خطب ومحاضرات
الدين في حياة المسلمين [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله خلق الخلق بقدرته، وأمرهم بعبادته، والخضوع لعظمته، والرغبة والطلب لواسع رحمته، والرهبة والاجتناب لغضبه وشدة سطوته ونقمته، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! الدين في حياة المسلمين ما هي مكانته؟ وما حقيقة أهميته؟ هل هو في المقام الأول أو الآخر؟! هل هو في المكانة الأدنى أو الأسمى؟
ليس الذي يجيب على ذلك أقوال الألسنة وإنما ظواهر الأحوال والأفعال، ولعلنا نشير إلى وجوه من القصور والنقص لا تخطئها العيون، بل إنها قد صارت مألوفة معروفة لا تكاد تنكرها القلوب، ولا تردها العقول، ذلك أن كثيراً من أحوال كثير من المسلمين تدل على أنهم يقدمون أشياء كثيرة قبل دينهم وإسلامهم وإيمانهم، إن راحة أبدانهم مقدمة عند بعضهم على فرائض وشرائع إسلامهم.
ولعلي أضرب المثل لأيامنا هذه وفريضتنا هذه التي نحن فيها، مع وجود أيام الصيف ولياليه الساهرة، تنام العيون، وتركن الأجساد، ويقل عدد المصلين في صلاة الجمعة عند صعود الخطيب إلى النصف أو نحو ذلك، ما الذي أخرهم؟ هل كانوا في جهاد لأعداء الله؟ هل كانوا في مهمات عظيمة من شأن أمة الإسلام والمسلمين؟
إن جوابهم: سهرنا في عرس الأمس، أو تأخرنا في غداء أو عشاء البارحة، أو غير ذلك.
إذاً: فيمكننا أن نرى أن مثل هذا عندهم أعظم أو أكثر أهمية أو أنه أعظم تأثيراً في واقع حياتهم، ونحن نرى ذلك بأمهات أعيننا، وكل من يأتي إلى المسجد يشعر به، وليس الأمر في هذه الحالة، بل انظروا إلى صلاة الفجر وصفوفها، انظروا إليها لتروا أن هناك من يستطيع ويلزم نفسه ويجبرها أن تستيقظ في الوقت الشديد العصيب إذا كان عنده سفر مهم أو كانت عنده وردية عمل لا بد من أن يكون فيها في وقت معين، لكن نداء الفجر وأذانه يشق الفضاء، ولا من مجيب لذاك النداء.
وانظروا إلى صور أخرى كثيرة في واقع حياة المسلمين: ما لك يا فلان كنت تجلس على مائدة الطعام، وقدمت فيها الخمور، وأنت تعلم أنه لا ينبغي ولا يسيغ ولا يجوز أن تبقى على هذه المائدة؟! فيقول: إن في الأمر إحراجاً، وإن الانسحاب لا يليق، وإنه لا بد من مراعاة الظروف والأحوال.
أفليست مجاملة الناس من العصاة والكفرة في مثل هذا الموقف صارت هي المؤثر في القرار والفعل، وتأخر عن ذلك الدين والإيمان والآيات والأحاديث التي لعن فيها النبي صلى الله عليه وسلم عشرة؟
أفلسنا نرى كذلك من نساء المسلمين من إذا خرجت من بلاد المسلمين تركت حجابها، ونزعت سترها، وجنبت حياءها، أي شيء حصل؟ وأي أمر تغير؟ هل تنزلت آيات ناسخة؟
إنها مراعاة الأحوال والظروف، إنه الانفتاح والحرية، ولو أردنا أن نضرب أمثلة كثيرة لطال بنا المقام، فإن أحوال كثير من المسلمين تدل على أن آخر ما ينظرون إليه أو يفكرون به أو يؤثر في قرارهم هو دينهم وإسلامهم، هو قرآن ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، أفليست هذه حال مؤلمة محزنة؟ أفليست هي حال واقعة ومنظورة ومشاهدة.
