بدر والعشر


الحلقة مفرغة

الحمد لله جعل في رمضان خلة الصبر، وجعله مخصوصاً بمعارك العز والنصر، وخصه بليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر وسلاماً حتى مطلع الفجر، ووعد فيها بمحو الوزر ومضاعفة الأجر، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، أحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المجتبى، والرسول المصطفى، علم التقى ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

فحديثنا عن بدر والعشر وواقع العصر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل لنا في تشريعاته وفيما قضى وقدر فيما سلف من الأيام والتواريخ عبراً وعظات ينتفع بها العبد.

فبدر حدث عظيم وفي تاريخ الإسلام، يوم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والحديث فيها يطول، غير أنّا نقف وقفات نستلُّها من بين تلك الأحداث، ونربطها بما نرومه ونتطلع إليه ونقبل عليه في العشر المرتقبة في ختام هذا الشهر، ونصل ذلك كله بواقع أمتنا ومسلك حياتنا، وما هي أحوالنا في كل ما نتصل به من أمر ربنا وفرائضه، وما نتصل به من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه، وقفة مع الفداء بلا امتنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تكلموا بألسنتهم، وعقدوا العزائم في قلوبهم، وصدقوا ذلك بأفعالهم، ومزجوه بدمائهم، وسطروه في تاريخهم، يوم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عندما تعين القتال بعد إذ لم يكن، حين تحولت المسألة من ثروة إلى ذات شوكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فتكلم أبو بكر فأحسن، وتكلم عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال مقالته الشهيرة: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، فوالله ما نقول لك ما قالت بنوا إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد فجالدت بنا لسرنا معك حتى تبلغه. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فقام سعد بن معاذ سيد الأنصار فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال سعد يعبر بلسان الإيمان وبكلام اليقين وبموقف الثبات وبرؤية ما وراء هذه الحياة: آمنا بك وصدقناك، وشهدنا على أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة. ثم قال: صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت منا أحب إلينا مما تركت لنا، وما أمرتنا بأمر إلا ونحن تبع لأمرك، فامض بنا -يا رسول الله- لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فانفر على بركة الله.

هذه ومضة مهمة ونحن نقبل على عشرنا، فماذا نفعل في ميدان من ميادين الخير مع تفاوتها؟ علينا أن نعمل لعل الله أن يرى منا ومن طاعتنا وعبادتنا وذكرنا ما يحبه ويرضاه، ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم منا من بعد ما نحن سائرون في أثره ومقتفون له في هذه العشر من قيام أو اعتكاف أو عبادة أو غير ذلك.

(لعل الله يريك منا ما تقر بها عينك) هذه التضحية قالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في ميدان الجهاد والسيوف تبرق، وعلائم الموت تخفق، والصفوف على وشك أن تلتحم، عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مواجهة جيش عدته ثلاثة أضعافهم، فما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا وما استكانوا، وما تراجعوا وما ترددوا، ولكن أقدموا وعزموا وجزموا، وأعلنوا الفداء والتضحية بلا منة، بل المنة ذكروها لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل من شئت، واقطع من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت لنا) وصدقوا ذلك، فكم نحن في حاجة إلى أن نصدق الله عز وجل في كل ميادين التضحية، ليس في مجرد أذكار نذكرها، ولا ليال بالقيام نعمرها، ولا مجرد خلوة لله عز وجل وعليه نقصرها، وكل ذلك خير، غير أن البذل والفداء والتضحية في سبيل الله وفي سبيل نصرة دين الله وفي سبيل الذود عن عباد الله المؤمنين أمر له في الإسلام مقام رفيع ومكان سام ومنزلة عظيمة، فينبغي أن لا نقتصر في المنازل والمراتب في السير إلى الله وابتغاء رضاه على مجرد الأذكار والصلوات والعبادات والدعوات، فهذه ميادين وتلك ميادين، هذا يستمد من هذا وهذا يؤيد هذا، دون أن نقتصر على صورة محدودة ننفصل بها عن ديننا وننقطع بها عن أمتنا، ولا يكون في همنا ولا في فكرنا ولا فيما يشغل بالنا مصير أمتنا ومواجهتها لأعدائها وحاجتها إلى النصرة والفداء والبذل دون منِّ أو استكثار، كما رأينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خطوة أخرى: سباق نحو الجنان.

