الهوية بين السلبية والإيجابية


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، له الحمد سبحانه وتعالى أن شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وأتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام ديناً، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، ختم به الرسالات، وأكمل به الديانات، وجعل شريعته صالحة إلى قيام الساعة.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء -ليلها كنهارها- لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! "الهوية بين الإيجابية والسلبية" حديث كثر تناوله، فهل لكل أمة خصوصية تميزها، وهوية تعرف بها؟ وهل ذلك إن وجد يكون عائقاً في طريق تطورها، ومانعاً من صلتها بغيرها، وقاطعاً لها عما حولها؟

ونحن في هذه الأوقات والأزمان التي لم يعد للمسافات فيها أثر، ولم يعد إمكان لأن يكون هناك انعزال كامل بحال من الأحوال، ينبغي أن نعرف هذه المسألة؛ لأنها في غاية الأهمية لإدراكنا ولأحوالنا في تصوراتنا ومبادئنا، وفي علومنا ومعارفنا، وفي ثقافتنا وحضارتنا، وفي سلوكنا وأعمالنا، من هنا نبدأ بهذه المسألة المهمة.

الهوية لأي مجتمع وأمة لابد أن تكون موجودة بشكل أو بآخر، وهي ترتكز على ثلاثة عناصر: الدين، واللغة، والتاريخ، وما من أمة في قديم الزمان وحاضره إلا ولها دين، ولسان تتحدث به، وتاريخ كان لهذا الدين وتلك اللغة والثقافة والحضارة ارتباط به، ومن هنا تتميز به ويكون سمة خاصة بها، ويشكل لها كثيراً من أسسها وقواعدها وتصوراتها ورؤاها.

ولابد أن ندرك أننا في هذا العصر نحتاج إلى معرفة الهوية وتأكيدها، ومعرفة الجوانب التي نجعل منها إيجابية نافعة في هذه الهوية؛ لأن هناك من قصر فهمه ونظر إليها نظراً مختلاً، فرأى أنها حاجز لا بد أن يزال، وسمت لا بد أن يلغى، ولابد أن يكون الناس كلهم شيئاً واحداًًً، ونمطاً واحداً، وهذا إن قاله بعض من نعدهم من الأعداء من غير المسلمين قلنا: إن مقاصدهم بذلك أن ينزعوا ديننا، وأن ينسخوا تاريخنا، وأن يبدلوا كل خصوصياتنا، لكننا إن سمعناه من بعض أبناء جلدتنا، وبعض أبناء ملتنا، أدركنا أنهم ربما كان عندهم سوء فهم، وخلل فكر، وميل هوى، يحتاجون معه إلى مراجعة ومناصحة، ولذلك ليس من النافع أن يكون هناك احتراب قبل أن يكون هناك تعيين وتحديد.

أهمية الهوية في دين الأمة

إن هوية الأمة في دينها أمر أساسي لا نريد أن نقول: إنه من ذات ديننا وصميم آيات قرآننا وأحاديث نبينا، بل نقول كذلك: إنه من واقع الحياة المعاصرة، وإنا لنسأل ونتساءل: دولة الغصب في الكيان الصهيوني المحتل في أرض فلسطين ماذا تسمي نفسها؟ وما هو شعارها؟ وكيف هي مناهجها؟ وكيف تكون أيام عطلها؟ وما الذي يدور في معاهدها ومحافلها؟ وعمن تدافع؟ ومن تجلب إلى أراضيها؟

إن أي مغفل أو أحمق يدرك أن محور القطب والرحى الذي تدور عليه ديانتها وعقيدتها اليهودية، وإن أمماً أخرى كثيرة -حتى غير الديانات السماوية- تجعل أعيادها، وتجعل تصرفاتها، وإجازاتها، وكثيراً من صور أحوالها الاجتماعية منبثقة من تلك الديانة وتلك العقيدة حتى وإن كانت بشرية كما أشرت، فلماذا يستنكر على أمة الإسلام أن يكون لها مثل ذلك، أو يرى أن ذلك من الضيق في الفكر، أو التحجر في النظر، أو عدم القدرة على التعارف وعلى التواصل مع الآخرين؟!