إنه لكي نرى الصورة المقابلة، ولكي نلمس الفرق العظيم، والبون الشاسع بين حقيقة ما عليه بعض المسلمين، وما كانت عليه أجيال أمة الإسلام في الصدر الأول، وما دعت إليه آيات القرآن وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، يزيد في وضوح هذا الأمر وفي بشاعته، وفي لزوم تغيير هذا الواقع؛ لأن به ومن خلاله وبسببه تسلط علينا أعداؤنا، وتشتتت وتفرقت كلمتنا، وذلت وهانت أمتنا، واختلفت وافترقت آراؤنا، وتباغضت وتحاسدت نفوسنا؛ لأنه لا عصمة إلا بتعظيم ديننا، ولا فلاح إلا بتقديم أمر ربنا، وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، لننظر إلى صورنا هي أقل القليل مما يذكر في هذا المقام.
أي شيء كان عليه صحب محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين كان مكان دينهم في قلوبهم ونفوسهم؟
لقد كان الدين مؤثراً في كل حركة من حركاتهم، وسكنة من سكناتهم، في بيعهم وشرائهم، في حلهم وترحالهم، في سلمهم وحربهم.
قد كان أول شيء وأعظمه هو دين الله عز وجل، هو مالئ قلوبهم، وشاغل أفكارهم، ومستنفذ أوقاتهم، ومستهلك جهودهم، وكل شيء في هذه الحياة كان مسخراً لأجل دينهم، ابتغاء رضوان ربهم سبحانه وتعالى، فهذه صورة مؤثرة معبرة للفتى المنعم المدلل المرفه، الذي كان أحسن شباب مكة تنعماً وتعطراً، مصعب بن عمير رضي الله عنه.
كان في أسرة غنية ثرية تغدق عليه أمه من الأموال، وتعطيه من أسباب النعيم والرفاهية، ثم دخل دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وخرج منها مؤمناً مسلماً، وحينئذ انشغل باله عن ذلك النعيم، فصرف نفسه وهواها، وقلبه وميله عن ذلك الترف، حتى قطعت عنه الأموال، ومنعت عنه أسباب الرفاه، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم وعليه فروة مرقعة، وفي رواية سعد جلد كبش مرقع، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى ابن سعد في الطبقات وقال: (لقد رأيت
ثم ماذا؟
حبس وقيد في بيته، حتى استطاع أن يفر مهاجراً إلى الحبشة، ثم خرج مهاجراً قبل كل المهاجرين، يفتح المدينة داعياً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يحمل الراية في أحد، وتنقلب رحى المعركة؛ فتقطع يده اليمنى فيحملها بيسراه، فتقطع يسراه فيحنو عليها بعضديه حتى يندق الرمح في صدره ويخرج من ظهره، ويمضي إلى ربه شهيداً، فلا يجدون ما يكفنونه به إلا بردة إن غطوا رأسه بدت قدماه، وإن غطوا قدماه بدا رأسه.
وظل هذا الموقف العظيم الذي آثر به مصعب دينه وإيمانه وإسلامه على دنياه، وعلى نعيمه ليقول: إن الدين هو أساس الحياة عند المسلمين، وإن الدين هو أعظم وأغلى شيء في حياة المؤمنين، فما بالنا نجعله آخر شيء حتى لا نأتي إلى صلواتنا وفروضنا؟
أما رأينا القصة العظيمة المؤثرة لـأم سلمة رضي الله عنها وزوجها وابنها؟ عندما أرادوا الهجرة جاء أهلها فنزعوها من زوجها، وجاء أهل زوجها فنزعوا ابنها منها، فمضى الأب مهاجراً والأم في جهة أخرى والابن في ثالثة، لأي شيء؟ ذلك ثبات على الدين، ومروق وهجرة إليه، ورغبة فيه، وتعلق به.
