خطب ومحاضرات
إلى أهل القرآن طلاباً وحفاظاً ومدرسين
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام الدائمان التامان الأكملان على النبي الكريم سيدنا ونبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين!
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان محاضرتنا هذه الليلة: (إلى أهل القرآن طلاباً وحفاظاً ومدرسين) والله أسأل أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته، ودار كرامته، وأن يجعلنا من أهل القرآن العاملين به، والتالين له، والمتدبرين له، والناشرين لعلومه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نبدأ هذا الموضوع بالحديث عن أهل القرآن ليعرفوا أنفسهم وليعرفهم الناس.
لا شك أن هناك فضلاً عظيماً ومنزلة سامية جعلها الله عز وجل لأهل القرآن الذين يشتغلون به تلاوة وتدبراً، وحفظاً واستذكاراً، وتعلماً وتعليماً، وعملاً ودعوة وتطبيقاً.
ولا شك أن هذا القدر وهذه المنزلة من أسمى وأرقى وأعلى ما يمكن أن يحوزه مسلم بعمل من الأعمال التي يرجو بها القرب من الله عز وجل.
خيرية أمة الإسلام مخصوصة بأهل القرآن
أولاً: الخيرية الفائقة.
لقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي لا أظن أن أحداً لا يحفظه، ولكنه يحتاج إلى مزيد التأمل والتدبر والتفكر في مضمونه وفي دلالته، حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم خيرية الصالحين والعابدين من أمته مخصوصة بأهل القرآن، كما في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وفي لفظ آخر عند البخاري : (إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه).
واعلم أن المرتبط بالقرآن تعليماً وتعلماً هو في الرتبة العليا، والمنزلة الرفيعة في هذه الأمة التي شرفها الله عز وجل.
ضمان أهل القرآن لشفاعته لهم
نحن نعلم أن كل أحد في هذه الحياة الدنيا يلتمس أسباب النجاة، ويحرص على الفكاك من النار، والعتق من سخط الله سبحانه وتعالى، وإذا بالقرآن الذي يحرص عليه صاحبه، ويرتبط به، ويسعى دائماً إلى أن يكون عظيم الصلة به هو الذي يشفع لصاحبه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من ذلك ما ورد في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، قال معاوية أحد الرواة: بلغني أن البطلة هم السحرة، فهذا وعد منه عليه الصلاة والسلام أن القرآن يشفع لصاحبه.
وفي الأَثر أن المرء إذا انشق عنه قبره يلقاه القرآن في صورة إنسان، ويكون المرء قد شحب لونه من هول ذلك اليوم، فيطمئنه القرآن ويقول له: ألا تعرفني؟ فيقول: لا، فيقول: أنا الذي أظمأتك في الهواجر، أنا الذي أسهرتك في الليالي، ثم يشفع فيه فيشفع بإذن الله عز وجل.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما).
وقد ذكر ذلك علماء الإسلام مذكرين بعظيم المنزلة والشرف الذي يحوزه حافظ القرآن والعامل به، قال ابن الجزري رحمة الله عليه عن القرآن:
وهو في الأخرى شافع مشفعُ فيه وقوله عليه يسمع
يعطى به الملك مع الخلد إذا توّجه تاج الكرامة كذا
يقرا ويرقى درج الجنانِ وأبواه منه يكسيان
وقد ورد في ذلك أحاديث وآثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته.
صاحب القرآن يحمل أعظم معجزة عرفتها البشرية
اعلم يا صاحب القرآن أن لديك أعظم معجزة في هذا الوجود، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن معجزته الكبرى الخالدة ما دامت السماوات والأرض هي هذا القرآن المعجز الذي يحيي القلوب، ويوقظ العقول، وينشط الضعيف الكسول، ويجمع الخير كله من أطرافه، فأنت عندما ترتبط به فإنك ترتبط بأعظم معجزة لله عز وجل في هذا الوجود، وكما ورد في مصنف ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من قرأ القرآن فكأنما أُدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه.
وفي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر -أي: أعطي معجزة تكون سبباً كافياً لإيمان البشر وإظهار صدق نبوة هذا النبي- وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، فأنت -إذاً- متصل بالوحي، وبالرسالة، وبالمعجزة الخالدة.