العنصر الثاني: اللغة

ثم إذا جئنا إلى اللغة وما أدراك ما اللغة؟! لغة القرآن، لغة الفصاحة والبيان، التي أصبحت اليوم غريبة في ديارها، لا يحسن أهلها أن يقيموا حروفها، وأن يفصحوا في إعرابها، ولا أن يظهروا بلاغتها، وصار كثير منهم لا يكاد يتكلم جملة إلا ويحشر في كلماتها من تلك اللغة أو الأخرى كلمات لا تعود تعرف هل هو من أبناء هذه اللغة أو غيرها؟!

وأسألكم: من يتحدث بالعبرية في أنحاء العالم؟ كم عددهم؟ ومع ذلك كل مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وكليات طبهم لا تتحدث ولا تدرس إلا بها، ولو ذهبت إلى أقصى الشرق في بلاد اليابان لما رأيت أحداً يلتفت إليك، ما لم ترطن برطانته وتتكلم بلغته، ولو ذهبت إلى فرنسا لرأيت أنها تعتز بلغتها وتأبى أن تتحدث بغيرها، وتحرص على حمايتها، ومنع تسرب اللغات الأخرى بحيث تكون هي الأصل في أبناء جلدتها، وانظروا إلى التجمعات الكثيرة العالمية كالجامعات التي نرى فيها أن أظهر سمة فيها هذه اللغات، فما بالنا نقول: لم تتحدثون بالعربية؟ ولم تصرون على الفصحى؟ ولم تريدون أن تجعلوا التعليم في معاهدنا وجامعاتنا بهذه اللغة غير العلمية؟

وبالمناسبة: يغتر بعض الناس باللغة الإنجليزية، ولا يدركون أنها من حيث النسب ليست عالمية، فإن نسبتها دون نسبة اللغة الصينية التي تشكل (15%) من سكان العالم كله، ولذلك أقول: هذا المعنى مهم، وسنذكر أهميته في صور كثيرة عظيمة قد يضيق مقامنا عن ذكرها.

العنصر الثالث: التاريخ

ونحن اليوم انتسابنا بالإسلام يمتد جذوره إلى أبي البشرية آدم عليه السلام، ويمر بتاريخ الرسل والأنبياء والصالحين والدعاة، ولنا تاريخ ننتسب فيه إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] هذا التاريخ لم ينسخ أو يلغ، لكنه قد يختزل أو يختصر، أو يكتب في المناهج -كما أسلفت من قبل في بعض البلاد العربية والإسلامية- سبعة أسطر عداً وحصراً في سيرة وتاريخ الخليفة الراشد عثمان بن عفان ، ونصف صفحة لا أكثر ولا أقل في سيرة عمر بن الخطاب ، ثم يكون لنا من بعد ذلك صفحات وصفحات في تاريخ أمة من شرق أو غرب، وشخصيات من هنا أو هناك، كيف يمكن حينئذ أن يكون لنا لون وطعم ورائحة معروفة؟!

وانظروا اليوم إلى كل أمم الأرض كيف تبحث وتنبش عن صفحات تاريخها، بما فيه من أوحال وأدناس وأرجاس، وبمناسبة ذلك: يظن بعض الناس -من أثر ما سلط على الجوانب السلبية في تاريخنا- أن تاريخ أمتنا ليس إلا قتلاً وحرباً وصراعاً، وأنه ليس فيه كثير من المعاني العظيمة التي سجلت في صفحات تاريخ الإنسانية العظمى في ظلال الإيمان والإسلام.