ألسنا نريد ذلك في عشرنا التي نرتقبها؟! ألسنا نريدها في كل أعمال الطاعات والعبادات؟! ارقبها وانظر إليها في صور وضيئة مشرقة نادرة عزيزة المثال في حياة البشر، انظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه وهو يتحدث عن غزوة بدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) وليس القيام هنا إلى تلك الجنة بقيام ليل ولا بتلاوة قرآن، ولكن بمجاهدة عدوٍ وإعزاز دين ورفع رايةٍ، (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فسمع عمير بن الحمام فقال: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض -يستوثق ويتأكد-؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال عمير: بخ بخ. فقال له المصطفى عليه الصلاة والسلام: ما يحملك على ما قلت؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: فأنت من أهلها. فأخرج تمرات يأكلها، ثم قال: ما أطولها من حياة حتى أتمها. فرمى بتمراته وانطلق يغمس نفسه في العدو حتى قضى شهيداً إلى الله عز وجل) إنها أقوال تترجم إلى أعمال، إنها أخبار يراها المؤمنون رأي العين، ليس مجرد تصوير، بل كأنما لمسوها وكأنما عاينوها، كما قال أنس بن النضر في يوم أحد: (وآه لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد).

ترجمت تلك المعاني إلى سباق حقيقي إلى الجنان ببذل المهج والنفوس والأرواح، لا بمجرد الاقتصار على جزء من الطاعات والعبادات دون غيرها.

وتأمل وتدبر في حادثة أخرى لعلها أقل شهرة، وربما لا يعرفها كثير من الناس، ذكر ابن حجر في الإصابة عن ابن شهاب في مغازيه أن خيثمة وابنه سعد أنهما استهما في يوم بدر للخروج -كان لا بد من أن يخرج أحدهما ويبقى الآخر؛ لأن لهما من شئونهما ومن واجبهما تجاه أهلهما ما يحتاج إلى بقاء أحدهما- فاستهما قرعة، فجاء السهم لـسعد الابن، فأراد أن يخرج، فقال له أبوه: ألا تؤثرني بذلك يا سعد ؟! فرد سعد بكلام فيه التوقير والإجلال والاحترام: لو كان غير الجنة يا أبي. فمضى سعد واستشهد في بدر، ومضى من بعده خيثمة في أحد ومضى شهيداً). فاته بدر فلم تفته أحد.

فهل رأينا صورة أروع من هذه الصورة تصديقاً للإيمان وبرهاناً على اليقين ونصرة للدين؟! لم يكن أحدهما يتأخر والآخر يتقدم، بل كانا يتسابقان، فلم يجدا إلا قرعة تفصل بينهما، فلما خرجت القرعة للابن أراد الأب أن يستغل مكانه ومقامه وقدره واحترامه فقال: آثرني بها يا سعد ! ولو كان الأمر في ميدان آخر لتأخر الابن وقدم أباه، لكنه قال: لو غير الجنة يا أبي لآثرتك بها. أي أن هذا ميدان لم يعد فيه مجال لإيثار، وأي ميدان هذا؟ إنه ليس ميدان صف الأقدام في القيام، ولكنه ميدان قعقعة السيوف وضرب السهام، ميدان إزهاق الأرواح وإفضائها إلى ربها ومولاها سبحانه وتعالى، فكم نحن في حاجة ونحن نستبق إلى مرضاة الله ونطلب جنانه في عشرنا الأواخر إلى أن ندرك أن دورنا جميعاً ودور أمتنا أن ترفع راية الجهاد في سبيل الله والذود عن دين الله، وأن تكون جبهة واحدة في وجه أعداء الله عز وجل، ليس مجرد تلك العبادات وحدها، فإن من هذه العبادات ما نعلم أنه ذروة سنام الإسلام، ألا وهو الجهاد في سبيل الله.