حامل القرآن ينافس في أعظم الأمور وأشرفها
فإذا تشاغل الناس بالصفق في الأسواق، وتنافسوا على ملذات الدنيا وشهواتها، وتسابقوا إلى الرفعة والجاه فيها، وتزاحموا على أبواب السلاطين؛ فأنت تنافس في أعظم الأمور وأشرفها، حتى إن أهل الفقه والإيمان ليرون أنك قد سبقتهم سبقاً عظيماً، وفقتهم فوقاً كبيراً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع صاحب القرآن مع صاحب المال المنفق في سبيل الله، وجعل عملهما من أعظم الأعمال التي يحرص كل أحد على المنافسة فيها، والمسابقة إليها، والمواظبة عليها قدر استطاعته.
ففي البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل والنهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار).
فإذا تنافس المتنافسون في الدنيا، فأنت في أعظم منافسة، وإذا تسابق المتسابقون لها فأنت في أعظم ميدان، فاعرف لحامل القرآن قدره ومنزلته.
حامل القرآن متبع لأفضل الخلق من الملائكة والبشر
عندما تتمسك بكتاب الله عز وجل فإن أسوتك جبريل عليه السلام، وأسوتك محمد صلى الله عليه وسلم، وسلفك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ، والكوكبة العظيمة الشريفة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون سلسلتك متصلة بالأئمة الأعلام والعباد والزهاد والأتقياء والصلحاء، فإنك في الحقيقة تسلك طريقاً قد سبقك إليه الأشراف والأطهار، بل سبق إليه الرسل والأنبياء والملائكة المقربون!
فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام، فإذا تدارست القرآن فتذكر تلك المدارسة التي ليس في الدنيا أشرف منها؛ فهي مدارسة بين أمين الوحي جبريل وبين خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فما أعظم هذه المتابعة، وما أشرف هذه السلسلة.
وانظر إلى آثار كثيرة، وأحاديث عديدة تبين لك أن الاشتغال بالقرآن هو اشتغال بما اشتغل به الذين قد بلغوا الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة والقرب من الله عز وجل.
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سمع رجلاً يقرأ القرآن في المسجد، فقال: يرحمه الله! لقد أذكرني كذا وكذا من سورة كذا)، ولم يكن القارئ يقصد المراجعة ولا المدارسة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن يقصد ذلك ترداداً وتذكيراً وحفظاً ومراجعة ومدارسة؟!
فهذا رجل دعا له النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أحيا وقته، وأحيا بيت الله عز وجل بتلاوة القرآن قال: (يرحمه الله! لقد أذكرني كذا وكذا من سورة كذا)، والحديث في صحيح البخاري في باب: (نسيان القرآن، وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا)؟
واعلم أنك عندما تثني ركبتيك في حلق القرآن، وعندما تتأدب بين يدي حافظ القرآن الذي يعلمك ترتقي بهذا إلى شرف عظيم، وتصعد إلى رتبة عليا، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: لقد أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله! لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم.
ويقول شقيق صاحب ابن مسعود رضي الله عنه: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون -أي: عن ابن مسعود - فكان القول ما قال أي: في عظيم منزلته وعلمه بكتاب الله عز وجل.
وعن سليمان بن يسار -كما في مصنف ابن أبي شيبة -: أن عمر رضي الله عنه انتهى إلى قوم جلوساً يقرئ بعضهم بعضاً، فلما رأوا عمر سكتوا، فقال: ما كنتم تراجعون؟ قالوا: كنا يُقرئ بعضنا بعضاً، قال: اقرءوا ولا تلحنوا.
فلقد كانت سُنّة ماضية ونحن على إثرها سائرون، حلق ومدارسة، وحفظ ومذاكرة، فما أجلّها من متابعة، وما أعظمها من موافقة.
وفي حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم قالت: (أسر إليَّ النبي عليه الصلاة والسلام: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا قد حضر أجلي).