أقول هذا -أيها الإخوة المؤمنون- لأن قضيتنا مهمة في هذه الشخصية الإسلامية والهوية، وهذه البلاد الإسلامية التي تضم الحرمين الشريفين يستنكر اليوم الناس ما يعرف بخصوصيتها أو هويتها، ويقولون: هل نحن جنس من غير جنس البشر؟ وهل نحن من غير نسل بني آدم؟ وهل في عروقنا دماء غير دماء البشرية؟

لنقول: من قال ذلك؟! ولكننا بلد الإسلام، فهل في بلاد أخرى كعبة غير البيت الحرام؟ وهل في بلاد أخرى مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سوى الذي في المدينة؟ وهل هناك مشاعر مقدسة وبلاد محرمة بتحريم الله وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم في أي بقعة من الأرض غير هذه البلاد؟ وهل هناك دولة أو بلد لم يدخل الاستعمار إليه دخولاً كاملاً: عسكرياً وفكرياً ونظامياً وقانونياً وتعليمياً سوى هذه البلاد، وهل هناك أنظمة منصوص عليها في سياسة التعليم والإعلام وغيرها ليس فيها حرف واحد يتناقض مع أصول الإسلام وثوابته، أو مع أهدافه ومقاصده سوى هذا البلد؟ وهل هناك بلد فيها فصل للتعليم بين الذكور والإناث في كل المراحل مثلما في هذه البلاد؟ وهل هناك بلد الأصل أن كل من يعيش على أرضه من أبنائه هم من المسلمين؟ وغير ذلك من الأسئلة، فكيف إذاً تطرح الحقائق وتلغى؟!!

وهذه كلمات أقرؤها عليكم لكاتب كتب في إحدى صحفنا قبل يومين لا أكثر ولا أقل، لا نستعدي ولا نصرخ، وإنما ننصح ونراجع، يقول: وبعد مرور ربع قرن من عمرنا، ينبغي أن يكون قد ترسخ في ضميرنا ووجداننا وأذهاننا قناعات فحواها: أنه ليس من الضروري الاحتكام للرؤية الدينية في كل شاردة وواردة تطرأ على حياتنا، ويقول: أختلف معهم -أي: مع الذين يقولون بهذه الخصوصية- في اعتبار الدين -أي دين- مكوناً للخصوصية.

ثم يقول: إن الخصوصية هي: العلمانية الإيمانية، أو العلم الإيماني، أو الإيمان العلمي، ويذكر حينئذ صوراً، فيقول: إننا إذا تحدثنا عن فرنسا ذكرنا الحرية والمساواة والإخاء، وإذا ذكرنا أمريكا ذكرنا حقوق الإنسان والحريات، وإذا ذكرنا كذا وكذا وعدد من بلاد الشرق والغرب، وكأن أمة الإسلام ليس لها إلا الذل والتخلف والسوء والسواد والشنار والعار، ولعلي أظن أنه لم يقصد ذلك، فهو لم يدرك مرامي الكلام وغاياته.

إن هوية الأمة في دينها أمر أساسي لا نريد أن نقول: إنه من ذات ديننا وصميم آيات قرآننا وأحاديث نبينا، بل نقول كذلك: إنه من واقع الحياة المعاصرة، وإنا لنسأل ونتساءل: دولة الغصب في الكيان الصهيوني المحتل في أرض فلسطين ماذا تسمي نفسها؟ وما هو شعارها؟ وكيف هي مناهجها؟ وكيف تكون أيام عطلها؟ وما الذي يدور في معاهدها ومحافلها؟ وعمن تدافع؟ ومن تجلب إلى أراضيها؟

إن أي مغفل أو أحمق يدرك أن محور القطب والرحى الذي تدور عليه ديانتها وعقيدتها اليهودية، وإن أمماً أخرى كثيرة -حتى غير الديانات السماوية- تجعل أعيادها، وتجعل تصرفاتها، وإجازاتها، وكثيراً من صور أحوالها الاجتماعية منبثقة من تلك الديانة وتلك العقيدة حتى وإن كانت بشرية كما أشرت، فلماذا يستنكر على أمة الإسلام أن يكون لها مثل ذلك، أو يرى أن ذلك من الضيق في الفكر، أو التحجر في النظر، أو عدم القدرة على التعارف وعلى التواصل مع الآخرين؟!