ننظر إلى مواقف أخرى لنرى مرة ثانية وثالثة كيف تكون الموازنات كاملة في دين الإسلام في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وهديه، صلة بها مدد الرحمن، ألسنا اليوم نرفع أكفنا؟! ألسنا اليوم نسجد بجباهنا؟! ألسنا اليوم نلهج بألسنتنا في دعائنا؟! أي شيء نريد؟! إنما نريد التعرض لرحمة الله، إنما نستمد العون من الله، إنما نطلب مغفرة الله عز وجل، وينبغي أن نوقن أن صلتنا بالله عز وجل هي نور طريقنا، وهي مفتاح مغاليق أمورنا، وهي -بإذن الله عز وجل- عوننا في مواجهة خطوبنا وتيسير أمورنا إن شاء الله تعالى.

في يوم بدر يوم تعين القتال بعد أن كان أمر الغنيمة وأمر الثروة السهلة التجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ومولاه ورفع يديه يدعو الله سبحانه وتعالى: (اللهم! أنجز لي ما وعدتني، اللهم! نصرك الذي وعدتني. حتى قال له أبو بكر رضي الله عنه بعد أن رأى شدة إلحاحه: حسبك يا رسول الله! فإن الله منجز لك ما وعدك) فاستبشر النبي صلى الله عليه وسلم، وعين مصارع المشركين، فما أخطأ أحد الموضع الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما كانت القلوب كلها موصولة بالله عز وجل، وعندما كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم يمثلون الصفوة المختارة من أهل الإيمان تغيرت أحوال الكون، وتغيرت معطيات الحياة لأجل أولئك النفر الذين أمدهم الله سبحانه وتعالى بكل شيء: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11] أنزل عليهم النعاس في الوقت الذي كان قد خالط القلوب رهبة من هول ذلك الموقف ولقاء جيش هو ثلاثة أضعاف العدد، أفاض الله عليهم الأمان، وأنزل عليهم الأمطار تطهرهم، وتثبت أقدامهم، وتربط على قلوبهم، عجب! مطر هنا وليس هناك مطر في الجانب الآخر، إنها عناية إلهية، إنها أمداد ربانية يمكن أن تخص الواحد الفرد بذاته فضلاً عن الصفوة المختارة، فضلاً عن الأمة كلها إذا كانت مع ربها وعلى هدي رسولها صلى الله عليه وسلم، وهكذا رأينا إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9] تنزلت ملائكة السماء تقاتل مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وثبت في ذلك من الروايات والأحاديث كثير وكثير، وصدقته قبل ذلك وأثبتته الآيات، ثم كل الصور التي يمكن أن نتصورها قد وقعت من ذلك التأييد الرباني الذي كان مما ذكره الله عز وجل ومما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126] ونحن نطلب مدد الرحمن، ونرفع أيدينا نريد عزه ونصره وتأييده، فلا شك أن هذا المدد هو مبني على حسن تلك الصلة بالله عز وجل في سائر الميادين، وفي كل المجالات التي وردت فيها أوامر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لعلنا ندرك ذلك -أيضاً- في وقفة رابعة مهمة نربطها بواقع عصرنا لنرى صورة الأعداء في ذلك الزمان وهذا الزمان، لنرى أننا إذا نظرنا بعين البصيرة، وإذا قرأنا الأحداث بقلب المؤمن وجدنا فيها جلاء ووضوحاً لكل ما يمر بنا أو يقع حولنا في عصرنا هذا، كان مما ذكر أهل السير أن عاتكة بنت عبد المطلب قبل أن تكون المعركة وقبل أن يصل ذلك الرسول الذي أرسله أبو سفيان ليستنجد قريشاً ويستحثها لإنقاذ ثرواتها رأت رؤيا، ورأت في هذه الرؤيا مقتل عدد من الصناديد الذين كانوا من زعماء الكفر في قريش، وأن صخرة تفتت فما بقي دار إلا وصل إليها منها حجر.

ثم من بعد ذلك كانت رؤيا لـجهيم بن الصلت من بني هاشم قبيل المعركة، وكان فيها أن رجلاً أقبل فما زال يقول: قتل فلان وفلان وفلان. وسمى من سمى من صناديد قريش، ثم قال: فنظرت إليه فإذا به يطعن لبة بعيره ثم يكون من دمه ما أصاب كل أحد.