ونعلم أيضاً قصة ابن مسعود رضي الله عنه لما طلب النبي عليه الصلاة والسلام منه أن يقرأ عليه القرآن، فقال ابن مسعود متعجباًً: (أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: نعم، فإني أحب أن أسمعه من غيري)، فلا تستكثرن ذلك ولا تأنفن منه، ولا يكونن أحد ممتنعاً أن يسمع القرآن ممن هو أدنى منه، فلقد طلب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه (فقرأ عليه من أول النساء حتى بلغ قوله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] قال: حسبك! حسبك! قال ابن مسعود : فالتفتُّ إليه فإذا عيناه -صلى الله عليه وسلم- تذرفان بالدموع).
وفي حديث أنس المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بن كعب : (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)، فانظر -رعاك الله- هذه المتابعة الشريفة، والقدر العظيم، فإن الوحي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ على أبي رضي الله عنه القرآن، قال أبي : (آلله سماني لك؟! قال: نعم، قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟! قال: نعم، فذرفت عيناه) وحُقّ له أن يبكي رضي الله عنه وأرضاه.
فاعلم يا حامل القرآن! ويا متعلم القرآن! ويا مدرس القرآن! أنك في هذه المتابعة تنال أعلى أوسمة الشرف، فإذا سار الناس شرقاً وغرباً فأنت تسير في إثر محمد صلى الله عليه وسلم، وتعمل عمل أصحابه، وتجلس مجالس الصالحين والعابدين والمتقين لله رب العالمين.
حامل القرآن مقدم على غيره في ميادين الشرف والرفعة
حامل القرآن مقدم في أعظم الأمور وأشرفها، حسبك بعد التوحيد الركن الثاني من أركان الإسلام: الصلاة التي يجتمع لها المسلمون في كل يوم خمس مرات، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل)، فهذه الصلاة التي هي أعظم العبادات وأعظم الأركان -بعد الشهادتين-، وأكثرها تكرراً، وقد جاء عن الصحابة والسلف أنهم لم يكونوا يرون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فهذه الصلاة التي تعلم منزلتها وعظمتها أنت المقدم فيها، والمنتدب للإمامة فيها.
ومن ذلك: أن شهداء أحد لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يدفن منهم الاثنين والثلاثة في القبر الواحد كان يسأل إذا أراد أن يجمع بينهم عن أكثرهم حفظاً للقرآن فيقدمه في الدفن، فحتى بعد موتك أنت مقدم يا حامل القرآن.
وفي صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه سأل عامله على أهل مكة، فقال: من خلفت على أهل مكة؟ قال: ابن أبزى ، قال: ومن ابن أبزى ؟ قال: رجل من الموالي، فقال عمر -كالمتعجب أو المستنكر-: استخلفت عليهم مولى؟! فقال: إنه قارئ لكتاب الله، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم قال: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين)، وهذا لا شك أنه من الأمور العظيمة، حتى كان الصحابة يقول أحدهم: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في أعيننا.
ولقد كان المستشارون في مجلس الخليفة الأعظم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عِلْية القوم وجِلّة الصحابة من قدماء المهاجرين والأنصار، وكان يحضر في هذا المجلس حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه وهو غلام صغير السن، ما أُدخِل في مثل هذا المجلس إلا أنه كان عالماً بكتاب الله عز وجل، ونعلم قصة عمر رضي الله عنه لما سأل في مجلسه عن قول الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] ما تعلمون منها؟ قالوا: بشارة ساقها الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي القوم ابن عباس ، فسأل عمر هذا وهذا، ثم التفت إلى ابن عباس وقال: ما عندك فيها يا ترجمان القرآن؟ فيقول: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه، فيقول عمر : والله ما أعلم منها إلا ما ذكرت يا ابن عباس ، وكان بعض الأنصار يقولون لـعمر : ما لك تدخل بيننا هذا الغلام وفي أبنائنا من هو أسنّ منه؟ فسأله عمر بينهم عن كتاب الله عز وجل ليظهر علمه، ويجلو علو كعبه في مقاله وعلمه بكتاب الله، فيرى حينئذ أين وكيف يكون التقدم والشرف وعلو المنزلة.
حامل القرآن طيب المظهر والجوهر
حامل القرآن طيب يشع منه القول الطيب، والسلوك الطيب، والسمت الطيب، بل والرائحة الطيبة، ففي سنن الترمذي بسند حسّنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تعلموا القرآن فاقرءوه، فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ وأقام به كمثل جراب محشو مسكاً تفوح رائحته على كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكئ على مسك).
