذه الفئة ذات المستوى المميز يضيع وسط تلك الكثرة الكاثرة، ولا يكون له تأثير في الأمور؛ إذ صوت العالم الخبير بالأمور يستوي مع صوت العامي الذي لا يملك من المؤهلات أكثر من كونه بالغاً عاقلاً (1) مما يبين فساد تلك الطريقة في التعبير عن رأي الأمة. ^ حدود دور الأمة: الأمة عندما تقوم بهذا العمل لا تقوم به من باب المصلحة فتكون حدودها بحدود تلك المصلحة، وإنما تقوم بأداء عمل قد وجب عليها أداؤه من قِبَل الشريعة، وعلى ذلك فإن حدود دورها إنما يحدده الذي أوجب عليها هذا الدور: ليس للأمة تولية من لا يستحق العزل: فالشريعة أوجبت عليها الاختيار وحددت شروطاً معينة ينبغي توافرها فيمن تختاره الأمة، وعلى ذلك فليس للأمة أن تختار من تشاء بمجرد الرغبة في اختياره إذا لم تتحقق فيه الشروط المطلوبة؛ فإذا اختارت الأمة من ليس أهلاً للإمامة؛ فلا يقبل ذلك منها؛ لأنها تصرفت بغير ما أُذن لها فيه، وهذا مما يبين فساد من يقول إن السيادة أو السلطان للأمة، أو أن الأمة هي مصدر السلطات، تأثراً ببعض النظريات السياسية الغربية؛ فإن الأمة وإن كان منوطاً بها الاختيار مثل ما تملك الحق في عزل من أتى بما يستحق لأجله العزل، فإنها لم تفعل ذلك بمجرد رأيها وإنما تفعله وفق الشروط الشرعية لذلك، وإذا كانت لا تفعل ذلك إلا بتلك الشروط، وهي لم تضعها، بل وضعت لها؛ فكيف يقال إنها صاحبة السيادة؟! فالأمة ليست هي التي تمنح الحاكم الحق في المنصب، وإنما الذي يمنحه ذلك الحق هو الشرع لتحققه بالصفات والشروط المطلوبة، والأمة شاهدة أن ذلك الشخص تحققت فيه تلك الشروط والصفات المطلوبة وهي بعد ذلك مأمورة أن تعطي هذا المنصب لمن يستحقه، فإذا شهدت الأمة بما علمت، وقامت بإعطاء الحق لمن يستحق لا يقال إنها صاحبة السيادة أو السلطان، أو أنها هي مصدر السلطات، ولكنها فعلت ما يجب عليها أن تفعله. ليس للأمة عزل من لا يستحق: والشريعة قد أوجبت إمضاء البيعة وعدم السعي في حلها ما دام الإمام محققاً للشروط، قائماً بالواجبات من غير إخلال؛ وعلى ذلك فليس للأمة أن تحل البيعة أو أن تسعى في ذلك من غير سبب شرعي يسوغه، ولا يعد نبوغ من هو أفضل من الإمام بعد البيعة له مسوغاً شرعياً يبيح حلها وعقدها للأفضل؛ إذ إن هذا أمر لا ينفك عن مثله الزمان، ولو كان كلما نشأ في الزمان رجل أفضل من رجل حللنا بيعة المفضول وعقدناها للفاضل لم يستتب للإمامة معنى؛ فقد أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- البيعة من المسلمين وكان مما جاء فيها: «وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» (2) ؛ فمنازعة ولاة الأمر الذين تولوا بطريقة شرعية لا تجوز إلا ببرهان دل عليه الشرع؛ فإذا كان الإمام مستوفياً للشروط، قائماً بواجباته من غير إخلال ولا تقصير، متجافياً عما يقدح في استمرار ولايته، كان إقصاؤه عن منصبه رغبة في التغيير والتجديد، وإحلال من هو أفضل منه مكانه، ليس من البرهان الذي دل عليه الشرع.
قال الماوردي ـ رحمه الله ـ: «فلو تعين لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة فبايعوه على الإمامة، وحدث بعده من هو أفضل منه انعقدت ببيعتهم إمامة الأول، ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه» (3) .
وقال إمام الحرمين: «الإمام إذا لم يخلُ عن صفات الأئمة، فرام العاقدون له عهداً أن يخلعوه لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأمة؛ فإن عقد الإمامة لازم لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه، ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار لما استتب للإمام طاعة، ولما استمرت له قدرة واستطاعة، ولما صح لمنصب الإمامة معنى» (4) .
ولا يبيح ذلك أن يشترط في عقد البيعة تقييدها بمدة زمنية معلومة كما يقول به المتأثرون بالنظم الديمقراطية المعاصرة؛ إذ هذا الكلام ليس إلا مجرد حيلة شكلية للخروج من مخالفة الشريعة، وبيان ذلك من عدة وجوه منها: أن خروج الإمام عن منصبه لا يكون إلا بالإخلال بواجباته، أو فقد أحد شروطه، وأن انقضاء فترة زمنية معينة ليست داخلة في ذلك، ومنها: أن دور الأمة أن تشهد بأن هذا صالح لذلك المنصب.