أما عرفنا قصة آل جحش: عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد بن جحش يوم خرج القوم كلهم عن بكرة أبيهم مهاجرين، تركوا كل ديارهم وبيوتهم، وأساسهم ورياشهم، حتى كانت تصفق الريح فيها، لأي شيء؟ لدين الله، ولنصرة دين الله، كيف خرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى إن قبور بعضهم اليوم على مشارف بلاد أوروبا، ونحن اليوم إذا سهرنا قليلاً لم نؤد فريضة الله سبحانه وتعالى، وإذا كنا في مجمع من الناس استحيينا أن نقول كلمة الحق، أو أن نقوم إلى فريضة الله، ثم نتساءل من بعد ذلك: ما بال أمتنا ضعيفة؟! ما بال أعدائنا متسلطون علينا؟! ما بال كلمتنا مفرقة؟! ذلك عقاب لمن أخر دين الله عز وجل، وهو ابتلاء لمن لم يكن دينه أعظم عنده من كل شيء في الحياة.
اصطفاء الله الدين للمسلمين
إنها نعمة الله الكبرى، ومنته العظمى، اصطفى لنا الإسلام أكمل وخاتم الأديان، وجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام، وجعلنا من أمة القرآن فالله اصطفى لكم الدين، واختاره لكم وشرفكم به، وأكرمكم بالانتساب إليه: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] وصية وصى بها الأنبياء بنيهم، ونحن نعرف اليوم بما يوصي الآباء أبناءهم، يوصونهم بالتجارات.. بالدور والقصور.. بقسمة التركات وغير ذلك، ولا يعني كثير من المسلمين أن يوصوهم بأن يكون الدين أعظم همهم، وأوكد شغلهم، وأولى أمورهم.
ولذلك كان من شأن الصحابة رضوان الله عليهم أن جعلوا الدين كأنما هو أمانة في أعناقهم، ليس حتى آخر لحظة من لحظات حياتهم، بل حتى ما بعد مماتهم، فهذا سعد بن الربيع من أئمة الأنصار رضوان الله عليهم، عندما انجلى غبار المعركة في أحد سأل النبي عنه، وتفقده بعضهم، وجاءه رجل وهو في اللحظات والأنفاس الأخيرة التي لا يذكر الإنسان فيها إلا ما هو أعظم شيء عنده، مستول على قلبه وفكره ونفسه فقال له: إن رسول الله يقرئك السلام، فقال: وعلى رسول الله السلام، ثم ماذا قال؟ أخبر قومي أنه ليس فيهم خير قط إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم عين تطرف.
نعم! لم يذكر زوجة، ولا ولداً، ولا مالاً، ولا داراً، إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الإسلام والدين والأمة؛ لأنها هي التي كانت في سويداء قلبه، وفي أعماق نفسه، هي التي كانت تجري مع دماء عروقه، هي التي كانت حقيقة إيمانه وإسلامه، ومن هنا: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] قال المفسرون: داوموا على إسلامكم، والزموا إسلامكم حتى إذا صادفكم الموت كنتم عليه، والمرء لا يدري متى يموت، وعندما تأتيه منيته هل يكون ناصراً لدينه أم قاعداًعنه؟ هل تكون حمية دينه في قلبه عظيمة أم أنه يمكن أن تثار حفيظته، وأن يشتد غضبه لأجل حذائه أو كسائه ولا يتمعر وجهه لأجل عقيدته وإيمانه ودينه وأمته؟!
أليست هذه مفارقات حقيقية في واقع حياتنا؟!