وهذا أبو جهل زعيم الكفر في بدر، ويمكن أن نصوره في عصرنا بألد الأعداء وأشرسهم ممن يناوئون دين الله عز وجل ويحاربون أهل الإسلام، تأمل فيما قال أبو جهل وهو ينكر هذا، وهو يستعظمه، وهو يتندر به في شأن عاتكة للعباس : ما كفانا منكم -بني عبد المطلب- حين تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم.

يستهزئ ويسخر، ثم قال عندما روجع في ذلك حتى يرجع عن هذا القتال وقد مضت قافلتهم وسلمت أموالهم وانقضى السبب الذي لأجله خرجوا قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً -وكانت بدراً موسماً يجتمع فيه العرب في بعض الأوقات- فنقيم عليها ثلاثاً فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ومقامنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا واثبتوا.

ويقول في موضع آخر سعى حكيم بن حزام إلى عتبة وقال له: قد نجت القافلة، وإنما نطلب محمداً بدم ابن الحضرمي، وإنه حليفك فتحمل عنه دمه. فقال: أفعل. اذهب بهذا إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل- وقل له. فقال أبو جهل في هذا الأمر ما قال.

ثم كذلك جاء موقف ثالث في أحداث السيرة يبين لنا صورة أخرى سنربط بها واقعنا هذا فعندما تعين القتال وأصر عليه أبو جهل وساق الناس إليه سوقاً وحشدهم إليه حشداً وثبتهم فيه رغماً عنهم استفتح أبو جهل كما ورد في الصحيح وظل يدعو الله عز وجل، وهذا من العجائب أن يكون كافراً بالله محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعادياً للدين الحق ثم يدعو فيقول: اللهم! أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة.

أي: من كان منا أقطع للرحم، ومن جاء بما لا نعرف وأساء إلينا فاجعل هلكته اليوم. وفي ذلك تنزلت الآيات: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ [الأنفال:19] فما الحكمة وما السر في دعاء أبي جهل هذا؟ إنه يريد أن يقول لمن معه: ليس محمد صلى الله عليه وسلم وحده متصلاً بالله، بل نحن كذلك موصولون بالله، ولأن كان محمد يستنجد ويستنصر بربه فنحن كذلك نستنجد ونستنصر بالله. يريد أن يجعل للمسألة بعداً دينياًًً ومفاضلة عقدية، كما يقول زعماء الكفر في عصرنا: إن الله أمره اليوم بأن يقاتل هنا أو هناك.

وهو لا يعلم أنه على ضلال كبير وكفر عظيم، بل هو رأس من رءوس الكفر، بل ربما رأسه الأكبر الذي تولى كبر حرب الإسلام والمسلمين، نسأل الله عز وجل أن يجازيه بما يستحق.

عندما نتأمل في هذا المعنى نضيف إليه -أيضاً- مقالة ووقفة أخرى مع أبي جهل تربطنا بواقعنا لنرى كيف كان الأمر، فعندما جاء خفاف بن إيماء الغفاري -وقيل: أبوه- ومر قريباً من مكة قبيل مسير الكفار إلى بدر وقد علم بالخبر، فأرسل إليهم جزائر -أي: بعض الجزور والإبل هدايا لهم- وقال: إن شئتم أن أمدكم بسلاح ورجال فعلت. فردوا له مع ابنه شاكرين له، وقالوا: وصلت الرحم، ولئن كنا نقاتل محمداً بالناس فإنا لمنتصرون، ولئن كنا نقاتل الله مع محمد كما يزعم فما لأحد بالله من طاقة.

لقد كان أبو جهل أعقل من كفار اليوم الذين تحدوا حتى الرب سبحانه وتعالى في مقالتهم وأفعالهم.