ومعلوم أن هذه الصلاحية لا تتقيد بزمن، ومنها: أن هذا القيد هو في حقيقته إخراج للصالح للإمامة عن ولايته بغير سبب شرعي يوجبه، ومنها: أن هذا القيد منافٍ للغرض المقصود تحقيقه من عقد الإمامة وهو استقرار الأحوال وانتظام الأمور، ومنها: أن هذا القيد لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين، ومنها: أن هذا القيد قد جاء عن أهل العلم ما يدل على إهدارهم له؛ وذلك أنهم افترضوا مثل تلك الحالة التي نحن بصددها من حصول من هو أفضل من الإمام المبايع، ومع ذلك لم يحترزوا لها ويقيدوا الولاية بفترة زمنية تمكنهم من العقد للأفضل بعدها، ومنها: أن هذا الحكم حكم شرعي، وليس حكماً عقلياً؛ وعلى ذلك فالذي يضع عليه القيود أو الشروط هو الشرع وليس العقل، والشريعة لم تضع قيداً على استمرار الولاية سوى متابعة ولي الأمر للشريعة وتقيده بها وعدم الخروج عليها، وقدرته على القيام بأعباء الإمامة وتحقيق المصالح المناطة بها. وهذه الطريقة التي يطالب بها بعض المفتونين بحضارة الرجل الأبيض يضيع فيها كثير من الوقت والجهد والمال؛ إضافة إلى المهاترات والمزايدات السياسية التي نراها اليوم، حتى إن منهم من يفتعل المشاكل افتعالاً في الفترة التي تسبق الانتخابات حتى يشعر الناخب بحاجته إليه، ثم إذا انتهت الانتخابات عاد كل أمر إلى حاله كأن لم يكن شيء قبل ذلك، لا فرق في ذلك بين من يقال عنها إنها دول متقدمة أو عريقة في الديمقراطية، وبين من يقال عنها إنها دول متخلفة أو حديثة في الديمقراطية، حتى قال بعضهم إن أسوأ أربعة أشهر في حياة الولايات المتحدة على الإطلاق هي تلك التي تسبق عملية الانتخابات الرئاسية في كل مرة، وليس يخفى على القارئ أنه في ظل أن يكسب مرشح تلك الانتخابات قد ينفق عشرات من ملايين الدولارات؛ فمن أين يأتي بها؟ وكيف يعوضها؟ وتلك أمور وراءها قصص يطول سردها.
وإذا كان المسلم يعلم أن تلك المسؤولية حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها؛ فهل يعقل أن يدفع مسلم صالح تقي يخشى الله ـ تعالى ـ عشرات الملايين من الدولارات لكي يتحمل هذه المسؤولية؟ ^ حقيقة ما يجب على الأفراد في بناء النظام السياسي: القول بأن على الأمة أن تقوم ببناء النظام السياسي لا يعني أن كل فرد فيها مطالب بالقيام بكل مهمة من مهمات هذا النظام، وإنما يعني أن الأمة مجتمعة عليها أن تقوم بذلك، وهذا يؤدي إلى أمرين هامين: الأول: تقسيم المهام على الناس بحسب الاستعدادات والقدرات والإمكانات؛ بحيث يقوم كل واحد بما يستطيعه ويحسنه، فيصير مجموع الأمة قائماً بمجموع مهام بناء النظام السياسي؛ فأهل الحل والعقد يعقدون البيعة لمن يستحقها (أو يحلونها ممن فقد استحقاقها) ، وأهل القوة والشوكة ينصرون ذلك ويساعدون عليه ويمضونه، وبقية الرعية تقبل وتطيع وتتابع وتشايع. والأمر الثاني: الاشتراك في المسؤولية العامة؛ بحيث لا يقول أحد: ليس هذا مطلوباً مني، بل هو مطالب بالسعي، فيسعى بما يمكنه من ذلك ولو كان غير مطالب به على التعيين، قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ في تفسير فرض الكفاية: «القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة؛ فهم ـ المكلفون ـ مطلوبون بسدها على الجملة؛ فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلاً لها، والباقون ـ وإن لم يقدروا عليه ـ قادرون على إقامة القادرين؛ فمن كان قادراًِ على الولاية فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها؛ فالقادر إذاً مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إذ لا يُتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به» (1) . __________ (1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، رقم 3443. (2) ابن ماجه، المقدمة رقم 42، وأبو داود، كتاب السنة، رقم3991، والترمذي، كتاب العلم؛ رقم 2600 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه ابن تيمية (35/19 مجموع الفتاوى) . (1) ويستثنى من ذلك بعض الحالات الخاصة كما هو مذكور في كتب السياسة الشرعية. (2) انظر في ذلك: غياث الأمم في التياث الظلم، للجويني، ص 48. (3) انظر في ذلك: البخاري كتاب الأحكام، باب من سأل الإمارة وكل إليها، ومسلم كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة. (1) أي غير مجنون، لا بمعنى كمال العقل ورجاحته. (2) البخاري، كتاب الفتن رقم. (3) الأحكام السلطانية، ص 9 ـ 10. (4) غياث الأمم في التياث الظلم، ص 97. (1) الموافقات للشاطبي، 1/ 121.