ثم إذا جئنا إلى اللغة وما أدراك ما اللغة؟! لغة القرآن، لغة الفصاحة والبيان، التي أصبحت اليوم غريبة في ديارها، لا يحسن أهلها أن يقيموا حروفها، وأن يفصحوا في إعرابها، ولا أن يظهروا بلاغتها، وصار كثير منهم لا يكاد يتكلم جملة إلا ويحشر في كلماتها من تلك اللغة أو الأخرى كلمات لا تعود تعرف هل هو من أبناء هذه اللغة أو غيرها؟!

وأسألكم: من يتحدث بالعبرية في أنحاء العالم؟ كم عددهم؟ ومع ذلك كل مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وكليات طبهم لا تتحدث ولا تدرس إلا بها، ولو ذهبت إلى أقصى الشرق في بلاد اليابان لما رأيت أحداً يلتفت إليك، ما لم ترطن برطانته وتتكلم بلغته، ولو ذهبت إلى فرنسا لرأيت أنها تعتز بلغتها وتأبى أن تتحدث بغيرها، وتحرص على حمايتها، ومنع تسرب اللغات الأخرى بحيث تكون هي الأصل في أبناء جلدتها، وانظروا إلى التجمعات الكثيرة العالمية كالجامعات التي نرى فيها أن أظهر سمة فيها هذه اللغات، فما بالنا نقول: لم تتحدثون بالعربية؟ ولم تصرون على الفصحى؟ ولم تريدون أن تجعلوا التعليم في معاهدنا وجامعاتنا بهذه اللغة غير العلمية؟

وبالمناسبة: يغتر بعض الناس باللغة الإنجليزية، ولا يدركون أنها من حيث النسب ليست عالمية، فإن نسبتها دون نسبة اللغة الصينية التي تشكل (15%) من سكان العالم كله، ولذلك أقول: هذا المعنى مهم، وسنذكر أهميته في صور كثيرة عظيمة قد يضيق مقامنا عن ذكرها.

ونحن اليوم انتسابنا بالإسلام يمتد جذوره إلى أبي البشرية آدم عليه السلام، ويمر بتاريخ الرسل والأنبياء والصالحين والدعاة، ولنا تاريخ ننتسب فيه إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] هذا التاريخ لم ينسخ أو يلغ، لكنه قد يختزل أو يختصر، أو يكتب في المناهج -كما أسلفت من قبل في بعض البلاد العربية والإسلامية- سبعة أسطر عداً وحصراً في سيرة وتاريخ الخليفة الراشد عثمان بن عفان ، ونصف صفحة لا أكثر ولا أقل في سيرة عمر بن الخطاب ، ثم يكون لنا من بعد ذلك صفحات وصفحات في تاريخ أمة من شرق أو غرب، وشخصيات من هنا أو هناك، كيف يمكن حينئذ أن يكون لنا لون وطعم ورائحة معروفة؟!

وانظروا اليوم إلى كل أمم الأرض كيف تبحث وتنبش عن صفحات تاريخها، بما فيه من أوحال وأدناس وأرجاس، وبمناسبة ذلك: يظن بعض الناس -من أثر ما سلط على الجوانب السلبية في تاريخنا- أن تاريخ أمتنا ليس إلا قتلاً وحرباً وصراعاً، وأنه ليس فيه كثير من المعاني العظيمة التي سجلت في صفحات تاريخ الإنسانية العظمى في ظلال الإيمان والإسلام.