صحيح أنهم قالوا ذلك تهكماً وقالوه إنكاراً وجحوداً لما كان يقوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكنه في الوقت نفسه دلالة على شيء من التوازن الذي أراد به أبو جهل وغيره أن يسوقوا الناس إلى المواجهة والقتال بنوع من الحمية الجاهلية ونوع من الإسناد المعنوي العقدي الديني ليحشدوا الناس في مواجهة خاسرة، مواجهة الباطل مع الحق والشر مع الخير، والعاقبة للمتقين، ولتعلمن نبأه بعد حين، فقد وعد الله سبحانه وتعالى أن ينصر من نصروه، وأن يكون مع من آمنوا به، وأن ينجي الذين آمنوا بإذنه سبحانه وتعالى، فمن قدم العهد وصدق الوعد جاءه بإذن الله عز وجل نصر الله سبحانه وتعالى وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48] فغرهم الشيطان بحشدهم وبجمعهم وبقوتهم وبتزيينه لهم أنهم ينصرون، ثم تخلى عنهم فكانت الهزيمة ماحقة؛ لأن الصف الآخر كان مؤمناً، ولأن القلوب كانت بالله معلقة، ولأن النصر استمد من الله لا من قوة الأرض ولا من أسباب المادة ولا من كثرة العدد ولا من حسن الأسلحة بحال من الأحوال، وذلك فقه الإيمان الذي ينبغي أن نعرفه وأن نتقنه.

هذه بعض معالم من بدر تدلنا على أن المسألة ليست مجرد معركة، وليست مجرد وقفة في السيرة، بل هي خلاصة حقيقة الإيمان، وخلاصة مواقف المسلمين، وخلاصة المواجهة بين الحق والباطل، وفرقان ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما سمي يوم بدر بيوم الفرقان، ونحن اليوم نقبل على طاعة الله عز وجل، ونحن بعد ذلك سندخل في العشر، فنحن نقوي صلتنا بالله بالطاعة والعبادة لأجل أن نستمد بها مدده، ونحن نفعل ذلك مخالفة للكفرة الذين لا صلة لهم بالله عز وجل ولا يؤمنون بنصره ولا يثقون بالأمور الغيبية من وراء المحسوس والمادة.

وكل هذا في سباق إلى الجنان، وإلى طاعة الرحمن سبحانه وتعالى.

إذاً لنعلم أن الميادين كلها في دين الله عز وجل تنتظم هذه المعاني، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن بعضها وأن ننسى الحديث عنها، بل يجب علينا أن نذكر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه الدعاء إلى الفداء والتضحية ورفع راية الإسلام ومواجهة أعدائه وإعزاز دين الله سبحانه وتعالى كما كان ذلك في يوم بدر.

لندرك تلك المعاني الإيمانية، ولندرك النواحي الروحية، ولندرك آثار العبادات والطاعات، لكن مع ترجمتها إلى سلوكيات، وإلى منهج تغييري في الحياة تمثل ذلك الشمول الذي كان في سيرة وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.

إحياؤه صلى الله عليه وسلم ليالي العشر

روت عائشة رضي الله عنها (أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر) وما كانت أم المؤمنين لتذكر هذه الكلمات لو كان هذا أمراً دائماً بوصفه وحاله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ذكرت قولاً له خصوصية في هذه العشر دون غيرها، فهي صور موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها هنا مميزة.

قال بعض أهل العلم في قولها: (أحيا ليله): أحيا ليله كله فلا ينام. وقال أكثر أهل العلم: المقصود ما غلب على الليل. فكان غالب ليله في هذه العشر قائماً ذاكراً عابداً.

وقولها (وأيقظ أهله) قالوا: كان يخص هذه العشر بتقصد الإيقاظ لإدراك الفضيلة العظمى وإدراك ليلة القدر وما فيها من عظيم الأجر.

قولها (وشد المئزر) قالوا: إنه كناية عن اعتزال النساء مع إباحة ذلك في ليالي رمضان؛ لأنها أيام وليالٍ خصها النبي صلى الله عليه وسلم بمزيد من الطاعة والعبادة، فهي مختلفة عن غيرها من أيامه ولياليه المملوءة بطاعة الله عز وجل وعبادته، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل في سفر ولا حضر منذ أن خوطب بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1- 2] لأن كل أمر في حقه يستمر ولا ينقطع، وكل سنة يبتدئها يداوم عليها ولا يتركها صلى الله عليه وسلم، فالأمر هنا فيه خصوصية زائدة، فلئن كنت تصلي بالليل فأنت تزيد التهجد، ولئن كنت تخرج وترتاح فأنت تقيم وتعتكف.

إذاً ثمة صور مختلفة، أيام غير تلك الأيام، وليال غير تلك الليالي، وأحوال غير تلك الأحوال التي نكون فيها في رمضان، فضلاً عما نكون فيه في غير رمضان.