الكفر بكل دين وقانون يخالف الإسلام
قال ابن عطية في تفسيره: الوجه في هذه الآية -يعني: المنحى والمقصد- أي: اجعل طريقك واعتمادك للدين والشرع، وقال القاسمي رحمه الله: إقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادة الله، والإعراض عما سواه، والمراد بالوجه الذات أي: اصرف ذاتك وكليتك للدين، ومعنى: (أَقِمْ وَجْهَكَ) أي: اجعل بصرك معلقاً بما تتوجه له، لا تنصرف عنه يمنة ولا يسرة، ولا تتركه في شدة ولا في يسر ولا في عسر، كما قال عبادة بن الصامت في حديثه المشهور في البيعة العظيمة لصحب محمد صلى الله عليه وسلم: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) تلك بيعتهم، أخلصوا لها، وجعلوا السمع والطاعة لأمر الله ولأمر رسوله هي قائد حياتهم، ونور طريقهم، وحقيقة ما يعظم ويبجل في قلوبهم ونفوسهم.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم:43-44]، قال السعدي في تفسيره: أي: أقبل بقلبك، وتوجه بوجهك، واسع ببدنك لإقامة الدين بجد واجتهاد، وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة، وبادر زمانك وحياتك وشبابك: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)، وقال ابن كثير : يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، اجعل الدين قصدك قبل أن يأتيك موتك، ثم تكون إلى تلك الفرقة أو الأخرى أعاذنا الله عز وجل من النار وعذابها.
وقال ابن عطية : إقامة الوجه هو تقويم المعتقد والقوة على الجد في أعمال الدين، والمعنى: اجعل قصدك ومسعاك للدين أي: لطريقه ولأعماله واعتقاداته.
والخلاصة: اجعل الحياة كلها محور قطبها ومحور مسيرها هو دين الله عز وجل، هو الذي تذكره عند أول لحظة في يقظتك، وهو الذي لا تنساه عند آخر لحظة من لحظات يقظتك، وهو الذي يكون ملء قلبك ونفسك عند آخر نفس من أنفاس حياتك.
ما الذي جاء في كتاب الله قبل هذه الآية التي قلناها حتى ندرك أهمية هذا المعنى؟ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ [الروم:41-42].
إذاً: فظهور الفساد في البر والبحر، والعاقبة التي حلت بالكافرين والمشركين من أراد أن يخلص منها، وأن ينجو فالطريق: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [الروم:43].
سبب تكالب الكفار على المسلمين
وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. (وَلا يَزَالُونَ) الفعل بصيغة المضارع الذي يدل على الاستمرار، كان الأمر كذلك، وهو اليوم كذلك، وسيظل في الغد كذلك؛ لأن الله جل وعلا قال ذلك، وأما العلة فهي: (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ)، في بلاد كثيرة ثروات عظيمة، وفي بلاد كثيرة أسباب عديدة يمكن أن تكون مغرية لأهل الظلم؛ والبغي والعدوان، لكن الإسلام بذاته لما فيه من الحق الذي يزهق الباطل، والنور الذي يبدد الظلمات، والعدل الذي ينسخ الظلم هو الذي يستهدفه أولئك الأعداء من شرق وغرب، من يهود صهاينة أو صليبيين متطرفين أو غير ذلك من كل ملة ونحلة.
وملحظ بلاغي فريد جميل في هذه الكلمة: (إِنِ اسْتَطَاعُوا) قال القاسمي في تفسيره: وهي دلالة على أنهم لن يستطيعوا، كما تقول للرجل: إن ظفرت بي فاقتلني، وكأنك تقول له: لن تظفر بي، وبالتالي لن تستطيع إلحاق الضرر، وهم لن يستطيعوا؛ لأن الله حافظ دينه، وناصر أمته، والشقي المحروم الذي لا يكون ناصراً للدين فيكون سبباً لتنزل نصر الله على أمة الإسلام، وإلا فإن الله جل وعلا ناصر دينه.
(وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ): قال السعدي : هذا الوصف عام لكل الكفار، لا يزالون يقاتلون غيرهم حتى يردوهم عن دينهم، وقال سيد في تفسيره: وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواتهم، ولكن الهدف يظل ثابتاً، أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً آخر، ويقول القاسمي: المقصود تحذير المؤمنين منهم -أي من الكافرين- وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور، لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين.
واعلموا بأنكم على الحق، وأنكم منصورون، وأنهم على الباطل وهم مخذولون، ولا بد وإن طال المدى، لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم، ومن وكل إلى نفسه ضاع، فالأمر بينكم وبينهم أشد من الكلام، فينبغي الاستعداد له بعدته، والتأهب له بأهبته، فضلاً عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه الشياطين طعناً في الدين، وصداً عن السبيل.