أقول هذا -أيها الإخوة المؤمنون- لأن قضيتنا مهمة في هذه الشخصية الإسلامية والهوية، وهذه البلاد الإسلامية التي تضم الحرمين الشريفين يستنكر اليوم الناس ما يعرف بخصوصيتها أو هويتها، ويقولون: هل نحن جنس من غير جنس البشر؟ وهل نحن من غير نسل بني آدم؟ وهل في عروقنا دماء غير دماء البشرية؟

لنقول: من قال ذلك؟! ولكننا بلد الإسلام، فهل في بلاد أخرى كعبة غير البيت الحرام؟ وهل في بلاد أخرى مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سوى الذي في المدينة؟ وهل هناك مشاعر مقدسة وبلاد محرمة بتحريم الله وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم في أي بقعة من الأرض غير هذه البلاد؟ وهل هناك دولة أو بلد لم يدخل الاستعمار إليه دخولاً كاملاً: عسكرياً وفكرياً ونظامياً وقانونياً وتعليمياً سوى هذه البلاد، وهل هناك أنظمة منصوص عليها في سياسة التعليم والإعلام وغيرها ليس فيها حرف واحد يتناقض مع أصول الإسلام وثوابته، أو مع أهدافه ومقاصده سوى هذا البلد؟ وهل هناك بلد فيها فصل للتعليم بين الذكور والإناث في كل المراحل مثلما في هذه البلاد؟ وهل هناك بلد الأصل أن كل من يعيش على أرضه من أبنائه هم من المسلمين؟ وغير ذلك من الأسئلة، فكيف إذاً تطرح الحقائق وتلغى؟!!

وهذه كلمات أقرؤها عليكم لكاتب كتب في إحدى صحفنا قبل يومين لا أكثر ولا أقل، لا نستعدي ولا نصرخ، وإنما ننصح ونراجع، يقول: وبعد مرور ربع قرن من عمرنا، ينبغي أن يكون قد ترسخ في ضميرنا ووجداننا وأذهاننا قناعات فحواها: أنه ليس من الضروري الاحتكام للرؤية الدينية في كل شاردة وواردة تطرأ على حياتنا، ويقول: أختلف معهم -أي: مع الذين يقولون بهذه الخصوصية- في اعتبار الدين -أي دين- مكوناً للخصوصية.

ثم يقول: إن الخصوصية هي: العلمانية الإيمانية، أو العلم الإيماني، أو الإيمان العلمي، ويذكر حينئذ صوراً، فيقول: إننا إذا تحدثنا عن فرنسا ذكرنا الحرية والمساواة والإخاء، وإذا ذكرنا أمريكا ذكرنا حقوق الإنسان والحريات، وإذا ذكرنا كذا وكذا وعدد من بلاد الشرق والغرب، وكأن أمة الإسلام ليس لها إلا الذل والتخلف والسوء والسواد والشنار والعار، ولعلي أظن أنه لم يقصد ذلك، فهو لم يدرك مرامي الكلام وغاياته.

أيها الإخوة المؤمنون! إننا إذا انتبهنا لهذا المعنى نستطيع أن نجد عشرات ومئات من الآيات والأحاديث تبين ذلك، ولكننا في الوقت نفسه ندرك ونعي أن خصوصيتنا الإسلامية لا تعني أننا لا نتصل بالآخرين ولا نعرف كيف نتعامل مع الأمم الأخرى، فإن تاريخ إسلامنا قد دخل وانتصر على الحضارة الفارسية والرومانية واليونانية، وكثير من الحضارات الأخرى، فما دمرها وهدم بيوتها على رءوس أصحابها، وإنما استطاع أن يستوعب أهلها، ويدخل أكثرهم في دين الله أفواجاً، وأن يأخذ حضارتها المادية، فورث العلوم والفكر الحضاري المادي الذي لا يتعلق بالتصورات والعقائد، وبقيت أمة الإسلام أمة متميزة بإيمانها وعقيدتها وإسلامها وأخلاقها ومبادئها وثقافتها، لم تنسخ ولم تذب في غيرها.