اعتكافه صلى الله عليه وسلم وهديه فيه

روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلما كان العام الأخير اعتكف عشرين صلى الله عليه وسلم) والاعتكاف معروف، وهو سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل واعتكف نساؤه من بعده، واعتكف أصحابه رضوان الله عليهم، انقطعوا عن الدنيا لله سبحانه وتعالى، كما قال بعض أهل العلم في تعريف هذا الاعتكاف: إنه قطع العلائق بالخلائق والتفرغ للصلة بالخالق سبحانه وتعالى.

أيام نقتطعها من عامنا كله، عشرة أيام من ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً نجعلها لله عز وجل لنحقق هذه الصلة، ولنرجو الله عز وجل أن يفيض علينا من الخير وأن يحقق لنا ما وعد من الأجر، وليكون لنا ذلك زاداً لنصحح مسيرتنا في هذه الحياة وفق أمر الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال سفيان الثوري رحمه الله: أحب إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أن يجتهد المسلم في الطاعات.

أي أن يتهجد فيها، وأن يوقظ أهله إلى الصلاة؛ لأن ذلك أمر مؤكد خاص، فقد ورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت فيه عائشة صفته.

وكانت امرأة حبيب بن زيد تقول في مثل تلك الليالي: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين سارت قدامنا، وبقينا ونحن وحدنا.

ثم كان ذلك النداء الذي يحثنا ويحضنا على أن يكون حظنا من تلك الليالي مختلفاً عن غيرها:

يا نائم الليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعد

وخذ من الليل وأوقاته ورداً إذا ما هجع الرقد

من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يجهد

قل لذوي الألباب أهل التقى قنطرة العرض لكم موعد

وكانت عائشة رضي الله عنها تحرص على ذلك وتبينه، وتبين حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأن.

قال ابن رجب في فعل النبي صلى الله عليه وسلم واعتكافه والحكمة من هذه السنة: فيه قطع لأشغاله، وتفريغ لباله، وتخلَّ لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجر حصيراً فيتخلى فيه عن الناس، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم.

ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، حتى ولا تعليم علم أو إقراء قرآن؛ لأن الغرض هو أن ينفرد بنفسه لمناجاة ربه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يمن علينا في هذه العشر بالقيام بحقها وإدراك ليلة القدر ومحو الوزر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

روت عائشة رضي الله عنها (أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر) وما كانت أم المؤمنين لتذكر هذه الكلمات لو كان هذا أمراً دائماً بوصفه وحاله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ذكرت قولاً له خصوصية في هذه العشر دون غيرها، فهي صور موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها هنا مميزة.

قال بعض أهل العلم في قولها: (أحيا ليله): أحيا ليله كله فلا ينام. وقال أكثر أهل العلم: المقصود ما غلب على الليل. فكان غالب ليله في هذه العشر قائماً ذاكراً عابداً.

وقولها (وأيقظ أهله) قالوا: كان يخص هذه العشر بتقصد الإيقاظ لإدراك الفضيلة العظمى وإدراك ليلة القدر وما فيها من عظيم الأجر.

قولها (وشد المئزر) قالوا: إنه كناية عن اعتزال النساء مع إباحة ذلك في ليالي رمضان؛ لأنها أيام وليالٍ خصها النبي صلى الله عليه وسلم بمزيد من الطاعة والعبادة، فهي مختلفة عن غيرها من أيامه ولياليه المملوءة بطاعة الله عز وجل وعبادته، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل في سفر ولا حضر منذ أن خوطب بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1- 2] لأن كل أمر في حقه يستمر ولا ينقطع، وكل سنة يبتدئها يداوم عليها ولا يتركها صلى الله عليه وسلم، فالأمر هنا فيه خصوصية زائدة، فلئن كنت تصلي بالليل فأنت تزيد التهجد، ولئن كنت تخرج وترتاح فأنت تقيم وتعتكف.

إذاً ثمة صور مختلفة، أيام غير تلك الأيام، وليال غير تلك الليالي، وأحوال غير تلك الأحوال التي نكون فيها في رمضان، فضلاً عما نكون فيه في غير رمضان.