وهذه البلاد -بلاد الحرمين- أي شيء يجعل هذه الهجمات الشرسة والعدوان الظالم عليها؟ لأن أساسها قائم على الإسلام والدين، ولأن حفظها وأمنها لا يكون إلا بهذا الإسلام والدين، ولأن نماءها وتطورها لا يقوم ولا يستمر إلا بالتزام شرائع الدين، ولأن قوتها وعظمتها لا تظهر إلا بالاستمساك والاعتزاز بهذا الدين، وذلك غيظ قلوب الكافرين، وذلك الذي ينبغي أن نعرفه فلا نفرط في الدين.
نسأل الله عز وجل أن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يجعل ديننا وإسلامنا أعظم عندنا من كل شيء في حياتنا، ونسأله عز وجل أن يجعل جوارحنا في طاعته، وأن يستخدمنا لنصرة دينه، وأن يجعلنا ستاراً لقدره في نصر الإسلام والمسلمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
هل نقف وقفة قصيرة لنرى بأي شيء خاطبنا الله سبحانه وتعالى عن الدين ومكانته في حياتنا وقلوبنا؟ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132].
إنها نعمة الله الكبرى، ومنته العظمى، اصطفى لنا الإسلام أكمل وخاتم الأديان، وجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام، وجعلنا من أمة القرآن فالله اصطفى لكم الدين، واختاره لكم وشرفكم به، وأكرمكم بالانتساب إليه: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] وصية وصى بها الأنبياء بنيهم، ونحن نعرف اليوم بما يوصي الآباء أبناءهم، يوصونهم بالتجارات.. بالدور والقصور.. بقسمة التركات وغير ذلك، ولا يعني كثير من المسلمين أن يوصوهم بأن يكون الدين أعظم همهم، وأوكد شغلهم، وأولى أمورهم.
ولذلك كان من شأن الصحابة رضوان الله عليهم أن جعلوا الدين كأنما هو أمانة في أعناقهم، ليس حتى آخر لحظة من لحظات حياتهم، بل حتى ما بعد مماتهم، فهذا سعد بن الربيع من أئمة الأنصار رضوان الله عليهم، عندما انجلى غبار المعركة في أحد سأل النبي عنه، وتفقده بعضهم، وجاءه رجل وهو في اللحظات والأنفاس الأخيرة التي لا يذكر الإنسان فيها إلا ما هو أعظم شيء عنده، مستول على قلبه وفكره ونفسه فقال له: إن رسول الله يقرئك السلام، فقال: وعلى رسول الله السلام، ثم ماذا قال؟ أخبر قومي أنه ليس فيهم خير قط إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم عين تطرف.
نعم! لم يذكر زوجة، ولا ولداً، ولا مالاً، ولا داراً، إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الإسلام والدين والأمة؛ لأنها هي التي كانت في سويداء قلبه، وفي أعماق نفسه، هي التي كانت تجري مع دماء عروقه، هي التي كانت حقيقة إيمانه وإسلامه، ومن هنا: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] قال المفسرون: داوموا على إسلامكم، والزموا إسلامكم حتى إذا صادفكم الموت كنتم عليه، والمرء لا يدري متى يموت، وعندما تأتيه منيته هل يكون ناصراً لدينه أم قاعداًعنه؟ هل تكون حمية دينه في قلبه عظيمة أم أنه يمكن أن تثار حفيظته، وأن يشتد غضبه لأجل حذائه أو كسائه ولا يتمعر وجهه لأجل عقيدته وإيمانه ودينه وأمته؟!
أليست هذه مفارقات حقيقية في واقع حياتنا؟!
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2907 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2729 استماع |
فاطمة الزهراء | 2694 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2627 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2541 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2533 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2533 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2485 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2467 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2449 استماع |