فأنت في يقظتك وفي منامك يفوح منك الطيب ظاهراًُ وباطناً، قد طيبت باطنك وطهرت قلبك ونقيت نفسك بهذا الكلام الطاهر الشريف كلام رب العالمين.
وفي صحيح البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو)، فعلى كل حال ما دام القرآن بين جنبيك فأنت طيب ظاهراً وباطناً.
حامل القرآن قائم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم
أنت قائم بالوصية العظمى التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ما خلف درهماً ولا ديناراً، ولا أوصى بأرض ولا ضياعٍ، وإنما كما ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قيل له: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، فقيل: كيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ فقال ابن أبي أوفى : أوصى بكتاب الله عز وجل. فهذه وصية النبي لأمته، فأنت آخذ بهذه الوصية، قائم ببعض الواجب فيها، فاعلم أنك في هذا الميدان على قدر ومنزلة شريفة.
حامل القرآن متصل بأسباب السماء
عندما تقرأ القرآن وترتبط به فإنك تربط أسباب الأرض بالسماء، فإن هذا القرآن قد أنزل من فوق سبع سماوات، وأنزل لتحيا به القلوب، وأنزل لينير ظلمات هذه الأرض، ويشع فيها النور بهدي الله عز وجل، فإذا قرأت القرآن فإنك تستنزل الأسباب، وتكون ذا صلة بالسماوات، وهي صلة حسية لا معنوية، فقد ورد في حديث أسيد بن حضير أنه كان يقرأ سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس -أي: تحركت واضطربت- فسكت فسكنت، فقرأ مرة أخرى فجالت الفرس، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها -أي: نائماً- فأشفق أن تصيبه الفرس، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها -أي: ما يرى هذه الظلة التي رآها في أول أمره- فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: (اقرأ يا
وفي حديث مشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، ولا شك أن هذه صلة عظمى، ومنزلة عالية.
حامل القرآن حاصل على الأنوار الربانية التي تضيء قلبه وطريقه
فإن هذه منزلة عظيمة ينبغي أن تحرص عليها، وأن تذكرها، وأن تعرف قدرها، فإن هذا النور الرباني يضيء قلبك ويضيء طريقك، والله عز وجل قد قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52] فهذا النور بين جنبيك يضيء طريقك، فاعلم أنك في هذه المنزلة على رفعة وقدر سامٍ شريف، فهو أمر عظيم، وقد قال ابن سابق -كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب فضائل القرآن-: إن البيوت التي يقرأ فيها القرآن لتضيء لأهل السماء كما تضيء السماء لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ليضيق على أهله، وتحضره الشياطين، وتنفر منه الملائكة، وإن أصفر البيوت -أي: أشدها إفلاساً- لبيتٌ صِفْر من كتاب الله عز وجل.
فلا شك أن هذه أيضاً منزلة عظيمة ينبغي أن تحرص عليها.
حامل القرآن حائز على الحصانة الإلهية
أنت محفوظ بهذا القرآن بحفظ الله عز وجل، حسبنا أن نعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفر له).
وفي الحفظ أيضاً حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاًً في الآيات الأخيرة من سورة البقرة، وفي ذكر العصمة من الدجال في قراءة عشر آيات من الكهف، وأحاديث كثيرة يأتي ذكر بعضها لاحقاً.
انتساب حامل القرآن إلى الله عز وجل
عندما تكون في صلة مع كتاب الله عز وجل فإنما أنت في هذا الميدان العظيم منتسب إلى الله، ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)،فأنت منتسب إلى الله عز وجل، وأعظِمْ بها من نسبة وشرف.
يقول الناظم:
وبعد فالإنسان ليس يشرفُ إلا بما يحفظه ويعرفُ
لذاك كان حاملو القرآنِ أشراف الأمة أولي الإحسان
وإنهم في الناس أهل اللهِ وإن ربنا بهم يباهي
وقال في القرآن عنهم وكفى بأنه أورثهمُ ما اصطفى
فما أعظم هذه المنزلة العالية الرفيعة. قال ابن الجزري في النشر: (ولما تكفل الله بحفظه -أي: القرآن- خص به من شاء من بريته، وأورثه من اصطفاه من خليقته، كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
ثمرات تعلم القرآن وتعليمه في الدنيا والآخرة كثيرة ومنها:
أولاً: الخيرية الفائقة.
لقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي لا أظن أن أحداً لا يحفظه، ولكنه يحتاج إلى مزيد التأمل والتدبر والتفكر في مضمونه وفي دلالته، حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم خيرية الصالحين والعابدين من أمته مخصوصة بأهل القرآن، كما في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وفي لفظ آخر عند البخاري : (إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه).
واعلم أن المرتبط بالقرآن تعليماً وتعلماً هو في الرتبة العليا، والمنزلة الرفيعة في هذه الأمة التي شرفها الله عز وجل.
ثانياً: الشفاعة النافعة بإذن الله عز وجل.
نحن نعلم أن كل أحد في هذه الحياة الدنيا يلتمس أسباب النجاة، ويحرص على الفكاك من النار، والعتق من سخط الله سبحانه وتعالى، وإذا بالقرآن الذي يحرص عليه صاحبه، ويرتبط به، ويسعى دائماً إلى أن يكون عظيم الصلة به هو الذي يشفع لصاحبه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من ذلك ما ورد في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، قال معاوية أحد الرواة: بلغني أن البطلة هم السحرة، فهذا وعد منه عليه الصلاة والسلام أن القرآن يشفع لصاحبه.
وفي الأَثر أن المرء إذا انشق عنه قبره يلقاه القرآن في صورة إنسان، ويكون المرء قد شحب لونه من هول ذلك اليوم، فيطمئنه القرآن ويقول له: ألا تعرفني؟ فيقول: لا، فيقول: أنا الذي أظمأتك في الهواجر، أنا الذي أسهرتك في الليالي، ثم يشفع فيه فيشفع بإذن الله عز وجل.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما).
وقد ذكر ذلك علماء الإسلام مذكرين بعظيم المنزلة والشرف الذي يحوزه حافظ القرآن والعامل به، قال ابن الجزري رحمة الله عليه عن القرآن:
وهو في الأخرى شافع مشفعُ فيه وقوله عليه يسمع
يعطى به الملك مع الخلد إذا توّجه تاج الكرامة كذا
يقرا ويرقى درج الجنانِ وأبواه منه يكسيان
وقد ورد في ذلك أحاديث وآثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته.
ثالثاً: المعجزة العظيمة.
اعلم يا صاحب القرآن أن لديك أعظم معجزة في هذا الوجود، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن معجزته الكبرى الخالدة ما دامت السماوات والأرض هي هذا القرآن المعجز الذي يحيي القلوب، ويوقظ العقول، وينشط الضعيف الكسول، ويجمع الخير كله من أطرافه، فأنت عندما ترتبط به فإنك ترتبط بأعظم معجزة لله عز وجل في هذا الوجود، وكما ورد في مصنف ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من قرأ القرآن فكأنما أُدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه.
وفي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر -أي: أعطي معجزة تكون سبباً كافياً لإيمان البشر وإظهار صدق نبوة هذا النبي- وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، فأنت -إذاً- متصل بالوحي، وبالرسالة، وبالمعجزة الخالدة.
رابعاً: المنافسة الكبيرة.
فإذا تشاغل الناس بالصفق في الأسواق، وتنافسوا على ملذات الدنيا وشهواتها، وتسابقوا إلى الرفعة والجاه فيها، وتزاحموا على أبواب السلاطين؛ فأنت تنافس في أعظم الأمور وأشرفها، حتى إن أهل الفقه والإيمان ليرون أنك قد سبقتهم سبقاً عظيماً، وفقتهم فوقاً كبيراً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع صاحب القرآن مع صاحب المال المنفق في سبيل الله، وجعل عملهما من أعظم الأعمال التي يحرص كل أحد على المنافسة فيها، والمسابقة إليها، والمواظبة عليها قدر استطاعته.
ففي البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل والنهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار).
فإذا تنافس المتنافسون في الدنيا، فأنت في أعظم منافسة، وإذا تسابق المتسابقون لها فأنت في أعظم ميدان، فاعرف لحامل القرآن قدره ومنزلته.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2907 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2730 استماع |
فاطمة الزهراء | 2694 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2627 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2541 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2533 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2533 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2486 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2467 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2451 استماع |