بل إن المسلمين الذين خرجوا إلى فجاج الأرض شرقاً وغرباً، والذين أقاموا في بقاع مختلفة من شتى أنحاء العالم هم الذين -في جملتهم- كانوا المستعصين على الذوبان، ولو ذهبتم اليوم إلى بلاد كثيرة لرأيتم كيف ذابت شعوب وحضارات شرقية في تيار الحضارة الغربية، فالصيني أو الياباني الذي يعيش اليوم في أمريكا لا تكاد تعرف منه شيئاً من أصله إلا شحمته ووجهه التي خلقه الله عز وجل عليه، ولكنك ترى مسلمين ولدوا في تلك الديار ونشئوا فيها، وتعلموا في معاهدها، وتخرجوا من جامعاتها، وقلوبهم مليئة بالإيمان، وصدورهم عامرة بالإسلام، وألسنتهم ناطقة بالقرآن، وجباههم ساجدة في محاريب الصلاة، وهم في أعلى المستويات العلمية في كل المجالات التقنية والطبية والهندسية وغيرها، فهل هؤلاء أيضاً منغلقون وأغبياء وحمقى، ولا يعرفون كيف يأخذون بحضارة هذا العالم المعاصر في جانبها المادي والتقني؟!

ينبغي أن نأخذ مبدأ التوسط في معرفة الأمور، فليس كل شيء يقبل كاملاً على علاته أو يرفض كاملاً بكل ما فيه، بل العاقل المنصف، والأريب الأديب الذي يأخذ الحق فيستخلصه من بين براثن الباطل، ويقول: إنه حق وإن جاء من هذا الشخص أو ذاك، أو من هذه الجهة أو تلك، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

نحن أمة الإسلام أمة عمارة الأرض؛ لأن الله عز وجل خلقنا واستخلفنا في هذه الأرض لعمارتها، فكل ما هو من شأن عمارتها مطلوب منا شرعاً بدين الله عز وجل، كما عمر أسلافنا الأرض بالعمارة المادية والمدنية، وأقاموا الحضارة العلمية في أزمنتهم المختلفة في حواضر العالم الإسلامي كلها، حتى في الأندلس وما أدراك ما الأندلس؟! وهي حضارة امتدت على مدى ثمانية قرون ولا تزال مؤلفاتها ومخترعاتها إلى يوم الناس هي الأساس والقاعدة التي تم الانطلاق منها.

وقضية أخرى مهمة: ينبغي لنا ألا نغفل الواقع والتدخلات والضغوط الخارجية، وألا نغفل ما تحدث عنه المتحدثون كثيراً وطويلاً، وهو: أن الفكرة المسماة بالعولمة إنما تريد أن تجعل الناس شيئاً واحداً، لكن أي شيء؟

إنهم لا يريدون شيئاً واحداً مشتركاً، بل يريدون أن تتحدث بلسانهم، وأن تفكر بعقولهم، وأن يخفق قلبك بمشاعرهم، وأن تنزل إلى أرذل وأسفل دركات سلوكياتهم القذرة، ولذلك يقولون: لماذا تحجبون المرأة؟ لماذا تمنعون الاختلاط في التعليم؟ لماذا لا تكون عندكم أسر مثلية فيتزوج الرجل الرجل، والمرأة المرأة؟ لماذا لا تكون عندكم نواد مفتوحة وشواطئ للعراة؟ فذلك موجود عندهم، ويريدون أن يكون في كل الأرض شرقاً وغرباً، فعندما نتحدث عن بعض الأخطاء في واقعنا، أو عن بعض ما يحتاج إلى مراجعة هنا أو هناك، فلماذا لا ننتبه إلى أن حديثنا ينبغي أن يكون مضبوطاً؛ حتى لا يكون مواكباً وموافقاً لما يريده أعداؤنا منا فينبغي أن ننتبه إلى ذلك.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2907 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2729 استماع
فاطمة الزهراء 2694 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2627 استماع
المرأة والدعوة [1] 2541 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2533 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2533 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2485 استماع
خطبة عيد الفطر 2467 استماع
التوبة آثار وآفاق 2449 استماع